icon
التغطية الحية

الاشتراكية القومية والديمقراطية (و) الليبرالية في السياق السوري/ العربي

2024.09.28 | 13:11 دمشق

آخر تحديث: 28.09.2024 | 13:11 دمشق

567565
+A
حجم الخط
-A

كان التيار الاشتراكي/ اليساري سائدًا، لدرجةٍ أو لأخرى، في العالم العربي، في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد ارتبطت هيمنة هذا التيار، وسمات الحياة السياسية والحزبية التي يتضمنها، ارتباطًا وثيقًا، بالمواجهة مع الاستعمار، ومع نتائج الاستعمار التي بقيت حاضرةً، حتى بعد رحيله (العسكري): هشاشة الكيان السياسي، وانتشارٌ هائلٌ للأميّة والفقر، وسيادة علاقات الاستغلال الاقتصادي/ الاجتماعي/ السياسي الناتجة عن وجودِ تفاوتٍ هائلٍ في القوة والثروة بين أقليةٍ تملك الأراضي والمعامل وأدوات الإنتاج والقدرة على الحصول على أفضل فرص التربية والرعاية الصحية، وأقليةٍ تكاد لا تملك شيئًا من ذلك؛ وضعف حضور الدولة وأنظمتها أو مؤسّساتها التربوية والصحية والقانونية. وفي السياق العربي (كانت) الأولوية تُعطى لقيمِ أو مفاهيم التحرير والتحرّر (من الاستغلال والجهل والتخلّف) على الحرية و(مشروعية) التعدّدية، والجماعة أو الأمة على الفرد والفردية، والمساواة على الاختلاف، والمواجهة مع الإمبريالية أو الاستعمار (الخارجي) على المواجهة مع الاستبداد ومسألة الديمقراطية.

وبامتزاجِ هذا التيار، في العالم العربي، مع التيار القومي، تعزّزت سماته المذكورة، وأصبح أكثر تركيزًا على الجماعة أو الأمّة، كما أصبح تيار دولةٍ أو أيديولوجيا دولتية، بمعنى أنه أصبح ينظِّر للمهام التي ينبغي للدولة القيام بها، عموديًّا في الداخل تجاه الشعب والمجتمع وأسس الدولة عمومًا، وأفقيًا تجاه الخارج وهيمنته أو العلاقة معه عمومًا. وفي خصوصِ الداخل، لم يكن حصول المواطنين على حرياتهم الفردية، السياسية خصوصًا، ولا ديمقراطية النظام السياسي، هو الهم أو الانهمام الأول أو الأكبر، لا للنخب، السياسية والفكرية، المتبنية لهذا الاتجاه، ولا للدولة والنظام السياسي الذي كان حاكمًا فيها. بل كان الاهتمام منصبًّا على تحرّر الشعب، أو بالأحرى تحريره، من "التخلّف" و"الجهل" وعلاقات الاستغلال والإهمال وما شابه. والحديث عن التحرير، وليس التحرّر، في هذا السياق، (كان) يهدف إلى إظهار أنّ ذلك الاتجاه (كان) يرى أنّ الشعب بحاجةٍ إلى من يحرّره، وأنّ الدولة، والنخبة السياسية والفكرية عمومًا، هي الجهة التي يمكن وينبغي لها الاضطلاع بتلك المهمة. فأفراد الشعب هم موضوع التحرير أو من يجب تحريرهم، وليسوا ذوات التحرير، أو من يمكن أن يقوموا بالتحرير أو التحرّر.

