"نحن تقريباً نميل إلى الظن بأن الأخلاق مسألة جغرافية"
/عبارة ترد على لسان إحدى شخصيات الرواية/
على الغلاف الخلفي من رواية (أين اسمي؟) للناقدة والروائية السورية (ديمة الشكر)، مقطع تعريفي بالرواية، لكنه يفتح أفق القراءة النقدية موسعاً: "القرن التاسع عشر، الحكاية تكتبها (قمور) الشابة السورية التي عملت خادمة في منزل القنصل البريطاني (ريتشارد فرنسيس بورتون). مترجم ألف ليلة وليلة إلى الإنكليزية". إن الإحالة في نص الغلاف الخلفي تفتح الأفق على واحد من أهم الأعمال في التاريخ الأدبي وأكثرها حضوراً، أي ألف ليلة وليلة، فهي وإن لم تكن حاضرة في الرواية الحالية بكثافة، إلا أن النص الروائي يستحضر عوالمها سردياً، وجمالياً، وحكائياً، لتدفع الناقد إلى متعة البحث عن أعرق النصوص الأدبية في أجدد الروايات السورية.
"قمور" بدايات القرن الـ19، و"زينة" نهايات البريكست
تنقسم رواية (أين اسمي؟) إلى قسمين، كل منهما يحمل اسم الشخصية الساردة فيهما: القسم الأول ترويه (قمور فتال) ويعود إلى العام 1901، وهي تروي سنوات خدمتها في رفقة القنصل البريطاني وزوجته، وتحديداً انتقالها إلى دور الناسخة المدونة الموثقة لأحداث مجزرة حصلت في العام 1861، في حي باب توما في مدينة دمشق. الكتاب الذي تعمل على تجميع قصصه، وتدوينه، وتوثيقه، سيصدر بعنوان (ما جرى في دمشق حين فُقد السلام، ما صار في الشام حين غاب عنها السلام)، لكن دون أن يذكر اسم قمور عليه. القسم الثاني ترويه (زينة)، وتجري أحداثه بعد 117 عاماً من الأول، في العام 2018، طالبة العمارة في الجامعة البريطانية، السورية الأصل زينة، تكتشف كتاب المجزرة وتقرأه، لتتوصل إلى اكتشاف هوية كاتبته الأصلية، قمور.
"دمشق لا روما هي الجديرة بلقب المدينة الأبدية"- ريتشارد بورتون.
قمور من الخادمة إلى كتابة التاريخ
تفتتح الرواية بذاكرة (قمور) الطفولية، وهي تلعب في بركة الماء مع السلحفاة، وتدرك للتو، شيئاً فشيئاً أن والدتها ذبحت، تصف سلوكيات العائلة من حولها، هذه المجزرة التي ستوثقها قمور في المستقبل، كانت والدتها واحدة من ضحايا، لكن رحلة الرواية هي رحلة قدرة قمور على الفصل بين التجربة الذاتية والشهادة التاريخية: "كيف أكتب عما شهدته وأنا في السابعة من عمري؟ قطفت حكايات من كانوا أكبر مني، الذين امتلكوا تفاصيل أوفى وأوضح. قطفت الحكايات ووضبتها في الصندوق وأغلقته بالمفتاح.". لقد كانت خادمة عادية للقنصل وزوجته إلا أن اكتشف قدرتها على الكتابة والقراءة، فأوكل لها مهمة جمع قصص عن مجزرة في التاريخ، وتدوينها، لكن هذه الرحلة أكبر من قدرتها الذهنية، التي نراقب تطورها عبر كل مرحلة من مراحل عملها.
