لأن عملية تجميع المعلومات ومقاطعتها تعتبر من مرتكزات التحليل السياسي؛ تخلق الدعاية الموجهة بيئة مضللة تجعل كبار المحللين يقعون في شرك أخبارها ومعلوماتها المزيفة. لذلك، لا يكفي للمحلل السياسي أن يكون مستهلكا للمعلومات وحسب، بل يجب أن يكون علاوة على ذلك من أصحاب الخبرة بالدعاية السياسية، وعلى دراية بمصالح الأطراف، أو الطرف المقصود بالتحليل السياسي، وإلا وقع ضحية للتلاعب الإعلامي. وبالتالي، داعما لأهدافه وغايته من غير أن يدري.
لو جرب أغلب الذين مارسوا هذه المهنة. مهنة التحليل السياسي أن يراجعون تحليلاتهم وتنبؤاتهم لمسار الثورة السورية وتفاعلاتها الدولية والإقليمية خلال السنوات المنصرمة؛ سيكتشف أغلب هؤلاء أنهم كثيرا ما كانوا ضحايا التضليل الإعلامي والدعائي للنظام السوري، وعندها لا بد من الاعتراف بأن النظام السوري كان وما زال على درجة عالية من المهارة في التضليل والتأثير في خطاب معارضيه وتوجيهه الوجهة التي تخدم مصالحه ورغباته.
كان إطلاق الإشاعة وما زال سلاح السياسة والسياسيين السوريين يطلقونها بلا ذمة ولا مسؤولية وانتهى الأمر إلى أنهم جميعا مرتشون بعين الشعب، فهو سلاح ذو أكثر من حد من استخدمه قتل به
بينما كنت منهمكا بالبحث في المراجع التي تتحدث عن تاريخ حزب البعث لفت انتباهي بعض الأسطر التي احتواها كتاب "البعث" لسامي الجندي عندما قال: "كان إطلاق الإشاعة وما زال سلاح السياسة والسياسيين السوريين يطلقونها بلا ذمة ولا مسؤولية وانتهى الأمر إلى أنهم جميعا مرتشون بعين الشعب، فهو سلاح ذو أكثر من حد من استخدمه قتل به". ولكن هنا لا بد من الاعتراف بأن البعث بعد أن استولى على السلطة صار بإمكانه ذبح خصومه بهذا السلاح دون أن يصاب بمجرد جرح.
وتتجلى مهارة النظام في قمة إبداعاتها بتحكمه وتصديره للدعاية والإشاعات التي يظن معارضوه أنها موجهة ضده. فعلى سبيل المثال؛ يعتقد أغلب السوريين أن الحديث عن ثروات سوريا الوفيرة هي إدانة للنظام السوري وإثبات لمدى لصوصيته، بينما يستطيع المتأمل بسهولة أن يكتشف أن الانطباع الذي يتركه تصديق هذه الأكاذيب هو أن معارضي النظام السوري هم مجرد بيادق تحركها قوى خارجية طامعة بثروات البلد. وبإمكان هذا المتأمل أن يتأكد من صدق اكتشافه عندما يعلم أن هذه الادعاءات بضخامة الثروات السورية قد صدرت عن النظام ذاته.
أما الإشاعة الأكثر خطورة فتتمثل بالتصميم على اتهام النظام السوري بالعمالة لإسرائيل وتحالفه السري معها، وكأن التهمة المثبتة بأنه نظام معاد للإنسان والإنسانية لا تكفي، أو أنها لا قيمة لها في سلم القيم السورية. وتتجلى خطورة هذه الإشاعة عندما تكون مشفوعة بالإيمان المطلق بأن إسرائيل ومن خلفها يهود العالم يتحكمون بخيوط اللعبة السياسية على مستوى العالم كله. وهنا يمكن للمرء أن يتصور بسهولة حجم اليأس والإحباط الذي يمكن أن يخلفه الإيمان بهذا النوع من المقولات، وبإمكانه أن يتأكد في الوقت ذاته بأن هذه المقولة إن لم تكن من إنتاج المخابرات السورية فهي تنال رضاها على أسوأ تقدير.
من جهة أخرى؛ يستند بعض المحللين إلى معلومات يحصلون عليها من أصدقاء لهم في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام السوري، وهؤلاء (أصدقاء الداخل) هم أحد اثنين؛ أحدهما ناقل للمعلومة بعلم الاستخبارات ينقل ما يلقنونه مدعيا أنه خائن للنظام، وثانيهما شخص مضلل لا يفقه من أمره شيئا يردد ما يسمع، وهذا في غالبيته من نتاج العقل الجمعي الذي تتحكم السلطات بمعظم شطحاته وخيالاته. فكم مرة تناقلت الأفواه أنباء عن موت فلان أو انقلاب علان ثم تبين أن معظم ما تم تداوله استنادا إلى مصادر في الداخل كان مجرد إشاعة؟!
كل هذا وغيره يمكن أن يكون ضمن أجندات النظام، ولكن ضمن سياق أسلوبه بعدم الإفصاح عن نواياه الحقيقية؛ يصعب على المحلل أن يصدر حكما قاطعا بتفنيد هذا السلوك
مؤخرا؛ بينما العالم منشغل بحرب غزة؛ التفت النظام إلى بيئته الداخلية متخذا إجراءات متسارعة، وبشكل متلاحق فبتنا نسمع عن إقالة هنا وتنصيب هناك، وتجريد لبعض الأشخاص من سلطاتهم وملاحقة آخرين، وإصدار مراسيم وقوانين جديدة، والتفاخر ببعض النجاحات، أو ما يرغبون بتصويره بأنه نجاحات. وبناء عليه أكثر السوريون من التحليلات والتنبؤات، فتارة نتوقع أن إقالة فلان ستغضب إيران مثلا، وتارة نعتقد أنه بناء على أوامرها، والأمر ذاته ينسحب على الحليف الروسي في كثير من الأحيان.
في الواقع؛ لا أحد يعلم بالضبط ما الذي يرمي إليه النظام السوري، فكل الإجراءات التي يتخذها تصلح لأن تكون محاولة لترتيب البيت الداخلي واستجابة لمتطلبات المرحلة، وهي تصلح في الوقت ذاته لأن تكون تنفيذا لإملاءات خارجية مقابل وعد ما، وتصلح لأن تفسر بأنها محاولة للفت انتباه القوى الدولية والإيحاء لها بأنه يسير في طريق الإصلاح وحسن السلوك. كل هذا وغيره يمكن أن يكون ضمن أجندات النظام، ولكن ضمن سياق أسلوبه بعدم الإفصاح عن نواياه الحقيقية؛ يصعب على المحلل أن يصدر حكما قاطعا بتفنيد هذا السلوك.
إن ما يمكن تأكيده فقط؛ هو أن النظام السوري - من خلال طريقته في تصوير ما يحدث - يبحث عن إيصال السوريين إلى مستوى الإحباط التام. الإحباط الذي هو جوهر دعايته وإشاعاته منذ أن استبد بالحكم حتى يومنا هذا.