الإرباك يتغذى وينتشي متهوراً أمام محاولة انتقاء الكتاب الأقرب «الأثير» لي. أذهبُ صوب «طواسين» الحلاج وديوان «المتنبي» ولا أنتقي رواية واضحة الملامح والموت والرؤيا عند «دوستويفسكي» ولا أستطيع الجزم أن ديوان «ابن الفارض» يغيبُ في هذه المتاهة. ولا حتى كتب التكوين الأولى ولا التوحيدي ولا الهيغيلبات العظيمة أو سراديب زرادشت.. و«آل غريكو» كازانتزاكي.
ولكنّ الليالي تبقى الأكثف إضاءة، الأشدّ حضوراً، والطازجة دائماً وهي تنبش عميقاً في تجاعيد الحلم ودهاليز الخيال.
إنها «ألف ليلة وليلة» التي تضجُّ وتتوهج درّة تاجٍ تتناسلُ وهي تنأى عن الضجيج والأسماء اللامتناهية لكتبٍ نَهَبت أحوالنا.. وحوّلت الكينونة إلى قطيع هائل الصبوات.
كانت معرفتي مبكرة بهذا السِفر العجائبي المصنوع من منمنماتٍ أخاذةٍ تعجن اللهفة المنسوجة من حياكةٍ يتيمةٍ في فرادتها.. معجونةٍ بعناية مدهشةٍ في اختيارها لجغرافياتها.. حيث يتحول المتخيل «المكان الافتراضي المستل من الحكاية» إلى محسوسٍ يغوص عميقاً في مدافن الحلم.. وظلال الذاكرة التي تتعرف أحوالها وتتهيّبها بحدوسٍ وثنيةٍ ملوّنة ومؤسِّسةٍ للحيوات اللامتناهية التي تسردها الليالي على لسانِ «شهرزاد» /الراوي، رجل المسرح، الحكواتي: المايسترو والمراقب وكائن الحبال والماريونيت/ وفي إدراكٍ عميقٍ لمهمة الفن والروِيّ كعتبة ضرورية للتطهر من الشرور والقبح وعلى رأسها القتل الذي تقتات حياة «شهريار» دماء نسغها ووجودها منه.
وفي استطرادٍ «أرسطيّ» تحيك شهرزاد لعبة الفن «الرويّ» بمشاركة أختها «دنيازاد» كعكاز المبصرين العارفين.
هل أتحدث عن الكتاب– السِفْر /وهذه مفردة موبوءة ودخيلة/، ببعده السياسي، أم الإيروتيكي، أم عن تقنياته المفاجئة والمبكرة في اقتراح ما يرتئيه من خلال حبكته العظيمة الدِّقة؟! أم أتحدث عن تلك الشخوص المشردة المهمّشة؟ أم عن أمراء ملوك وحكام الأقبية والمواخير والظلام؟! أم أنها الحكمة وهي تُدوزِنُ رسالة الكتاب ومقاماته؟! والذي يعتقد «بورخيس» وهو ينظر كسائحٍ من قاراته اللغوية والنفسية البعيدة أن كائناً لا يستطيع قراءته كاملاً!
إنه الكتاب العربي الأمتع والأخصب والأوجعُ، والأوضح تأثيراً في تكويننا وخرافاتنا ومتاهاتنا التي ندوِّن وننبض أفيائها وهي المرجع الأقرب لخساراتنا وشروخنا وأوهامنا ومشاريعنا العامرة التأليف والخيال.
ونحن الآن/ هنا، ونُقلِّبُ صفحات الكتاب السحري لنرى أن أمهاتنا.. وجدّاتنا وآباءنا يعيشون وفق تلافيف الكتاب ورؤاه، ويتحدثون –دون أن يعرفوا أو يقرأوا الكتاب– بقصصٍ وحِكمٍ متينة الدلالة والحضور في سفر الليالي.
إنه الكتاب العربي الأمتع والأخصب والأوجعُ، والأوضح تأثيراً في تكويننا وخرافاتنا ومتاهاتنا التي ندوِّن وننبض أفيائها وهي المرجع الأقرب لخساراتنا وشروخنا وأوهامنا ومشاريعنا العامرة التأليف والخيال.
