"بعد كل الذي ذقته من عذابات في تلك الأيام فأنا أفضل العيش في أي مكان تحت القصف والتشريد والبرد على أن أعيش في ظل النظام، ولو تريد سؤالي عن السجن فالجواب أنني أفضل الموت على أن أعيش يوماً واحداً في سجون بشار الأسد".
كانت هذه الكلمات التي اختتم بها لقاؤنا مع "بشير أبازيد" ثاني الأطفال الذين تم اعتقالهم في درعا على خلفية الكتابات السياسية على جدار مدرسة قبيل انتفاضة أهالي درعا وحوران في الـ 18 من آذار.
مع انتشار موجة ثورات الربيع العربي في بدايات العقد المُنصرم، عمد النظام إلى تشديد القبضة الأمنية في المحافظات السورية، فكثف من الدوريات العسكرية، وزاد نشاط وعمل المخبرين والشرطة السرية بين الناس إلى أن وصل به الحال إلى توزيع كبائن (كولبات) المراقبة والحراسة الليلية والنهارية على الأحياء السكنية ومنها ما حدث في درعا، ومنها بدأ تتابع الأحداث في قضية أطفال درعا.
يروي لنا بشير القصة كما حدثت معه من بدايتها، فيقول: "في الشهرين الأول والثاني من عام 2011 كانت الناس تتطلع إلى الثورات التي حدثت في مصر وتونس، وكان حديث الشارع آنذاك هل من الممكن أن تقوم الثورة في سوريا وكيف سيكون ذلك وكيف ستكون ردة فعل النظام، وهل من المعقول سقوط بشار الأسد بالمظاهرات ومن أي مدينة ستكون البداية؟ وأسئلة كثيرة كان مجرد التفكير فيها من المحرمات في ظل نظام الأسد".
كبائن الشرطة والأطفال المتمردون
في حي الأربعين الذي يقع في الطرف الغربي من الجزء القديم لمدينة درعا، كان عناصر الكبائن يحدون من تحركات الناس في الحي ويمنعون التجمعات، حتى لو اقتصر على بعض شباب في الطريق أو على الأرصفة.
كان بشير وبعض الشباب ممن يلتقون ليلاً للسمر في شوارع الحي أو في بعض الأزقة يشعلون النار ويلتفون حولها، ويتبادلون أطراف الحديث، إلى أن قام عناصر الكبائن بمنعهم من التجمع في الحي، والتهديد باستدعاء قوات الأمن لاعتقالهم. رفض الأطفال الانصياع لأوامر عناصر الشرطة لأنهم لا يسببون الإزعاج لأحد من قاطنيه.
يتابع بشير: "في اليوم التالي كنا في المكان نفسه ضمن الحي فقام عناصر (الكولبة) باستدعاء دورية من مخفر حي العباسية، ليحاولوا الإمساك بنا لكن استطعنا الهروب، وفي اليوم الذي يليه تكررت الحادثة نفسها وصرنا نتراشق بالحجارة مع عناصر شرطة حي العباسية".
"ادعى أحد عناصر الحراسة الليلية في الكولبة أننا حاولنا إشعال النار به وهو نائم والشروع بقتله، فدهم عناصر المخفر البيوت في وقت متأخر من الليل، واعتقلوا 7 أطفال من الحي.. وهكذا أصبحت المداهمات بشكل دوري ويومي، تأتي سيارات الأمن لتقوم باعتقال أحد الأطفال من المنزل، لدرجة أن الكثير من الأهالي غادروا منازلهم خوفاً من اعتقالهم ضمن هذه الحملات العشوائية".
"اجاك الدور يا دكتور"
"ذكرى بشير ونايف أبازيد"
يكمل بشير أبازيد سرد ما حدث وقال:
بتاريخ السادس عشر من شباط \ فبراير عام 2011 كُتبت بعض الشعارات على جدار مدرسة بنين درعا البلد في حي الأربعين ومدرسة معاوية ومدرسة الجمارك، فقام مدير مدرسة البنين باستدعاء الشرطة من مخفر العباسية، وعندما وصلوا وشاهدوا الكتابات، "اجاك الدور يا دكتور" و"يسقط الرئيس بشار الأسد"، تملكهم الخوف واستدعوا المخابرات العسكرية بقيادة العقيد لؤي العلي، ليتسلم القضية.
ومن هنا بدأت قصتنا، أنا بشير أبازيد وصديقي نايف أبازيد، كنا قد كتبنا أسماءنا على جدار المدرسة بتاريخ 2009 كذكرى نخلدها أيام الدراسة، وهو ما لفت عناصر الأمن في أثناء القيام بالتحريات، وادعوا بأن محللين أكدوا أن الخط الذي كتب به "اجاك الدور يا دكتور" هو نفسه الذي كتب به "ذكرى بشير أبازيد ونايف أبازيد".