أثر النسخ والتدوين على وعي قمور
مع رحلة التعرف على تقنيات النسخ والتدوين، يتم التحول في شخصية قمور، فبينما تكون في البداية خادمة، مملوكة كسقط المتاع: "أنا سقط المتاع، أقل من الأمتعة التي تحزم وترتب بعناية واحترام، كأنني سقطت من أغراض إيزابيل"، ستوصلها رحلة تحولها وسفرها وأسئلتها وفضولها إلى تلك القمور "التي تتحدث الإنكليزية وتجيد كتابة الرسائل وتتقن أسلوب العيش الإفرنجي. قمور التي سافرت وعاشت في أراضي الإمبراطورية، ورأت الكثير من العالم المتمدن. وحين عادت بدت مثل أميرة تتبختر بثيابها الإنكليزية في حارات الشام". ترصد الرواية بدقة التحول الفكري والذهني في أفكار قمور ومونولوجاتها: "في تلك الساعات التي أمضيتُها في النسخ، تعلمت أموراً شتى أوضح وأفضل بكثير مما تعلمته في بلاد الإنكليز". لكن رحلة الوعي هي رحلة مليئة بصراع الهويات، فحالما تتعلم قمور الإنكليزية وتشرع الكتابة بها، حتى تتداخل عليها مع العربية. تتوه قمور بين اللغتين، العربية والإنكليزية، حيرة تنتقل من لغة الكتابة إلى لغة التفكير. وتزخر الرواية بالمقارنات بين السلوكيات الحضارية بين دمشق ولندن، بين الثقافتين في كل من بدايات القرن التاسع عشر، ومن ثم في اللحظة الراهنة، لندن بريكست، دمشق الحرب والدمار.
تقنيات التوثيق التاريخي
كثيراً ما تطلعنا الأفلام والقصص على حكايات خادمات ترفعن في سلم المهن الاجتماعية، لكن (قمور) تقدم على واحدة من أدق المهن التوثيق التاريخي. تبني الكاتبة بعناية المراحل أو التقنيات التي يجب على قمور تعلمها لكي تحقق فعلاً الكتاب عن المجزرة، فندخل مع تعليمات توجيهية يقدمها إليها القنصل ريتشارد، لكن أيضاً بتمارين كتابة وتدريبات تدوين ودروس قواعد شعرية. فنعبر في الرواية مع النص، مراحل تحقيق قمور للكتاب مرحلة تلو الأخرى، ويقدم لها القنصل البريطاني التعليمات والتقنيات الخاصة بكل مرحلة: جمع القصص: "أريد منك أن تزوري الناس في بابا توما كل يوم بعد الدرس، تجمعين القصص من الناس وتدونينها"، ومن ثم تصنيف القصص، ومن ثم مرحلة التدوين، وهنا يحاول القنصل ريتشارد باستمرار أن ينبه قمور للتفريق بين التدوين والكتابة، دون أن نغفل أنها ضحية هي بذاتها للمجزرة، وربما تلتبس عليها الكتابة بالتدوين: "تدونين مثلما تسمعين، لا إضافات لا صفات. معلومات فحسب. تغفلين الأسماء، لكن تحددين الجنس والعمر. تكتبين عن المكان بدقة. أين تم الأمر؟ في غرف النوم؟ وكيف حاولوا النجاة؟ أين اختبؤوا؟ ومن رأوا من القتلى والقاتلين؟ تجمعين المعلومات التي ذكرتها لك وتضعينها في جمل منفصلة. لأنك تجمعين لا تكتبين".