***

من الواضح وجود توّترٍ معرفيٍّ وسياسيٍّ بين النموذج الاشتراكي/ اليساري والنموذج الديمقراطي الليبرالي. وقد ظهر ذلك التوّتر تاريخيًّا، في القرن العشرين، في انقسامٍ بين يسارٍ مساواتيٍّ يعطي الأولوية للمجتمع والعدالة الاجتماعية، ويمينٍ ليبراليٍّ يعطي الأولوية للأفراد وحرياتهم (الفردية). لكن تشابك التوّجه الاشتراكي/ اليساري مع التوّجه القومي/ العروبي جعل توّتر علاقته مع النموذج الديمقراطي الليبرالي أكبر وأقوى، لأنّ كلا التوّجهين المذكورين يعطيان الأولوية للجماعة، أو الأمّة، وتحرّرها وقوتها على حساب الفرد وحرّياته وحقوقه. ولهذا، حتى حين كان مفهوم أو مصطلح "الديمقراطية" حاضرًا في التوّجهين المذكورين، فقد كان الحديث يدور حول "الديمقراطية الشعبية" وليس عن الديمقراطية الليبرالية. وبغضِّ النظر عن التنظيرات المقدّمة لتلك "الديمقراطية الشعبية" المزعومة التي تبنتها أنظمةٌ استبداديةٌ كثيرةٌ في العالم الشيوعي والعربي، يمكن القول إنّ تلك الديمقراطية لم تكن، عمليًّا، لا ديمقراطية، ولا شعبية. وعمومًا، لم يحظَ الأفراد في الدول التي حكمتها الأنظمة التي تتبنّى تلك "الديمقراطية الشعبية"، لا بالحريات الفردية، ولا بالعدالة الاجتماعية. وحتى المساواة التي حظي بها الأفراد المذكورون، فقد تجسّدت غالبًا، في المساواة في الفقر والتعرّض للظلم والقمع، أكثر من تجسّدها في المساواة الحقوقية والقانونية والمساواة الأخلاقية الإنسانية.

التوّتر التاريخي والواقعي بين النموذج الاشتراكي/ اليساري والنموذج الديمقراطي الليبرالي ليس مفاجئًا ولا عرضيًّا، لكن ذلك التوّتر لا يفضي بالضرورة إلى مثنويةٍ أو ثنائيةٍ تناحريةٍ بين الطرفين. وهذا ما أدركته، وسعت إلى تحقيقه، دول أو أحزابٌ كثيرةٌ تتبنى الديمقراطية الليبرالية الاجتماعية، وتحاول التوفيق بين قيمتي الحرية والعدالة الاجتماعية، بين حريات الأفراد والمصلحة الجماعية، بين الليبرالية والاشتراكية. وهذا الجدل الإيجابي بين الطرفين هو ما أراه ضروريًّا في كلّ ديمقراطيةٍ، وهو ما أتبناه معرفيًّا وسياسيًّا/ أيديولوجيًّا.

وفي العالمِ العربي، ومع الأخذِ في الحسبان وجود استثناءاتٍ، كنصوص ياسين الحافظ، على سبيل المثال، لا نجد أنّ كلمة الديمقراطية كانت سائدةً أو شائعةً في كتاباتِ معظم المفكرين في ستينيات القرن العشرين. ويمكن اتخاذ كتابات صادق جلال العظم نموذجًا معبّرًا ليس عن الاتجاه القومي الاشتراكي فحسب، بل، أيضًا، عن التحوّل الديمقراطي والليبرالي لدى (بعض متبني) هذا الاتجاه لاحقًا، حين حصل استدخالٌ للأفكار والقيم الديمقراطية والليبرالية وتبنٍ متزايدٍ لها. فعلى العكس من كتاباتِ العظم في الستينيات (والسبعينيات)، حيث كان التركيز على تقديم التنظير والدعم والتوجيه ﻟ "الثورة الاشتراكية"، وﻟ "حركة التحرر/ التحرير العربي"، ولكلِّ "القناعات الاشتراكية الثورية"، في العالم العربي، عمومًا، أصبح نموذج الديمقراطية الليبرالية هو السائد تدريجيًّا وعمومًا، منذ ثمانينيات القرن الماضي. وحتى الأحزاب والاتجاهات الاشتراكية أو اليسارية أصبحت تحتضن مفهوم الديمقراطية، وزاوجت بينه وبين مفاهيمها الاشتراكية. لكن ذلك التحوّل اقتصر "لدينا" غالبًا على أن يكون تحوّل أفرادٍ أو شخصياتٍ أكثر من كوّنه تحوّلًا سياسيًّا ومعرفيًّا لأحزابٍ أو تياراتٍ أيديولوجيةٍ.

