انتهى الدفاع المدني السوري من أعمال ترحيل أنقاض الأبنية المنهارة من جراء زلزال السادس من شباط المدمر في شمال غربي سوريا، ليختتم بذلك بعد 4 أشهر من الكارثة أضخم عملية خاضتها الخوذ البيضاء، وتكون هذه العملية الضخمة الإنجاز الوحيد المكتمل فيما يتعلق بالزلزال، في حين يكافح الناجون للاستقرار في حياة جديدة، لكن النقص الحاد في الدعم الإنساني وغياب الحوكمة يحول دون ذلك.
بلغ حجم الأنقاض المرحلة من قبل الخوذ البيضاء أكثر من 400 ألف متر مكعب في أكثر من 120 مدينة وبلدة وقرية، وفتحت فرق الدفاع المدني طرقاً بطول 160 كم، ونفذت 540 عملية إزالة جدران أو أسقف متصدعة، وفرشت أكثر من 300 ألف متر مربع من الأراضي وفرشتها بالحصى والأنقاض التي خلفها الزلزال بعد إعادة تدويرها.
فجوة التمويل 77%
وما إن انقشع غبار الزلزال وأنقاضه حتى بدأت تظهر ملامح تبعات الكارثة، وباتت المدن المنكوبة خليطاً بين خيام منصوبة ومبان ناجية، بعضها بحاجة لترميم وبعضها يعيش فيه أطفال مصابون بصدمات نفسية حادة أو أرامل منسيات.
بلغ عدد الأسر التي فقدت منازلها أكثر من 100 ألف أسرة، في منطقة يعيش فيها أكثر من مليوني نازح ومهجر بينهم 800 ألف شخص في خيام عمرها أكثر من عام ودون تجديد. الأمم المتحدة التي تقاعست عن المساعدة في الأسبوعين الأولين من الزلزال في فضيحة عالمية كبرى، أمنت وكالاتها 10 آلاف خيمة فقط كملاجئ طارئة لـ 53 ألف شخص، في حين بلغ عدد المحتاجين للمأوى الطارئ أكثر من مليون شخص، ووصلت مساعدات غير غذائية لـ 335 ألف شخص فقط من أصل 2.1 مليون محتاج.
وفق هذا الواقع الإنساني الكارثي يمكن القول إن الشمال السوري متروك في بقعة محاصرة، في الوقت الذي يحصل فيه النظام على أكثر من 90% من الدعم الأممي، ما عدا المساعدات القادمة من دول التطبيع، علماً أن 90% من الأضرار الناجمة عن الزلزال وقعت في شمال غربي سوريا.
جنديرس
الآن، وبعد 4 أشهر من الزلزال تعود الحياة تدريجياً إلى مدينة جنديرس، أكثر المدن تضرراً بالزلزال. في الوقت الذي تواصل فيه فرق الدفاع المدني هدم المباني أو الشرفات المعرضة للسقوط، تعلو أصوات الباعة في "البازار"، وتصل حافلات إلى المخيمات ليتبين أنها مدارس متنقلة جهزتها منظمة محلية. هذه الجهود المحلية للمنظمات تخفف الكارثة والصدمة قليلاً، لكنها ضمادة لجرح غائر يحتاج لمبضع جرّاح.
يقول محمود حفار، رئيس المجلس المحلي لمدينة جنديرس إنهم يعملون مع المنظمات الإنسانية على توفير الاحتياجات الأساسية لمراكز الإيواء والمخيمات، ولا سيما البنية التحتية المتعلقة بالصرف الصحي وتوفير المياه الضرورية للمتضررين، وخصوصًا في ظل قرب موسم الصيف والخوف من انتشار الأمراض. كما تم العمل على إعادة النشاط التجاري إلى كافة أسواق المدينة، وذلك بهدف مساعدة المواطنين وتوفير فرص عمل تساعدهم على العودة إلى حياتهم الطبيعية.
ولفت حفار في حديثه لموقع تلفزيون سوريا إن معظم المساعدات من منظمات محلية، وسط النقص الكبير في الدعم الأممي الذي يقتصر على تأمين نوافذ وأبواب وبعض الاحتياجات للمنازل بما لا يتجاوز 500 دولار.
ينشر المجلس المحلي للمدينة المنكوبة على صفحته في فيسبوك بشكل دوري، قوائم لمنازل قررت اللجان الهندسية هدمها، ويتخلل هذه المنشورات، قوائم أخرى عن إعلانات لمنظمات محلية لمشاريع النقد مقابل العمل، أو ترميم أماكن العمل المتضررة.
لا تقتصر أضرار الزلزال في مدينة جنديرس على المباني فوق الأرض، فالبنية التحتية تحت الأرض كشبكات المياه والصرف الصحي تضررت بنسبة 80 بالمئة.