وثائقيات وحكايات المجزرة
لا تقدم لنا الرواية المعلومات الكاملة عن الحدث التاريخي أي مجزرة باب توما العام 1861، بل يلملم القارئ المعلومات عنها كما تلملم قمور القصص والشهادات لكتابها. وتستعمل الرواية أساليب متعددة لرواية حكاية الحدث التاريخي وتوثيقه، فهي تلجأ إلى الشهادات الشخصية، كأن يروي أهالي باب توما الشاهدين على المجزرة ذكرياتهم: "سمعت صوت الخنجر يدخل في لحم ماري عنجوري سبع مرات ثم يخرج ساحباً قطعة من قلب ابني الحبيب"، وتوثق المجزرة بالوثائق المباشرة، فتعرض لنا الرواية لوائح الوصف الطبي للضحايا، وكذلك تعتمد على الوثائق غير المباشرة، مثل كتب ذكر فيها الحدث المروع، وتدمجها الكاتبة في نص الرواية، مبنية المرجع، مثل: (نوادر الزمان في وقائع جبل لبنان، إسكندر بن يعقوب أبكاريوس)، أو الفقرة التالية من كتاب (حسر اللثام عن نكبات الشام، مؤلف مجهول):
(وسال دم القتلى في شوارع دمشق غيثاً مدراراً وعم البلاء الهائل حتى لم يعد يرى في حارة الناصر غير رأس ينهال عليه الرصاص من بنادق العسكر انهيال السيل).
الذاكرة أم الصمت
وحده المستشرق البريطاني يعي أهمية التوثيق، فيعبر عنه بوضوح حين حديثه عن مشروعه لتوثيق الأمثال السورية، "هذه الأمثال السورية تبين كيف نشأت الحقيقة من التعليم الصامت للعالم، وكيف أخذت تجربة الحياة اليومية بالتدريج شكلها ووضعها، وكيف أصبح تقدير التجربة ملموساً في القول المأثور حتى اكتسبت في النهاية حكمةُ الكثيرين الحياة من خلال ذكاء فرد واحد".
لكن ماذا عن وعي الضحايا أنفسهم في عملية توثيق مجزرتهم؟ تختلف الآراء في الرواية حول ضرورة توثيق أم الصمت عن ذاكرة مجزرة. والسؤال المطروح في الرواية على مجزرة 1861، هو راهن أمام المجازر في سوريا خلال الفترة الراهنة: "في ناس كتبوا وفي ناس حكوا وفي ناس نسيوا وفي ناس مابدهون أبداً يتذكروا". وإن كانت قمور تعمل لتوثيق المجزرة وذاكرتها، فإن زوجها (حنا) يعارضها المشروع، (حنا) يمثل رغبة أولئك الذين يفضلون الصمت: "مافي شي بينكتب، ما حدا بيكتب عن هيك شي، ما بيصير، ما بيصير نكتب عن هيك شي".
العقل وشيطان الكلمات
يتابع القارئ بدقة التحولات الفكرية التي تعيشها قمور مع توسع معارفها وقدراتها الذهنية. وهي تخشى التأثير الكامن في الكلمات، "شيطان الكلمات: التأثير الكامن في الكلمات، في المعرفة، تخشاه قمور، وبين الفينة والأخرى تصف شيطان الكلمات، بكثير من الفتنة، بكثير من الخشية، بالمتعة: "كان في مقدوري على الدوام طرد كل الشياطين تقريباً. كنت ضئيلة جداً، وروحي كانت ضعيفة إلى درجة أنني ظننت أنهم لا يأبهون لأمري ولا ينصبون الفخاخ لروحي المتموجة أصلاً. بيد أن الكلمات منمقة الوقع والمرتبة حد الإتقان، سحرتني باستمرار، ما إن أسمعها حتى أرفع رأسي وأصغي. كان لدي الطمع لها. كنت أطمع بجمالها".
علاقات السلطة القومية، والطبقية، والثقافية
تحضر على الدوام علاقات السلطة بين القنصل وزوجته أولاً، فالأفضلية للرجل، ولكن وتحضر أيضاً علاقات السلطة بين القنصل وزوجته الإنكليزيين من جهة وخادمتها والناسخة العربية من جهة أخرى، يتضح ذلك في وصف قمور للقنصل: "فكرت في القنصل الذي كان يتهادى في الطريق من الصالحية إلى قنصليته حين كنت أرافقه، ممسكاً تلك العصى الطويلة ذات مقبض الفضة، فارساً ولو من دون خيل، ملكاً ولو من دون تاج. حضوره كاف لتعليم السلطة، أي سلطة، كيف تكون طاغية بشكل مطلق، سلطة تخرج من عينيه وتسمر محادثه، سلطة تخرج من شفتيه وتصعق مستمعه، سلطة تشف منه وتجذب الناس إليه".
