"لستُ ممن يتلطَّون خلف التعريفات لكي يبرروا الإرهاب، وأنا أتفق مع معظم سكان الكرة الأرضية، على أن القتل العمد للمدنيين في الحرب أو الصراع السياسي هو فعل إرهاب. أستطيع بالحس البسيط الذي أمتلكه، وبلا أية إضافات نظرية أو حقوقية، أن أميّز في كل حالةٍ على حدة، ودون تعمیم، الإرهاب عن المقاومة، أياً كان الفاعل ومهما كانت درجة اقترابه أو ابتعاده عن إحداثياتي السياسية والوطنية حتى". جاء هذا الاقتباس ضمن مادة صحفية لي، نُشرت صيف عام 2006 في موقع الحوار المتمدن بعنوان "إن لم تستحِ فقلها: محمد الدرة إرهابي"، وكانت بمناسبة أن برنامجاً تلفزيونياً، عُرض على شاشة عربية، وصف الطفل الفلسطيني الشهيد بأنه إرهابي!
يوم الرابع من تشرين أول/أكتوبر عام 1964 ليلاً، كان هناك ثلاثة من الطلبة الجامعيين في برلين الغربية يحرسون باب "النفق 57"، ويسهلون مرور الفارين من منطقة شرقي برلين إلى الغرب. فجأة انكشف الأمر وحدث تبادل لإطلاق النار بين حرس الحدود لألمانيا الشرقية ومجموعة الطلاب المسلحين بمسدسات. سقط جراءه الرقيب في الحرس "إيغون شولتس" الشاب الوسيم الذي يبلغ من العمر واحدا وعشرين عاماً.
من غير المنصف المتابعة قبل أن أخبركم بإيجاز عن "النفق 57"، ولو من باب الحق في إرواء الفضول. دُعي النفق بهذا الاسم لهروب 57 شخصاً عبره. وكانت العملية تلك من أنجح عمليات الفرار عبر الأنفاق بين الألمانيتين، من ضمن مئات المحاولات الفاشلة. خمس وثلاثون طالباً جامعياً من برلين الغربية، بدؤوا بتنفيذ تلك الفكرة المجنونة. اختاروا مخبزاً مهجوراً غربي الجدار وتناوبوا ضمن مجموعات على الحفر ليلاً نهاراً لعدة شهور. حتى وصلوا إلى بناء مهجور أيضاً شرقي الجدار.
كان يواكيم نيومان من بين هؤلاء الطلاب. هرب من الشرق، ولكنه ترك صديقته كريستا غروهلي، زوجته بعد نجاتها، في برلين الشرقية. وكان من بينهم الأخوان سبرينغر حيث يحاولان إنقاذ أخيهما الأصغر أندرياس. ويمكن التأكيد أن كل الطلاب المشاركين كانت لهم ظروف مشابهة، ويحتاجون النفق لتهريب أشخاص يخصونهم. في يوم الهروب حُددت لحظة الصفر، وأرسلت كلمة السر إلى الصديقات والإخوة والآباء والأبناء وحتى لأبناء العمومة والأصدقاء ممن كانوا مستعدين للهرب..
إلى فتحة النفق في المبنى رقم 55 في برلين الشرقية انتقل ثلاثة من الطلبة ليقوموا بالتعرف على الفارين ومساعدتهم على دخول الفتحة. كان من بين هؤلاء يواكيم الذي لم يتسنى له سوى ضمة صغيرة مع خطيبته كريستا قبل أن يدفعها إلى النفق. وكان برفقة يواكيم اثنان آخران هما رينهارد فورر (رائد الفضاء الألماني المستقبلي)، وسيئ الحظ كريستيان زوبيل، الذي أطلق النار على رقيب حرس الحدود، قبل أن يهرب مع زملائه إلى الجانب الغربي، ويباشروا فوراً بردم فتحة النفق ورمي أكياس الرمل فيها، بعد أن أنقذوا سبعة وخمسين شاباً وامرأة وطفلاً.
خلال عدة شهور تمت تسمية أكثر من مئة جمعية ومدرسة ومؤسسة، إضافة إلى فندق سياحي في حديقة حيوان برلين ومعسكرات عديدة باسم "شهيد البلاد البطل"
في اليوم التالي بدأت الدعاية الألمانية الشرقية عملها. كانت جنازة شولتس عسكرية رسمية وشعبية، انطلقت من برلين لتمضي إلى "روستوك" مسقط رأسه. بأوامر حكومية خرج عشرات آلاف العمال واصطفوا في الشوارع لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة. في يوم الجنازة تم تغيير اسم المدرسة الثانوية التي درس فيها لتصبح "مدرسة إيغون شولتس". وخلال عدة شهور تمت تسمية أكثر من مئة جمعية ومدرسة ومؤسسة، إضافة إلى فندق سياحي في حديقة حيوان برلين ومعسكرات عديدة باسم "شهيد البلاد البطل" الذي قتله عملاء الغرب. تم نشر كتاب بطبعات شعبية للأطفال عنه، وكان كل مواطن ألماني شرقي يعرف اسمه من المدرسة أو من وسائل الإعلام.