نايف أبازيد.. أول الأطفال المعتقلين
اعتقلت قوات الأمن نايف من المدرسة وهو في الصف السابع الإعدادي (13 عاماً)، واقتادته إلى فرع الأمن العسكري في مدينة درعا خلف نادي الضباط، وهناك انهالوا على نايف بالضرب بوحشية وهمجية، وأخبروه حينذاك بأنه من قام بكتابة العبارة "اجاك الدور يا دكتور" وأنكر تلك التهمة وأكد أنه كتب ذكرى مع بشير فقط عام 2009.
في الفرع أخبروا نايف أنه لا يزال صغيراً، وطلبوا منه الاعتراف بأنه من قام بالكتابة، والبصم على تعهد بعدم إعادة فعلته، ووعدوه بإطلاق سراحه، وفتحوا له باب الفرع.. وبسبب الضرب والتهديد وافق نايف وبصم على الأوراق التي تدينه، وعندما توجه إلى الباب ليهم بالخروج، أخبروه أنه لن يخرج حتى يأتي بشير ويعترف أيضاً، وتم تحويله إلى فرع المخابرات العسكرية بالسويداء.
في هذه الأثناء كانت دوريات الأمن وعلى مدار 3 أيام تدهم بيت بشير في حي الأربعين ليلاً أو بعد منتصف الليل، لكن بشير هرب من المنزل مدة 3 أيام، وفي اليوم الرابع ذهب إلى المدرسة، وأخبره الطلاب أن المخابرات اعتقلت نايف لأن اسمه مكتوب على جدار المدرسة، ويبحثون عن بشير أيضاً.
وأوصلت المخابرات إلى ذويه الكثير من التعهدات بأنه سيدخل الفرع فقط نصف ساعة، ويتم الإفراج عنه وعن صديقه نايف، وأن نايف لن يخرج من السجن حتى يتعهد بشير بأنه لن يقوم بمثل هذا الفعل مرة أخرى.
بشير ثاني الأطفال المعتقلين.. تعذيب مستمر
قام بشير بتسليم نفسه يوم السبت في الـ 19 من شباط 2011 وكان يرافقه حينذاك أمه وأخوه يحيى الذي استشهد خلال الثورة، وبعد أن أمسك به عناصر الأمن أخبروا أهله أن عليهم المغادرة لأنه سيتأخر ساعة أو أكثر بقليل، وأن الوقوف ممنوع أمام باب الفرع.
يقول بشير: "في هذه اللحظة خفت كثيراً من الكذب الذي يحدث، دخلت على الفرع لمقابلة العقيد لؤي العلي ولكنه كان خارج الفرع، وتم التحقيق معي بطريقة سيئة جداً، وأخبرتهم أنه لا يوجد لدي شيء لأعترف به، ولم نكتب شيئاً لا أنا ولا نايف، لكنهم أصروا على اتهامنا وأنه يجب أن نأخذ جزاءنا.. دخلت في الساعة 11 صباحاً وتم تحويلي إلى فرع السويداء في نهاية اليوم، ليتم مواجهتي مع نايف في اليوم نفسه، وعند دخولي إلى الفرع كان الوضع سيئاً جداً وتعرضت للضرب والتعذيب النفسي والجسدي، والشبح على الجدران والدواليب، فضلاً عن تجويعنا وتعطيشنا بشكل متعمد من دون رحمة، وهكذا أبقونا في الفرع خمسة أيام.
وأضاف: "كنا نتعرض خلال التحقيق في فرع السويداء للتعذيب والإهانة والذل والشتائم، كما تمت تعريتنا بشكل كامل.. حينذاك أحضروا نايف إلى جانبي ونظرت خلسة من تحت العصابة التي وضعوها على عيني، ولم أر سوى قدمي نايف اللتين كانتا مدميتين ويظهر عليهما آثار التعذيب بشكل مرعب، فعرفت المصير الذي سوف يلاقيني".
بعد 5 أيام من التحقيق في فرع السويداء واعتراف بشير ونايف تحت التعذيب بأنهم من كتبوا على الجدار، طلب منهما أسماء من شاركوهم في الكتابة وأسماء مَن حرضهم.. نايف لم يتحمل التعذيب وأخبرهم ببعض الأسماء، وسألوا بشير إذا ما كان كلام نايف صحيح، فأجابهم بأنه صحيح، لتقوم قوات الأمن بمداهمة منازل كل من ذُكر اسمه واعتقالهم.