في ترجيع ضروري نعرفُ أنّ الغيظ والخيانة سبَّب قتل شهريار للنساء. ثم إن السأم والضجر والفضول سَبَبٌ أولي وجوهري كي يكتمل نصاب الكتاب؛ ويبدأ شهريار بسماع الحكاية الأولى التي تعتبر «الفخ» الذي أودى بأوهامه مؤقتاً لتبدأ سيرة الأوهام بقالبها الفني الحكائي الذي يعتمد التشويق أولاً وآخراً وضمن حذره وفهمه للحظة انقطاع الحكاية الحرج.. تلك اللحظة التي لا يستطيع الفضول تجاوزها، وقد يكون هذا هو المرجع لكل الأعمال الدرامية المسلسلة التي تُقطَع عند عقدة مثيرة ليكتمل الحدث في الحلقة القادمة –الليلة المقبلة– ولن يكتمل. فالتداعيات في الفضول عند المتلقي «المشاهد، القارئ، المستمع» ستودي به من حكاية «مسلسل درامي مثلاً» إلى مسلسلٍ آخر يكمل الحكاية.. ولا يكملها، يتقاطع معها ويشبهها.. وهو ليس كذلك إنما حالة الفرجة، أو الإصغاء وبالمعنى النفسي الأعمق؛ هي الحالة الأساس التي تقوم عليها فكرة التداعي والرَّويّ. وهي التي تحكم المناخ العام للتلقي الفضولي والذي يعمل على تشذيب الروح والجسد والارتقاء بهما إلى فضاءات أوسع.. كما حصل لشهريار المتلقي على أيدي شهرزاد.
وأستطيع أن أغامر وأكرِّر: "أن الوظيفة التطهيرية– الأرسطيّة هي التي تسمحُ للكتاب بالالتئام، وذلك من خلال تشذيب وتهذيب انفعالات شهريار لصالح الحكاية وإتمامها.. أي لصالح الاستمرار في الحياة بالنسبة لشهرزاد.. والذي سيعني أن الإبداع كفيلٌ باستمرار مبدعه، -استمرار التصاقه بالحياة.. وإن رَحَلَ فتبقى إبداعاته– حكاياه «هنا» مشيرة إليه بحرارة الشارة الأولى..".
ويحضرني؛ أن الدراما التي تُقترف باسم التاريخ والتراث قد استفادت وغاصت دون دراية وحنكةٍ في تفاصيل منسولةٍ.. مسلولةٍ من «ألف ليلة وليلة» وكثيرة هي العناوين الباهتة التي أراد أصحابها محاكاة عنوان هذا السفر العجيب؛ إلا أن الريادة و«الحداثة» بمفاهيم «السرد» و«تحولاته» يمكن أن تنطلي من خلال التقانة العالية التي استفاد منها العمل الدرامي المعاصر من خلال توقف أحداثه عند نقطةٍ، تثير وتنهبُ الفضول في انتظار نهاية ما للرواية التي يتناوب على سردها في «ألف ليلة وليلة» مجموعة كبيرة من أصحاب المهارات العالية في السرد وليأخذوا قَيادَ الحديث متناوبين ومريحين راوٍ سابق وهم في آنٍ رواة مشاركون في الرواية وأحداثها!» لنتعرف إلى المهارات وسِعة الخيال ولنكمل حدثاً لن يكتمل حيث سيُربط بجديدٍ ونحن ننتظر أن تتفكك الخيوط لنجلو ما سيكون.. إلا أننا سنكون ملامسين لخيوط الفجر التي تجلو وتغسل دماءَ ولوثات شهريار بانتظار رحلةٍ.. ليلةٍ توثّبٍ وجموح أشدّ فتكاً وأشدّ جمالاً وحيوية.
إنها الليالي التي لا تُلخَّص، ونحتاج إلى قراءة ومعايشة طبعتها البكر التي تحرص على رصد كل التابوهات اللغوية.. السياسية.. الجسدية؛ وهي تقدم حالاتها من خلال إيقاعاتٍ عاليةٍ وأصوات وحدوس وخيالات وجموحات لا تنضب.. إن الكتاب نبعٌ معرفي صرف ينمو في الوجدان– وجداننا الجمعي دون هوادة.
الخيانة والحب والغربة والصداقة والموت والمغامرة والليل والسياسة والمؤامرات والمواخير والسَّفر والنساء والإنس والجن والملوك والمشردون والحقيقة والحوريات والوهم والواقع والخيال.. كل هذا دُفقة واحدة دون مواربة أو روتوش ودون رحمة أو هوامش أو استراحة أو مهادنة.
إنه عجينة حياة بما فيها.. وما ليس منها!.. وهو اقتراح لعناصر وعفاريت ويقينيات وجغرافيات جديدة لتأسيس الوجود على قياس الفن والخيال في صَبواته وجموحاته البكر.. ولكل هذا وذاك أتساءل: أليس منَ الضرورة والتناغم والتوازن؛ الآن؛ أن نتوقفَ عند هذا السفر بهدأةٍ ورويّةٍ تمدّني/ تمدّنا بالأوكسجين؟