/القسم الثاني: زينة/
من النسخ والتدوين إلى التقنيات الرقمية
تنقلنا الرواية في قسمها الثاني إلى العام 2018، تفتح زينة السرد بالحديث عن البريكست، عن لندن البطاقات الإلكترونية الممغنطة في الدخول إلى المترو ومحطاته المتشعبة الملتوية كمرجان ينمو ضد أي تشذيب. زينة تدرس في الجامعة الإنكليزية عن العمارة وفن القيشاني الدمشقي، وهكذا ننتقل عبر الزمن من النسخ والتدوين في مهنة قمور، إلى الرسم بواسطة البرمجيات والكومبيوتر وعالم التقنيات الإلكترونية الذي يدخل مع حضور شخصية زينة الباحثة في العمارة والتشكيل: "كيف فعل الخزاف هذا من دون كومبيوتر؟".
لندن المدن الرقمية، دمشق مدن الدمار
(زينة) أيضاً على علاقة مع مدينتين دمشق ولندن: "منذ وصلت إلى لندن وأنا أتجنب التفكير بالماضي القريب، سحبتني المدينة إلى إيقاعها السريع ومتنزهاتها الوفيرة. المقارنة بين الشام ولندن من ناحية التنظيم المديني صارت هوايتي المفضلة. أقرأ المدينة من هندسة طرقاتها الذكية كيف تذوب الطرق الدائرية لتصبح جادات. أنظر إلى المدينة كمن ينظر إلى معادلة رياضية مقروءة وحلها واضح". أما دمشق 2018، فتوصف في الرواية عبر الأخبار: "لم تكن الأخبار تتنوع وقلما تغيرت درحة أو درجتين وفقاً لنشرة الأخبار وما تعكسه من حياة الناس اليومية: القصف، القتل، التهديم، التهجير تنعكس كلها على حياة الناس عند كل دقيقة. الجغرافيون يفهمون الأمور بطريقة واقعية، فخروج مخبز آلي عن الخدمة بسبب القصف متعمداً أم لغباء نيران ذكية، يعني تراجع رتبة المكان من بلدة إلى قرية إلى تجمع سكاني يشبه معصرة زيت بدائية مسجونة في الحرمان. كأن حياة المكان تعود إلى الوراء بخطى متسارعة وتسحب معها أسباب حياة الناس سواء نجوا من القصف أم لا".
كلتا الشخصيتين (قمور وزينة) تقرر في النهاية العودة إلى دمشق، ومع لقاء دمشق المعاصرة بين الدمار والحرب، تفكر (زينة) داخلياً حين تعبر الحدود: "كلٌّ حر في التخريب في بلاد تأنف من الحرية بل حتى من لفظها"، تقارن زينة باستمرار بين حرية التخريب المزمنة، وبنفس الوقت النفور المزمن من الحرية: "بل حتى من لفظها الذي صار مدعاة لسخرية وألم لا يطاقان".