الأطفال المعتقلون ليسوا مَن كتب العبارات على الجدران
بشير كان يصف التحقيق بأنه قطع من العذاب، حيث كان يتم استجوابهم من الساعة العاشرة ليلاً إلى الساعة الخامسة فجراً بشكل فردي وتعاد الأسئلة نفسها على الآخرين، ومن النادر أن يجري التحقيق مع اثنين في الوقت نفسه.
ويقول بشير: "كان التعب يلاحقنا نفسياً وجسدياً وإلى الآن كل ما أتذكر تلك اللحظات تصيبني حالة نفسية سيئة وغريبة".
كان المحققون يسألون بشير "أي ساعة كتبت العبارات على جدار المدرسة؟"، فيخبرهم في الساعة 9 ليلاً، وعندما يسألون نايف يخبرهم أنهم كتبوا العبارات في الساعة الواحدة ليلاً، وبسبب عدم تطابق الأقوال تتجدد حفلات التعذيب حتى تتطابق جميع الأقوال.
وتابع أبازيد "بالواقع عدم التطابق في الاعتراف سببه الوحيد أننا لم نكتب شيئاً، لكن التعذيب كان يجبرنا على الاعتراف بأي شيء".
في التحقيق سُئل الأطفال عن مَن قام بالبخ، ومَن الذي كان يراقب، وهل ذهبوا مشياً أم على الدراجات النارية، وما لون الدهان المستعمل، ومن أي دكان اشتروه، ومَن الذي دفع ثمن البخاخ؟
هذه الأسئلة الكثيرة والجميع بريء من التهمة وعدد المعتقلين الكبير، كان يعني أن التعذيب والتحقيق مستمر حتى تتطابق الأقوال.
وأشار بشير إلى أن المحققين كانوا معتقدين أنه لا علاقة للمعتقلين بالقضية، بسبب الاختلاف الكبير في الأقوال، وتابع: "لكن كان لديهم قضية وهي الكتابات السياسية على جدران المدرسة، فالمخفر في درعا لم يستطع تحمل مسؤولية الأمر، ولا حتى المخابرات العسكرية في درعا التي بدورها حولته إلى المخابرات العسكرية في السويداء، وفي السويداء لم يكن لديهم خيار لتبرير أو إغلاق الملف سوى إنزال أسوء أساليب التعذيب بنا للحصول على اعترافات.
والجدير بالذكر أن موقع تلفزيون سوريا لم يتمكن من التأكد من الشخص الذي كتب العبارات على جدران درعا، ولذلك فإنه ما زال مجهولاً حتى اليوم.
إلى فرع فلسطين
في النهاية لم يتحمل فرع السويداء مسؤولية الملف، فتم تحويل المعتقلين إلى فرع فلسطين في العاصمة دمشق، وهناك وفي الأيام الثلاثة الأولى اكتشفوا أن التعذيب أشد وأمر من فرع السويداء.
ويصف بشير العصابة التي يضعونها على عيونهم، "فهي كانت قطعة من دولاب الدراجة النارية الداخلي (الكاوتشوك)، وكانت أصغر من الرأس، وهي وحدها كانت تعذيباً مستمراً.. كنت أحس برأسي سينفجر".
في إحدى جلسات التعذيب، ومن شدته، وقعت العصابة عن رأس بشير، ورأى محققاً وراء المكتب وحوله 6 أو 7 أشخاص يضحكون بصوت منخفض.
يتابع بشير: "ضمن جولات التحقيق والتعذيب اعترفنا على أشخاص، وهم بدورهم اعترفوا على آخرين، فوصل عدد المعتقلين حينذاك إلى 24 شخصاً وأكثر من 25 آخرين باتوا مطلوبين للقوى الأمنية.
سلّم عدد من الـ 24 شخصاً أنفسهم كما فعل بشير، في حين اعتقل البقية في أثناء المداهمات الليلة على البيوت.
بقي المعتقلون في فرع فلسطين 24 يوماً، وانخفضت وتيرة التحقيق والتعذيب من اليومية إلى كل 4 أيام مرة.
الضابط اللطيف: والله ما رح تطلع حتى يشيب شعر راسك
يصف بشير أحد المحققين بأنه كان يتعامل معهم بدرجة أقل من التعذيب أو ربما كانت لطافة مصطنعة لاستدراجهم، فسأله بشير "سيدي مشان الله، نحن ايمت رح نطلع من هون؟"، ليرد عليه "والله ما رح تطلع حتى يصير راسك أبيض كلياته".. كان عمر بشير حينذاك 14 عاماً.