بدأت التحقيقات في شرق وغرب برلين ضد ميسري الهروب الثلاثة. اعترف المتهمون لمحققي برلين الغربية بأن أحدهم أطلق النار بالفعل، لكنهم يعتقدون أنه أصابه في الكتف، وأن هناك طلقة أخرى من رفاقه ربما تكون هي من قتلته. رفض مكتب المدعي العام في برلين الشرقية التعاون مع طلبات التحقيق من برلين الغربية، وطالب بدلاً من ذلك بتسليم كريستيان زوبيل، المشتبه به في جريمة القتل.
الحقيقة، أن سلطات التحقيق في ألمانيا الشرقية سرعان ما اكتشفت أن شولتز قد أصيب بنيران صديقة عن طريق الخطأ على يد أحد رفاقه، وأن الرصاصة القاتلة جاءت من بندقية كلاشينكوف، وليس من مسدس زوبيل. ستظل نتائج هذا التحقيق، بما في ذلك اختفاء ملفات التشريح من مستشفى شاريتيه، سرية للغاية حتى أكتوبر 1990، عندما تم تسليم الملفات إلى القضاء الفيدرالي الألماني. أما المدعي العام في برلين الغربية فقد أغلق القضية ضد ميسري الهروب، بعد أن فرض عليهم غرامة لحيازة سلاح بشكل غير قانوني.
في كانون أول/ديسمبر 1964، بالقرب من معبر نقطة تفتيش تشارلي الحدودي، طارت بالونات فوق الجدار باتجاه الجزء الشرقي من المدينة. تم إرفاق كل بالون برسالة مفتوحة إلى فريدا شولتس، والدة إيغون. كتب الرسالة ميسرو الهروب الذين حفروا النفق يؤكدون فيها لتلك الأم أنهم لم يقتلوا ابنها. طبعاً الصحافة وعموم وسائل الإعلام في جمهورية ألمانيا الديمقراطية عتّمت على تلك الرسالة، وأصرت على أن ميسري الهروب عملاء الغرب هم القتلة.
عام 1995 أعيد فتح القضية. خلص التحقيق إلى أن كريستيان زوبيل أطلق الطلقة الأولى لمنع اعتقاله مع رفيقيه واستقرت الرصاصة في كتف شولتس. بينما جاءت الطلقة القاتلة من بندقية كلاشينكوف لجندي حرس الحدود "فولكر" الذي أطلق النار، بناء على تعليمات من ضابط في جهاز أمن الدولة (شتازي) كان موجودا في الموقع، فأصاب زميله دون قصد. في عام 2004 وفي الذكرى الأربعين لوفاته، تم نصب لوحة تذكارية تخليدا لذكرى إيغون شولتس على البناء رقم 55 بمبادرة من مساعدي الهروب السابقين وأصدقاء شولتس كتب عليها ""لقد تم اعتبار إيغون شولتز بطلاً في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، بينما كان ميسرو الهروب يعتبرون عملاء وقتلة".
قد يكون شولتس شاباً بريئاً يقضي خدمته العسكرية مرغماً حيث لا خيارات أخرى أمامه، وقد يكون مجرد جندي غبي يعتقد بأنه يقف في الجانب الصحيح، وله في ذلك احتمالات كثيرة أخرى، ولكن المؤكد أنه لم يكن "الشهيد البطل" الذي دخل التاريخ من بوابة مزوّرة روّج لها نظام فاسد مستغلاً اسمه كضحية فعلاً، كما هو ديدن الأنظمة الفاسدة التي تبرع في إنتاج الروايات الكاذبة حتى لو توفرت لها كامل الحقائق، والأدهى حين ترتكب الجرائم بنفسها أو عبر عملائها، وتبدأ الهجوم على أعداء تخترعهم وترمي التهمة باتجاههم.
