مع تزايد موجة التصريحات نحو التطبيع مع النظام السوري في الآونة الأخيرة من قبل المسؤولين الأتراك سواء من الحكومة أو المعارضة، لا يمكن وصفه إلا بالتسابق أو السباق الإعلامي على أقل تقدير بين الطرفين.
ولعله من المفهوم توجه المعارضة نحو ذلك التطبيع، فالأمر ليس وليد اليوم بل من سنوات عديدة كانت المعارضة قد اتخذت قرارها السياسي بفتح أبواب التواصل مع دمشق وأنها في حال فوزها بالانتخابات الرئاسية سوف ترحل السوريين إلى بلادهم، وكانت تستخدم هذه الورقة في الانتخابات.
بل إن خطابها السياسي نحو السوريين قد تطور بعد انتخاب رئيس جديد لحزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال، الذي شرح تفاصيل رؤية حزبه بخصوص السوريين العائدين إلى وطنهم تشمل حزمة مغرية لهم كالسماح للأطفال السوريين الذين ولدوا في تركيا من دخول البلاد دون تأشيرة، وأولوية المقاعد الدراسية لهم وتوفير السكن والإعفاءات الضريبية للسوريين القادمين للسياحة، وأن هناك حزما مغرية سيُكشف عنها لاحقاً.
سواء كانت المعارضة صادقة بهذا الكلام أم لا، إلا أنها عرضت خريطة طريق أو رؤية لها تجاه السوريين على عكس الحكومة التركية التي تطلق تصريحات نارية على لسان قمة الهرم السياسي، الرئيس رجب طيب أردوغان، تتجلى بأن عودة العلاقات مع دمشق فيها مصلحة كبيرة لتركيا وأن ترتيبات وخريطة طريق يقوم بها وزير الخارجية هاكان فيدان من خلال محادثاته مع نظرائه من أجل ذلك.
هذا التقارب الهدف منه إنهاء قسد حليف الولايات المتحدة الأميركية في سوريا، وهذا ما لا تريده في الوقت الحالي.
ورغم أن هذه التصريحات رنانة وفيها تعمد الإظهار الإعلامي لحسابات داخلية وخارجية، إلا أنها تفتقر لتفاصيل أو رؤية واضحة للسوريين المقيمين أو اللاجئين في تركيا.
العودة لن تكون بهذه البساطة أو السهولة ما لم يتم تجاوز عقبات عديدة، أولها الرفض الأميركي لأن واشنطن تعتبر أن عودة العلاقات بين أنقرة ودمشق هو تجاوز للخطوط الحمراء لأعضاء الناتو، بل إنه تجاوز للعقوبات الأميركية المفروضة على النظام السوري وعلى من يتعاون معه.
إضافة إلى ذلك، إن هذا التقارب الهدف منه إنهاء قسد حليف الولايات المتحدة الأميركية في سوريا، وهذا ما لا تريده في الوقت الحالي.
أما العقبة الثانية فهي إيران التي تعتبر أي تقارب بين النظام السوري وتركيا تهديداً لنفوذها في سوريا، وحصل ذلك مسبقاً عندما كانت العلاقات التركية السورية في أوجها.
علاوة على ذلك، أن المستجدات والمتغيرات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط لا تسمح لإيران بالتنازل أو التراجع ولو خطوة واحدة للوراء، خاصة بعد الحرب الإسرائيلية ضد حماس في غزة، إضافة إلى عدم رغبتها في خسارة وجود الميليشيات الموالية لها على الأرض السورية تنفيذاً لاستراتيجية النفوذ المتسلسل من العراق حتى لبنان. وهذا ما صرح به الرئيس أردوغان علناً عندما قال أن على أميركا وإيران دعم هذا التقارب لا رفضه.
العقبة الثالثة هي كيفية إقناع السوريين في الخارج بالعودة لوطنهم بعد كل هذه السنين، فالكثير منهم بنى حياته على وضعه القائم في بلاد الخارج.
علاوة على الحالة الاقتصادية المتردية في سوريا، ولو أضفنا إلى ذلك جيلاً كاملاً من السوريين الذين ولدوا أو كبروا في الخارج، هؤلاء ستكون سوريا بالنسبة لهم هي البلد الغريب. والعقبة الأخيرة هي إقناع السوريين المعارضين للنظام الموجودين أو المرحلين إلى الشمال، فأعداد هؤلاء ليست بالقليلة.
تشابك المصالح المتضاربة بين الدول المتداخلة على الأراضي السورية جعلت يد النظام هي العليا في الآونة الأخيرة وربما سياسة الصمت كانت أنجى من الكلام في الفترة الماضية.
دمشق (النظام) التي ترى كل هذه العقبات ليست في عجلة من أمرها، خاصة بعد أن رأت الهرولة الأخيرة من قبل المسؤولين الأتراك نحوها، فهي تعلم أن الهاجس الأول والأكبر لتركيا هو قضية اللاجئين السوريين لديها. أما النظام فهو غير مستعد لعودة كل هؤلاء اللاجئين الموجودين في تركيا وغيرها من الدول، فلا القدرات الاقتصادية تسمح ولا حتى الأمنية، وكما يُقال في المثل الشعبي "يا شايل الهم من قلب صاحبه". لأنه في حال فُتح باب عودة اللاجئين السوريين من تركيا، فإنه سينعكس على كل البلاد الأخرى المطالبة بعودة اللاجئين. حتى الرد السوري على التصريحات التي أطلقها الرئيس أردوغان لم يأتِ من قبل مسؤولين سوريين في البداية، بل جاء عبر بيان أصدرته الخارجية السورية، وهذا يعطي دلالة واضحة على عدم الاستعجال من أجل رفع سقف المطالب قدر المستطاع عند لقاء المسؤولين.
وهذا ما أكده رئيس النظام السوري بتصريحه بأن اللقاء مع الرئيس أردوغان ممكن إذا كان يحقق نتائج مفيدة للبلدين، وهذا الكلام مرتبط بالشرطين الأساسيين اللذين وضعتهما دمشق قبلاً وهما الانسحاب من الأراضي السورية أو التعهد بذلك وتوقف تركيا عن دعم المعارضة السورية. فتشابك المصالح المتضاربة بين الدول المتداخلة على الأراضي السورية جعلت يد النظام هي العليا في الآونة الأخيرة وربما سياسة الصمت كانت أنجى من الكلام في الفترة الماضية، وهذه التصريحات ربما تؤكد ما تناولته بعض الوسائل الإعلامية من أن النظام السوري بدأت مصالحه تتضارب مع حلفائه نوعاً ما، خاصة بعد عودة العلاقات وتحسنها مع دول خليجية وعربية، مما تسبب في تضارب المصالح بين دمشق وطهران (حسب ما ذكرته بعض وسائل إعلامية). وهنا لا يمكن تغييب آثار الحرب الإسرائيلية في غزة على المشهد السوري لأن هناك من يعتقد أنه يجب إعادة تأهيل ودعم النظام السوري من أجل استقبال قيادات من الجيل الجديد لحماس وتهدئة المنطقة وإعادتها لما قبل عام 2011، حتى تتم المشاريع الاقتصادية التي كانت قد خططت لها واشنطن من قبل، وأن بقاء المنطقة هكذا دون استقرار أمني سيؤدي لمشكلات أمنية أخرى وما الساحة اللبنانية من هذا ببعيد.