يواجه السكان تحديات جمّة، من بينها صعوبة العودة للسكن مرةً أخرى وتأمين المأوى، بالإضافة إلى قلة فرص العمل التي تعيد الحياة إلى دورتها الطبيعية، ويستطيع من خلالها المواطنون تعويض ما فقدوه بسبب الزلزال من أثاث وممتلكات وغيرها من مستلزمات المعيشة.
يقول رئيس مجلس جنديرس المحلي إن اجتماعات لجان التنظيم العمراني والحضاري خلصت إلى أن التوسّع العمراني سيكون أفقياً في أبنية من طابقين أو ثلاثة كحدٍ أقصى، مع مراعاة المعايير الدولية المعتمدة للبناء في مناطق الزلازل.
وفي سياق الحديث عن معايير البناء وأكواد الزلازل، أكدت مصادر حقوقية ومحلية لموقع تلفزيون سوريا إن السلطات الأمنية والقضائية سواء في مناطق سيطرة الجيش الوطني أو مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، لم تحتجز أي مقاول بناء أو رئيس مجلس محلي، أو تحقق معهم على الأقل، وهذا ما تعزوه المصادر إلى أن "الحكومتين" في المنطقتين متورطتان في هذه الجريمة.
أما عن القطاع الطبي في منطقة عفرين، فيقول الدكتور أحمد حاجي حسن، مدير صحة منطقة غصن الزيتون إنه وقبل الكارثة كان مهملاً من قبل المنظمات الدولية مقارنةً بإدلب، "لأسباب نجهلها، ربما تكون سياسية".
أرهق الزلزال القطاع الطبي المستنزف مسبقاً بسبب جائحة كورونا وارتفاع معدلات الإصابة بالكوليرا، وزيادة نسب المرضى بحكم الظروف المعيشية والصحية المتردية. يحمل مستشفى عفرين الوطني العبء الأكبر، ويساعده في منطقة عفرين مستشفيان آخران فقط.
يقول الدكتور أحمد لموقع تلفزيون سوريا: كنا نطالب الجهات الدولية بدعم إنشاء مستشفى جراحي كبير يخدم مدينة عفرين ونواحيها، لكن لم نتلق أي استجابة. وبعد كارثة الزلزال، سارعت بعض المنظمات المحلية لتقديم المساعدة للمتضررين، ولكن لم تكن كافية. وفي الوقت نفسه تأخرت المساعدات الدولية والتي لم تواكب حجم الكارثة، وعلاوة على ذلك كانت معظم التدخلات طارئة فقط، مثل تقديم الأدوية الإسعافية والمستلزمات اللازمة، وإقامة العيادات المتنقلة والمشافي الميدانية المؤقتة".
تسعى مديرية الصحة الآن لبناء مستشفى في جنديرس، مؤلف من خمسة طوابق، ومستشفى آخر في عفرين.
إدلب
انعدام البدائل وغياب الرقابة.. العودة إلى منازل مهددة بالانهيار
ما يزال هاجس الموت تحت الأنقاض يلاحق عشرات العائلات التي تنام بين جدران متصدعة كتبت عليها عبارات تحذيرية من قبيل "إزالة" أو "للهدم".
من بين هؤلاء الأشخاص يعيش أبو مصطفى هذه المجازفة وعاد مع عائلته بعد أن ضاقت به المنطقة إلى منزله الصادر بحقه قرار هدم جزئي. "عم نام وعيوني مفتوحة مشان إذا هزت الأرض لحق اسحب الأولاد لبرا البيت" هذا ما قاله أبو مصطفى ملخصاً حياته منذ ثلاثة أشهر حتى الآن.
بُعيد الزلزال سكنت عائلة أبو مصطفى عند أقاربه وانتظر تحقيق الوعود بمنحه وحدة سكنية، ثم تضاءلت أحلام العائلة إلى مستوى الحصول على خيمة، إلا أنه وبحسب ما رواه لموقع تلفزيون سوريا لم يتمكن من الحصول عليها من المنظمات الإنسانية، ليضطر إلى شراء واحدة بـ 200 دولار أميركي، فترميم الجزء المتضرر من منزله سيكلفه 3000 دولار أميركي.
اليوم يعيش أبو مصطفى مع زوجته وأطفاله الثلاثة الذين لم يتجاوز أكبرهم الـ 11 عاماً في منزل آيل للسقوط في منطقة سلقين.