مات زوبيل قبل انكشاف الحقيقة، وهو في حالة من الشك بأنه قد يكون قاتلاً. حتى رائد الفضاء رينهارد فورر توفي عام 1995 بحادث طائرة قبل أن تظهر نتائج التحقيق. عام 2001 سيعرض على قناة آرتي فيلم وثائقي عن (موت البطل) والنفق والكذبة، حاز الفيلم على جائزة التلفزيون الألماني. كان عنوان الفيلم "من أطلق النار على إيغون شولتز؟". حسناً، يمكنني الآن استعارة اسم الفيلم، لأوجه السؤال الذي تبادر لكل سوري خلال الأسبوع الماضي: من أطلق المتفجرات على الكلية الحربية في حمص؟
بدايةً سأعود لما ابتدأت به. لا يحتاج الأمر للكثير من (الخزعبلات) من أجل التفريق بين النضال المشروع والأعمال الإرهابية، وعليه فإن استهداف مكان من المعروف أن فيه مدنيين من الرجال والنساء والأطفال، هو عمل إرهابي بغض النظر عن الجهة الفاعلة. ولا فرق لديَّ هنا، بما أنني لم أعرف يقيناً، إن كان الفاعل جهة معارضة أو أن العملية من فعل نظام الأسد. للأسف لن نعرف الحقيقة قريباً، رغم أن لكل منّا تخميناته وترجيحاته.
طبعاً تتطاير الاتهامات حول الجهة المنفذة في كل اتجاه، وللأسف أن معظم المتهمين هم جناةٌ محتملون، ولا يمكن القطع بأن جهة ما لا يمكن أن تفعلها، طبعاً حسب ما تمتلك من الإمكانيات. يحاجج الكثير من (الموضوعيين) بأنه من غير المعقول أن يفجر النظام مكاناً يخصه! متناسين أن الكثير من الشبهات تحوم حول النظام في حوادث سابقة، منها التفجير الذي أودى بأعضاء ما كانت تسمى "خلية الأزمة". بالنسبة لي سأعود لحادثتين فقط.
في شهر آب/ أغسطس عام 2013 تم تفجير متزامن لمسجدي التقوى والسلام في مدينة طرابلس اللبنانية. دان نظام الأسد العملية عبر كل وسائل إعلامه واعتبر أن منفذيها هم ذاتهم الإرهابيون الذين يفجرون في سوريا. بعد ثلاث سنوات أصدر القاضي قراراً اتهامياً في قضية تفجير المسجدين، متضمناً تسمية المخططين والمشرفين على العملية، النقيب في فرع فلسطين التابع للمخابرات العسكرية السورية محمد علي علي، والضابط المسؤول في فرع الأمن السياسي ناصر جوبان. شخصياً، اعتبرتُ يومها، أن النظام كان صادقاً تماماً، حين اعتبر أن من يقف وراء العملية في لبنان هم ذاتهم الإرهابيون الذين يقومون بعمليات التفجير في سوريا.
لنتصور الآن لو أن ميشيل سماحة نجا بفعلته ولم يقبض عليه. كان الرجل سيتابع الإطلال عبر الشاشات ليعطينا دروساً في الوطنية، بعد كل تفجير من تنفيذه
الحادثة الثانية هي قضية اعتقال السياسي اللبناني ميشيل سماحة، الذي قُبض عليه متلبساً بتهمة إحضار متفجرات استلمها من المخابرات السورية إلى لبنان، بهدف القيام بعمليات تفجير ذات منحى طائفي، بعضها سيطول حلفاء للأسد! لأجل خلق بلبلة إضافية للوضع اللبناني. سماحة كان أحد أهم المروجين لفكرة أن نظام الأسد هو حامي الأقليات. لنتصور الآن لو أن ميشيل سماحة نجا بفعلته ولم يقبض عليه. كان الرجل سيتابع الإطلال عبر الشاشات ليعطينا دروساً في الوطنية، بعد كل تفجير من تنفيذه، وليخبرنا كم انفلتت الأوضاع الأمنية طائفياً في لبنان، وأن ما كان يحذر منه قد حدث بالفعل بسبب المؤامرة على نظام الأسد!
أعود للسؤال: هل يمكن لنظام الأسد أن يفعلها؟ وأن يكون خلف تفجير الكلية الحربية، ومقتل من يعتبرون من مواليه، ومن بينهم نساء وأطفال؟ تفجير مسجدي طرابلس ومتفجرات الشريكين مملوك وسماحة، تتيح للعقل (لو شاء أن يعمل ولو بنصف طاقته) أن يتفاعل مع فكرة أن نظام الأسد، أو أحد أذرعه، قد يكون هو من فجَّر الكلية في حمص، وهو المعروف بأنه قابل لارتكاب أي جريمة، ولا يهم من يكون الضحية. الكارثة واللعنة هنا وهو الخلاف الأهم بينه وبين المثال الألماني، أن نظام الأسد لم يكتفِ كالألمان الشرقيين بالدعاية واتهام الآخرين وتمجيد بطله الذي لم يكن بطلاً،، بل راح يقصف ويقتل ويصيب مئات المدنيين الأبرياء في شمال غرب سوريا.