في كانون الأول الماضي، منعت السلطات الصينية عرض فيلم "لا عودة إلى الديار" No Way Home في الصين، على الرغم من أنه لا ينتهك معايير الرقابة الصينية المعهودة في حظر الأفلام التي ترى السلطات الصينية أنها تشكل تهديدا لها، فالفيلم لا تدور أحداثه لا في الصين، ولا يأتي على ذكر الصين على الإطلاق.
التوجس الصيني من هوليود ليس أمرا جديدا، فبعد سنتين من قيام جمهورية الصين الشعبية في عام 1949م، حظر الحزب الحاكم كل الأفلام المنتجة في هوليود وفي هونغ كونغ أيضا. كانت السينما مثلها مثل كل أشكال الفن الأخرى أداة دعائية بيد الحزب الحاكم، واقتصرت على الأفلام المنتجة في الصين والتي كانت متواضعة المستوى، وتخدم "أدلوجة" الحزب الحاكم، حيث تصور ولاء العمال والفلاحين للحزب الشيوعي، كل ذلك كان يتم عبر أسطول من عربات السينما يجوب أرجاء البلاد.
سيطرت السينما الممولة من الحكومة على صناعة السينما لمدة أربعة عقود تقريبا. في هذه العقود لم يعرض إلا فيلم أميركي واحد، هو ملح الأرض، وهو فيلم من إنتاج عام 1954م، وسبب عرضه أنه عد فيلما تقدميا، لأنه يصور حياة عمال المناجم في ولاية نيومكسيكو الأميركية، إذ تنهض قصة الفيلم على أحداث حقيقية جرت في منجم للزنك عام 1951م. ومما ساعد على قبول السلطات الصينية به أنه منع من العرض في الولايات المتحدة الأميركية في ذروة صعود المكارثية، فقد نظر إلى الفيلم على أنه دعاية لوجهة النظر الشيوعية، ولا سيما أن الممثلين كانوا ذوي توجه يساري.
بدأ عرض أفلام هوليود في الصين مجددا في عام 1994م، بمعدل عشرة أفلام كل سنة. وضعت السلطات الصينية مجموعة من الشروط الرقابية، في مقدمتها ألا تخالف الأفلام السردية الصينية، وألا يؤدي عرضها إلى تشرب الجمهور الصيني بالقيم الأميركية، فالذهاب إلى السينما كان مرحبا به ما دام المشاهد يتلقى سلعة مجردة من أي رسالة سياسية تمس أدلوجة الدولة. أما ما كانت تحصل عليه الحكومة الصينية فهو تسعون بالمئة مما تجمعه هوليود من شباك التذاكر.
الصدام بين رؤيتين للفن لم يتأخر طويلا، ففي عام 1997م، أنتجت هوليود مجموعة أفلام تتعرض بالنقد للسردية التي يتبناها الحزب الشيوعي، وهي: "سبع سنوات في التيبت"، و"الركن الأحمر"، و"كوندون"، وهو ما دفع السلطات الصينية إلى حظر الشركات الثلاث التي أنتجت الأفلام السابقة من دخول السوق الصينية، على الرغم من أن هذه الأفلام لم تكن معدة للعرض أمام الجمهور الصيني، ولكن الحظر كان إجراء عقابيا، حاولت السلطات الصينية من خلاله أن تحذر شركات الإنتاج بأنها لن تسمح لأي شركة بالدخول إلى السوق الصينية في حال أنتجت أي فيلم فيه تجاوز لما يراه الحزب الشيوعي خطوطا حمرا.
وعلى الرغم من الوصول إلى تفاهم بين الشركات المنتجة لتلك الأفلام والحكومة الصينية، بحيث سمح على سبيل المثال لفيلم كوندون بالعرض في أميركا في رأس السنة فقط، الأمر الذي كبد الشركة المنتجة خسائر كبيرة، فإن السلطات الصينية لم تتوقف عند هذا، فقد شرعت الصحف الصينية في توجيه العديد من الانتقادات للأفلام الأميركية حتى تلك التي نالت إعجابا لدى الجمهور الصيني. كان على رأس هذه الانتقادات النظرة الاستعلائية الأميركية لشعوب العالم، والنمطية التي تظهر فيها تلك الشعوب في السينما الأميركية.