وبعيد الزلزال شكلت كل من الحكومة السورية المؤقتة وحكومة الإنقاذ لجان إشراف هندسي أجرت كشوفاً ميدانية على المباني المتضررة بفعل الزلزال وقسمتها إلى عدة أقسام:
- مبان سليمة
- مبان تحتاج إلى ترميم
- مبان تحتاج إلى إزالة جزئية
- مبان تحتاج إلى هدم
في بلدة حزرة شمالي إدلب يعيش رفعت البرم مع أطفاله الخمسة في منزل مهدد بالانهيار وطلبت اللجنة الهندسية إخلاءه بشكل فوري، فنصبت العائلة خيمة بجانب المنزل لتنام فيه، في حين تقضي ساعات النهار داخل المنزل الخطير.
قصص أبو مصطفى ورفعت البرم ليست قصصاً فردية لآباء يجازفون بحياتهم وحياة أطفالهم من خلال العيش في منازل آيلة للانهيار، بل هناك العشرات وربما المئات مثلهم في الشمال السوري.
حوكمة تقتصر على تقييم المباني
أجرت اللجان الهندسية المختصة بمعاينة المنازل المتضررة بفعل الزلزال في مناطق نفوذ "حكومة الإنقاذ"، كشوفاً ميدانية على 5500 منزل متضرر من الزلزال وفق إحصائيات وزارة الإدارة المحلية والخدمات، وكان تقييم اللجان للمنازل على الشكل التالي:
عدد المنازل السليمة والقابلة للسكن: 1221 منزلا
عدد المنازل الصالحة للسكن لكن تحتاج لترميم: 1896منزلا
عدد المنازل غير الصالحة للسكن قبل التدعيم: 1455 منزلا
عدد المنازل التي تحتاج إزالة كلية: 487 منزلا
عدد المنازل التي تحتاج إزالة جزئية: 431 منزلا
بعد انتشال الجثث وترميم بعض الأضرار في البنى التحتية، تقتصر خدمات "الإنقاذ" على التقييم الهندسي، لم يكن هناك خطوات عملية جدية للتعامل مع المنازل المتضررة، حيث رصد موقع تلفزيون سوريا على معرفات وزارة الإدارة المحلية والخدمات في حكومة الإنقاذ القرارات المتعلقة بالمباني المتضررة من الزلزال وكانت على الشكل التالي:
في السادس من شباط يوم وقوع الزلزال أصدرت وزارة الإدارة المحلية والخدمات في حكومة الإنقاذ تعميماً حذرت فيه مَن تضررت منازلهم خلال الزلزال من العودة إليها دون التأكد من سلامتها من قبل لجان متخصصة من المهندسين.
في الـ 11 من شباط أصدرت الوزارة قرار تشكيل لجان السلامة الإنشائية، للكشف على المباني المتضررة من الزلزال.
في الـ 22 من أيار الماضي أصدرت الوزارة حزمة من القرارات المتعلقة بالتراخيص الهندسية والإنشائية للمباني بشكل عام، وأحدثت مديرية للشؤون الهندسية من بين مهامها، تصنيف المهندسين والمكاتب الهندسية إلى اختصاصات، وتصنيف المقاولين العاملين في مناطق سيطرة حكومة الإنقاذ ومنح المعتمدين منهم رخصة مزاولة مهنة، كإجراء لضبط أعمال المقاولة والبناء.
عجز "الإنقاذ" عن تقديم البدائل للمتضررين يجبرها على التراخي وعدم تطبيق قرارات منع العودة إلى المنازل المهددة بالانهيار.
عرّى الزلزال الأمم المتحدة والمنظمات المحلية وحكومتي المؤقتة والإنقاذ، فأكثر من مليون شخص باتوا دون منازل ودون تعويض ودون مساعدة لترميم ما تبقى، بل إن أدنى ما يطمح له هؤلاء خيمة لم يدخل منها إلى شمال غربي سوريا سوى 10 آلاف فقط.
ولا يقتصر الفشل الحكومي المروع في أزمة الزلزال على قطاع المأوى، فكان من اللافت غياب المساءلة القانونية للمقاولين المسؤولين عن مشاريع سكنية بُنيت في السنوات القليلة الماضية وانهارت بشكل كامل.
المشروع السكني قرب قرية بسنيا والمعروف باسم مشروع بسنيا أو مشروع البطل نسبة إلى المقاول الذي بناه؛ كان أكبر مثال على ذلك، فالمشروع الذي تحول إلى غبار قضى تحت أنقاضه ما يقرب من 400 شخص. وتتضارب أنباء غير رسمية عن اعتقال المقاول المسؤول عنه في حين غابت التصريحات الرسمية منذ أربعة أشهر وحتى الآن، وذلك على الرغم من إجراء وزارة الإدارة المحلية كشفاً فنياً يثبت وجود خلل إنشائي يتعارض مع قواعد السلامة الإنشائية، ورفعها إلى وزارة العدل وفق ما صرح به المهندس سعيد الأشقر مستشار وزير الإدارة المحلية لموقع تلفزيون سوريا.