الهوية الجنسية للنص التأريخي
في رحلة بحثها الجامعية، تعثر زينة على كتاب مجزرة الشام الذي دونته قمور في الجزء الأول دون أن يسجل اسم قمور عليه، بل اسم القنصل البريطاني ريتشارد. لكن زينة تشعر بتداخل في الهوية الجنسية لمؤلف(ة) الكتاب: "فكرت وأن أقلب الصفحات بضجر، كيف أن تحديد جنس الكاتب في الأدب يشكل إلى حد ما عتبة أولى للقراءة، الأمر الذي يبدو نافلاً في الكتب البحثية".. ومرة أخرى أمام الكتاب: "تناولت الكتاب الأزرق وبدأت أقرأ. بعد صفحات قليلة اكتشفت أن الكاتب كاتبة، فألقيت الكتاب وسرحت قليلاً مع أفكاري عن التأنيث والتذكير بين العربية والإنكليزية". ومع شكها المستمر حيال الهوية الجنسية لمدون/ة النص، فإنها تستهدي إلى الحقيقة. وتحقق الروائية لقاءاً ميتافيزيقياً عابراً للحدود الزمنية، يتم اللقاء العابر للتاريخ بين قمور وزينة: "أدور في القاعة وأنا أحدق في بلاطات القيشاني الشامية. وأقرأ عمران الشام. ثم صرت أسمع صوتها، صوت قمور وهي تشير بيدها إلى البلاطات، تقول شيئاً بإنكليزية متعثرة، فينهض طيف البطل الزغير بيديه السحريتين يعيد القيشاني إلى ركام البيت المهدوم".
من ألف ليلة وليلة إلى أجدد الروايات السورية: عناصر متماثلة
المؤلفة المجهولة:
نجهل بدقة مؤلف ألف ليلة وليلة أو مؤلفتها، وتتعدد النظريات في هذا الخصوص، لكن أكثرها تكرارًا وتماسكاً في كتابات المختصين، أنها حكايات شاعت أولاً في الهند، ثم في بلاد فارس، ثم في الشرق الأدنى، وأخيراً كتبت بالعربية وجمعت في القاهرة. أصبحت تعرف بكتاب ألف ليلة وليلة. أما الدكتور (عفيف نايف حاطوم) المشرف على الطبعة الأخيرة لألف ليلة وليلة الصادرة عن دار صادر 2003، فيثبت بأنه كتاب عربي، وكتب في مصر، ويبرهن وجود لهجات مصرية في كثير من العبارات، لكنه يجزم بأن مؤلفه هي شهرزاد نفسها. وهكذا (أين اسمي؟) أيضاً تتوه فيها هوية الكاتبة، ويستمر الكتاب والحكايات مجهولة المدونة أو الكاتبة.
العنوان اللامتناهي
في العام 1977، قدم (خورخي بورخيس) محاضرته الشهيرة عن ألف ليلة وليلة. وهو يتوقف بدايةً عند العنوان: "أود أن أتوقف قليلاً عند العنان، إنه من أكثر العناوين جمالاً في العالم، لأنه يحمل تجربة مع الزمن. لأن كلمة ألف رديفة في أذهاننا لكلمة لا متناهي. فأن تقول ألف ليلة يعني أن تقول "ليال لا متناهية"، ليال لا تحصى. وأن تقول "ألف ليلة وليلة" يعني أن تضيف ليلة واحدة على المال بلا نهاية. كما التعبير الإنكليزي القائل الأبدية ويوم. إن فكرة النهاية هي من نفس مادة ألف ليلة وليلة. كذلك إن عنوان (أين اسمي؟) هو عنوان، مفاهيمياً، هو سؤال وجودي لا متناهٍ في تاريخ الأدب، خصوصاً أن غلاف الرواية يسأل السؤال (أين اسمي؟)، للقارئ مباشرة، تصبح جدلية مستمرة، لا يمكن الإجابة عنها، إلا بالتساؤل مجدداً.
المزج بين الشعر والنثر
وتتخلل الرواية مقاطع شعرية بالإضافة إلى النص السردي النثري، وهي بنية موجودة أيضاً في ألف ليلة وليلة، حيث يتخلل الحكاية النثرية قصائد وأبيات من الشعر ببحوره المختلفة وأدواره المختلفة في نص ألف ليلة وليلة.
"رع جمال الوجه يظهر / لا تغطي يا حبيبي / طول ليلي فيك أشهر / زاد شوقي ونحيبي".
الأدب المقدس والأدب الدنيوي
ينطق القنصل ريتشارد بجملة تنهي أحد فصول الرواية للتركيز عليها: "سأبارز المقدس"، مبارزة المقدس: يرى (كلود ليفي شتراوس) أن الحكايات الشعبية أو الخرافية والتي منها ألف ليلة وليلة هي مبارزة الأدب الشعبي الدنيوي، للأدب المقدس المتمثل بالأسطورة والدين.