مع انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، تضاعف عدد الأفلام الهوليودية المسموح بعرضها إلى عشرين فيلما كل عام، ووصل عددها في عام 2012 إلى أربعة وثلاثين فيلما، حيث أصبح السوق الصيني هو السوق الثاني بعد الولايات المتحدة الأميركية، وبحلول عام 2020، احتل السوق الصيني المرتبة الأولى متجاوزا ما تجنيه هوليود من السوق الأميركي الذي تراجع إلى المرتبة الثانية. اتساع السوق الصيني عنى أن نجاح أي فيلم سيعتمد على الأرباح التي سيجنيها من هذا السوق ، وهو تحول دفع الشركات إلى إنتاج أفلام تتوافق مع السردية الصينية إلى حد بعيد، خشية حرمانها من العرض في الصين. ولا تعتمد هوليود في أرباحها على ما تجنيه من "شباك التذاكر " Box Office فأغلب الأرباح تأتي من العلامات التجارية التي تنتجها هوليود، والتي تصبح سلعا تباع على شكل ألعاب فيديو وملابس.. إلخ، والسوق الصيني هو أكبر سوق في العالم.
ازدياد أرباح هوليود من الأفلام المعروضة في الصين أجبر الشركات المنتجة على الخضوع للمعايير التي تفرضها السلطات الصينية، بمعنى ما فإن أهم مكان لصناعة الأفلام في العالم وقع تحت تأثير بروبوغاندا الحزب الشيوعي الصيني
وصل مستوى الرقابة الصينية على الأفلام إلى حد قيام بعض الشركات بتعديلات على نصوص الأفلام أو حذف مشاهد منها أو تعديلها لتتناسب مع معايير الرقابة الصينية، ففي عام 2015، تبين أن المسؤولين عن إنتاج الفيلم العلمي الكوميديpixels عدلوا بعض المشاهد بناء على افتراض أنها تشكل انتهاكا لمعايير الرقابة الصينية، فسيناريو الفيلم تضمن قيام كائنات غريبة بمهاجمة بعض المواقع العالمية المشهورة، كتاج محل ونصب واشنطن التذكاري وسور الصين. وهو أمر يمكن أن تفسره السلطات الصينية على أنه انتقاص من سيادتها.
ازدياد أرباح هوليود من الأفلام المعروضة في الصين أجبر الشركات المنتجة على الخضوع للمعايير التي تفرضها السلطات الصينية، بمعنى ما فإن أهم مكان لصناعة الأفلام في العالم وقع تحت تأثير بروبوغاندا الحزب الشيوعي الصيني بطريقة أو بأخرى. فالكثير من الرسائل كانت تعدل أو تؤطر لتناسب رؤية هذا الحزب وأدلوجته.
وكأي دولة شمولية، فقد منعت السلطات الصينية فيلم "شانغ شي وأسطورة الخواتم العشرة" Shang-Chi and the Legend of the Ten Rings ، الذي ظهر العام الماضي، والذي حقق نجاحا على المستوى العالمي، لأن الممثل الرئيس انتقد في وقت سابق السلطات الصينية. طبعا لن نذكر على سبيل المثال واحدة من أهم السرديات المفضلة في هوليود، وهي تحدي الفرد للسلطات الحكومية وانتصاره عليها، فمثل هذه الأفلام لا يمكن القبول بها في الصين، وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام حيال بعض السرديات المتكررة في هوليود، مثل معسكرات الاعتقال النازية، فقيام الصين بإنشاء معسكرات اعتقال للإيغور المسلمين قد يدفعها إلى حظر أي فيلم عن معسكرات الاعتقال النازية، لأنه قد يرسل إشارات إلى ما يواجهه الأيغور حاليا، وإلى التشابه بين النازية والشيوعية الصينية.
لم يتضمن فيلم "لا عودة إلى الديار" No Way Home أي انتقاد للسلطات الصينية كما أسلفنا، ولكن سبب منعه أن تمثال الحرية الأميركي أسهم بدور كبير في المشاهد الختامية من الفيلم، إذ يصور أميركا على أنها أمة قوية وعظيمة، وفخورة بنفسها. وهذا غير مقبول في السردية الصينية.
لا تقف الدول الشمولية عاجزة عن إنتاج فن سينمائي يتجاوز بروبوغندا النظام، ولكن خطرها في عالم معولم أن معاييرها تتحول إلى معايير عالمية، تهدم الفن وتحوله إلى نسخة مشوهة جوفاء، هو صورة عن خوائها وبؤسها.