وأضاف: "لم يكن هناك أي بوادر أو بشريات لخروجنا من هذا الجحيم، اتهمونا بقضية كبيرة علينا كثيراً.. عندما نقلونا إلى مهجع فيه العديد من المساجين، طلبوا منا ألا نخبر أحداً بالذي حدث معنا أو ما قضيتُنا، وألا نخبر أحداً بأسمائنا".
أول مظاهرة في درعا.. والأطفال في فرع فلسطين
يوم الجمعة في الـ 18 من آذار 2011، استدعى أحد السجانين نايف وبشير، وسألهما عن قصتهما، فأخبراه بما حصل، ويقول بشير: "كانت نظراته توحي بأنه يعرف شيئاً لكنه يخفيه عنا، فسألنا: متى تحبون الخروج قبل عيد الأم أم بعده؟، فرددت عليه بسرعة من دون تفكير ومن دون أن أعرف موعد عيد الأم: طبعاً قبل العيد، فقال: من الواضح أنك مستعجل جداً للعودة، فرددت: نعم بالتأكيد حاب ارجع عند أهلي.. استغربت أسئلته وأعادنا إلى المهجع.. شعرت بأن شيئاً غريباً قد حدث".
ويكمل بشير سرد ما حصل معه: "يوم الأحد صباحاً في الـ 20 من آذار تم استدعاؤنا، فتفاجأت بأعداد المعتقلين في القضية نفسها، كلهم من الحي نفسه و3 أشخاص من طفس.. وقال لنا ضابط كبير: "أنتم أخطأتم بحق الرئيس بشار الأسد والسيد الرئيس أصدر مرسوماً رئاسياً بخصوصكم وقرر العفو عنكم على ألا تعودوا إلى فعلتكم مرة أخرى".
بدأ العناصر في الفرع بالهتاف "بالروح بالدم نفديك يا بشار"، وأشاروا بأيديهم إلى الأطفال والمعتقلين ليهتفوا أيضاً.
يقول بشير: "يومها وبعد شهر من التعذيب والتحقيق، تغيرت المعاملة، وعرضوا علينا الذهاب للاستحمام أو طلب الطعام، ثم أخرجونا إلى ساحة الفرع وأحضروا حافلة لتقلنا.. نايف عندما اعتقل كانت معه حقيبته المدرسية تحتوي على دفاتره وأقلامه وتذهب معه من فرع إلى آخر، وسلموه إياها في فرع فلسطين لحظة خروجنا".
إطلاق سراح الأطفال.. "يا شباب ضحكوا علينا.. جابونا يعدمونا"
نُقل المعتقلون المفرج عنهم إلى المخابرات العسكرية في درعا، وهناك بصموا على أوراق لا يعلمون ما المكتوب فيها، وبعدها نقلوا إلى مبنى الحزب الجديد، وعند وصولهم إلى مبنى الحزب الجديد، كان هناك جماهير غفيرة بالآلاف في الساحة.
حينذاك صرخ أحد المعتقلين: "يا شباب والله ضحكوا علينا من الشام لدرعا، والله إنهم يجهزون ساحة لإعدامنا اليوم، طلعوا في آلاف البشر في الساحة".
ويكمل بشير: "دبّ الرعب في قلوبنا إلى أن دخلت الحافلة وسط التجمع، ليهجم جموع المتظاهرين على الحافلة ويهرب عناصر الأمن إلى داخل الفرع وتركونا داخل الحافلة، والناس تشير إلينا للخروج، فقفزنا من النوافذ، لنجد أنفسنا بين إخوتنا.
لحظة معرفة المعتقلين باندلاع الثورة
بعد أن نزل بشير من الحافلة أمام مبنى الحزب الجديد، عثر على أخيه يحيى وأخبره بما حصل في فترة اعتقالهم من مظاهرات وشهداء واعتقالات وتوقّف الحياة المدنية.
اقرأ أيضاً: "من حوران هلت البشاير" في 18 آذار.. الدوافع والشرارة الأولى
وتابع: ثم رفعونا فوق الأكتاف، وبدأت الهتافات "الله سوريا حرية وبس" و"هاي رجالك يا درعا"، وانتقلت بنا المظاهرة إلى ساحة المسجد العمري بدرعا البلد.
ويختم بشير أبازيد المقيم حالياً في تركيا حديثه بالتأكيد أنه "لولا اندلاع الثورة وخروج المظاهرات لكان من المستحيل أن يتم إطلاق سراحنا أبداً".
"بعد كل الذي ذقته من عذابات في تلك الأيام فأنا أفضل العيش في أي مكان تحت القصف والتشريد والبرد على أن أعيش في ظل النظام، ولو تريد سؤالي عن السجن فالجواب أنني أفضل الموت على أن أعيش يوماً واحداً في سجون بشار الأسد".