المدن السحرية ومدن المعادلات الرياضية
يشتهر نص ألف ليلة وليلة بابتكار المدن المذهلة، وبالوصف الغني لكل مدينة تعبرها الحكايات. كذلك في (أين اسمي؟) تحتل العلاقة بين المدن محوراً أساسياً من محاور الرواية. وتنحو الروائية في بعض فقراتها الوصفية للمدن إلى أسلوبية قريبة من سردية مدن ألف ليلة وليلة: "كانت المدينة تركض وتتسع، وتبزغ أبراج كنائسها المروسة والمتطاولة، والبنايات فيها ذات الشبابيك الكبيرة تزداد كأن لا نهاية لها".
مقطع آخر يذكر بمدن شهرزاد: "الدكاكين في السوق الكبير المتفرع إلى زقاقات لا حصر لها، متلاصقة حد أنك تتخيل أن لها أبواباً سحرية تنقلك من دكان إلى آخر برمشة واحدة".
في القسم الذي يجري في بدايات القرن الواحد والعشرين، وتحديداً العام 2018، تمتلك المدن السحرية أوصافاً أخرى، تفتح زينة السرد بالحديث عن البريكست، عن لندن البطاقات الإلكترونية الممغنطة في الدخول إلى المترو ومحطاته المتشعبة الملتوية كمرجان ينمو ضد أي تشذيب، تقول زينة: "انظر إلى المدينة كمن ينظر إلى معادلة رياضية مقروءة وحلها واضح. أتأمل الحديد المثبت في كل مكان، حديد للإشارات الضوئية، للعلامات المروية، لاتجاهات الشوارع عند تقاطع يقلد المتاهات".
الأشياء وعناصر الطبيعة العجائبية
يشتهر نص ألف ليلة وليلة بالأشياء العجائبية التي يبتكرها، وكذلك في (أين اسمي؟) يحضر الشجر العجائبي، باسم شجر الفتنة، وهي شجرة قادرة على فهم مشاعر الناس العميقة والتحدث إليهم كأنهم في حالة مناجاة ذاتية. ويشارك الشجر في إحدى الفقرات برواية المجزرة: "قالت الأشجار إنها صلت كثيراً لئلا تبقى سجينة النظر والفرجة. قالت إنها رأت كل شيء، كل تفصيل صغير. عرفت أسماء كل من ذبحوا وحفظتها". وهناك حكاية نهر عجائبي، ترويها لها جدتها، والخاتم الكحلي البراق ألف مرة ومرة الذي يرتديه القنصل ريتشارد، ثمة عصا سرية قد بدلت الأحوال والأمكنة، وتملك القدرة على إخفاء الشام أو إغراقها في نهرها.
واحدة من الحكايات المفضلة عند بورخيس عن ألف ليلة وليلة حكاية رجل في القاهرة يحلم بأن صوتاً يأمره بالذهاب إلى أصفهان للحصول على ثروة، حين يصل الرجل إلى أصفهان يقابل قاضياً يخبره أيضاً بحلم مماثل، وأن حلمه موجود في القاهرة، وحين يصف مكانه يدرك الرجل أن منزله هناك، وأن كان عليه الرحيل إلى أصفهان ليدرك بأن الكنز الذي يبحث عنه أسفل منزله. كذلك تكتشف قمور دمشق بعد رحلتها وعيشها ومقارناتها مع لندن. وتعود زينة بالحنين إلى دمشق رغم الاندماج مع برلين. وفكرة المقارنة بين المكانين تجعل من المدينتين كل منهما مرآة للأخرى، تسمح باكتشافها، تحليلها، ونقدها، وتبيان خصوصيتها المتبادلة بينهما: "في لندن رأيت الشام مدينة كبرى".