***

في كلّ الأحوال، لم يكن هذا التحوّل كاملًا وشاملًا، لأسبابٍ كثيرةٍ، منها ظهور أو انتشار فكر ما بعد الاستعمار، الذي أصبح له حضورٌ أقوى، بعد الكتاب الرائد والتأسيسي لإدوارد سعيد (الاستشراق)، فتلقفه من أرادوا التركيز على ثنائية "نحن وهم"، و"الشرق الإسلامي والغرب العلماني/ المسيحي"، و"التابع أو الهامش والمركز"، و"المستعمَر والمستعمِر" ... إلخ. وكما هو واضحٌ، فهذه المثنويات تركِّز على ما هو جمعيٌّ أو جماعاتيٌّ أكثر (بكثير) من التركيز على ما هو فرديٌّ وليبراليٌّ. وحصل ذلك مع تبنِ كبيرٍ من أطرافٍ كثيرةٍ من اليسار العالمي المناهض للإمبريالية، لسياسةِ الهُويّات، فأصبح يُنظر إلى الناس أو الأفراد، عمومًا، من خلال نسبهم (امرأة/ رجل، أسود أو ملون/ أبيض)، وإلى شعوب العالم العربي، من خلال هُويّاتها، الإثنية، أو الدينية، أو الجنسية، أو المناطقية، ومن منظور كونهم ضحايا/ مجرمين أكثر من كونهم أفرادًا وجماعاتٍ مدنيةً، وشعبًا بالمعنى السياسي للكلمة. وانطلاقًا من ذلك، عزّز ذلك الاتجاه الليبرالي المتبني لسياسات الهُويّة الاتجاه الجماعاتي الجمعي الذي يتبناه الاتجاهان القومي واليساري/ الاشتراكي، أكثر مما أسهم في تشكيل قطبٍ مقابلٍ لهما، ويخفّف من غلوائهما، ويقيم معهما جدلًا إيجابيًّا وتكاملًا منتجًا.

والليبرالية ليبراليات، وبعضها يبدو في حالة توترٍ وتضادٍّ ليس مع الديمقراطية فحسب، وإنّما في حالةِ توّترٍ داخليٍّ أو تناقضٍ ذاتيّ أيضًا. فعدم ضبط الليبرالية الاقتصادية يمكن أن يحدّ كثيرًا من معنى الليبرالية السياسية، حيث ينحرم أفرادٌ كثيرون من الحرية بالمعنى الإيجابي، أو على الأقل لا يتمتعون إلا بدرجاتٍ ضئيلةٍ جدًّا منها عمومًا، في حين ينحصر أو يقتصر التمتّع الكامل بتلك الحرية، وبما تعنيه من قوةٍ وقدرةٍ ونفوذٍ، على قلّةٍ قليلةٍ، حيث يُصبح ويُمسي النظام السياسي أوليغارشيًّا، بقدر كونه ديمقراطيًّا، وربّما أكثر، كما أنّ التناول الليبرالي لمسائل الحريات الاجتماعية/ الجندرية أو الجنسية، يزيد من حدّة التوّتر بين الليبرالية والديمقراطية. لهذه الأسباب ولغيرها، أعتقد أنّ الحديث عن ليبرالية الديمقراطية ينبغي أن يتركز، أساسًا وبالدرجة الأولى، على الليبرالية السياسية، وليس على الليبراليتين الاقتصادية والاجتماعية/ الجندرية أو الجنسية، إلا بمقدار صلتهما المباشرة بالليبرالية السياسية. وهذا ما ينبغي حصوله في عالمنا العربي المعاصر. وتشكل الليبرالية السياسية أساسًا ضروريًّا ومفيدًا لتناول الليبراليتين الاقتصادية والاجتماعية/ الجندرية أو الجنسية. أمّا اشتراط تحقّق التحرّر/ التحرير الاقتصادي والاجتماعي/ الجندري أو الجنسي أو الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية/ الجندرية أو الجنسي، من منظورٍ يساريٍّ اشتراكيٍّ أو ليبراليٍّ فردانيٍّ، لتحقّق الليبرالية السياسية، فهذا الاشتراط يشكّل عقبةً، ليس أمام الليبرالية السياسية فقط، بل أمام الليبراليتين الاقتصادية والاجتماعية/ الجندرية أو الجنسية، أيضًا.