تتصدر شهادة جامعية محلاً صغيراً لبيع المشروبات الساخنة يُديره الشاب "محمد السليت" في مدينة الأتارب غربي حلب (30 كيلومتراً)، هرباً من الواقع المعيشي الصعب، وارتفاع معدلات البطالة ووصولها لأرقام قياسية تطارده وزملاءَه من حاملي الشهادات الجامعية في شمال غربي سوريا.
تخرج "السليت" من كلية الحقوق في جامعة إدلب الحرة عام 2020، إلّا أن عجزه في إيجاد فرصة عمل في المنظمات الإنسانية غير الحكومية والمؤسسات التابعة لحكومة الإنقاذ في إدلب ومؤسسات الحكومة السورية المؤقتة في شمال حلب، دفعه لافتتاح محل لبيع المشروبات الساخنة كـ"القهوة والشاي" بالإضافة إلى أنواع عدّة من الدخان.
يقول "السليت" البالغ من العمر 31 عاماً لـ موقع تلفزيون سوريا: "منذ أن تخرجت في الكلية وأنا لم أتوقف عن تعبئة نماذج الشواغر الوظيفية التي تُعلن عنها المنظمات الإنسانية، وإلى اليوم لم أحصل على أي ردّ من هذه المنظمات، سواء بالرفض أو الإيجاب، واصفاً السبب الوحيد وراء ذاك هو "المحسوبية والواسطات".
يُعيل السليت عائلته المكونة من 3 بنات وزوجته، ويؤكد في حديثه أن تأمين لقمة العيش اليومية في هذا المحل الصغير، أفضل من شهادتي الجامعية التي فَنيت لأجلها سنوات طويلة، والتي أصبحت اليوم ضمن إطار بلاستيكي ثمنه 50 ليرة تركية معلّق داخل هذا المحل.
ومثله كثيرون من خريجي الجامعات في شمال غربي سوريا، إذ يعيشون في غالبيتهم قصصاً مؤلمة، وهم يبحثون عن شاغر وظيفي لهم بين أزقة المؤسسات والمنظمات الإنسانية، تُناسب تخصّصاتهم الجامعية أملاً بإيجاد فرصة عمل تساعدهم في تكوين أسرتهم بعد صراع طويل لسنوات مع كتب الدراسة.
ولا يأمل العديد من الطلبة في جامعات إدلب وحلب، مِمّن التقاهم موقع تلفزيون سوريا بأنهم سيجدون فرصة عمل عقب تخرجهم، ويؤكد غالبيتهم أنهم سينضمون إلى قائمة العاطلين عن العمل بمجرد تخرجهم، وأن سعادتهم تكمن في نيل شهادة التخرج فقط، تحسباً من استقرار الوضع مستقبلاً في شمالي سوريا، ومعرفة مصيرهم المجهول في ظل الواقع الراهن غير المستقر أمنياً.
يقول الشاب "عماد بوزغة" (28 عاماً) والحاصل على شهادة في الأدب الإنكليزي من جامعة حلب الحرة، أنه عمل في مهنٍ عدّة منذ تخرجه في كانون الثاني 2022، من أبرزها بائع حلويات في أحد المحال التجارية في مدينة الدانا شمالي إدلب، وعامل لدى إحدى شركات الإنترنت، وآخرها عامل في محطة محروقات في بلدة تل الكرامة شمالي إدلب.
ولفت بوزغة في أثناء حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا إلى أن جميع هذه الأعمال بعيدة كل البعد عن اختصاصه ودراسته الجامعية، مطالباً حكومة الإنقاذ ونظيرتها المؤقتة بأن تأخذ على عاتقها مستقبل خريجي الجامعات وأن تعمل على توفير فرص عمل مناسبة لأصحاب الشهادات التي كلّفت حامليها نفقات طائلة لذويهم على حساب معيشة العائلة.
ويشرف على جامعة إدلب الحرة مجلس التعليم العالي في حكومة الإنقاذ، بينما تُشرف وزارة التعليم العالي في الحكومة السورية المؤقتة على جامعة حلب الحرة، التي يقع مقرها الأساسي في مدينة اعزاز شمالي حلب.
ما ردّ الجامعة؟
يقول نائب مدير جامعة حلب الحرة أحمد القدور لـ موقع تلفزيون سوريا إن مديرية التربية سواء في حلب أو إدلب تطلق سنوياً مسابقة لإنتقاء مدرسين للعمل في المدارس، وكذلك الوزارات والمنظمات الداعمة لبعض المدارس في شمال غربي سوريا.
وأسقط القدور مهمة الجامعات في شمالي سوريا من أخذ دور التوظيف للطلاب، مؤكداً أن مهامهم تتحدد في منح طابع العلم والتدريس للطلبة لا أكثر.
ورأى القدور أن سوق العمل في المناطق المحررة تحديداً؛ له شروطه ومعاييره الخاصّة (وفق قوله)، وأن الفروع الجامعية متنوعة، وعلى سبيل المثال فإن خريج الكليات الطبية يجدون فرصة عمل حتماً، نتيجة نقص الكوادر الطبية في المستشفيات والنقاط الإسعافية.
وأرفق حديثه بضرورة تروي الطلاب في اختيار تخصّصاتهم في الجامعات مع مراعاة ما يناسب معيار النجاح في الثانوية العامة، مشيراً إلى أن غياب الوعي الكافي لدى الطلاب بشكل عام، أسفر عن اختيار عدد كبير منهم لفروعٍ جامعية محدّدة لا تتوافر لها فرص كبيرة في سوق العمل عقب التخرج.
ووافق المسؤول في جامعة حلب ما أجمع عليه العديد من الطلاب مِمّن استطلعَ آراءَهم تلفزيون سوريا، من خريجي شهادتي "الحقوق والعلوم السياسية" على وجه التحديد، بعدم وجود فرص عمل أمامهم في الشمال السوري المحرر.
ولكن القدور ألقى اللوم على الحكومتين "الإنقاذ والمؤقتة" بعدم إنشاء مراكز متمّمة لشهادتي الحقوق والعلوم السياسية واللغات ، كـ"إنشاء معهد عالٍ للقضاء - كليات شرطة – مراكز لأمن المعلومات – معامل خبرة جنائية – ومراكز لأمن الوثائق"، لافتاً إلى أن إنجاز هذه المراكز يحتاج إلى دولة قائمة لها مقومات وموازنة ومن شأنها أن توفر فرص عمل عديدة في المنطقة.
وكشف القدور عن وجود مساعٍ من الحكومة السورية المؤقتة في ترخيص عدد كبير من الأكاديميات المهنية التدريبية، بهدف صقل خبرات ومعارف الخريجين ودمجهم في سوق العمل، مشيراً إلى أنه تم مؤخراً استحداث بعض المراكز التدريبية في عددٍ من الجامعات.
واعتبر أن الحل الإسعافي لعدم تراكم هذه الشهادات هو البحث عن حلول من خارج الصندوق، وهو ما يحتاج وفقاً له؛ إلى تنظيم ورشات تدريبية تديرها عقول مثقفة متنوعة الأطياف العلمية والمجتمعية، للوصول إلى حلٍ وسطي يكون منصفاً للطلاب في شمالي سوريا.
وخلال إنجاز هذا التقرير حاول موقع تلفزيون سوريا التواصل مع وزارة التعليم العالي التابعة لحكومة الإنقاذ في إدلب، إلّا أنه لم يحصل على ردٍ رسمي منها.
ما عدد جامعات الشمال السوري؟
ويبلغ عدد الجامعات في الشمال السوري 12 جامعة، تتوزع 4 منها في منطقة إدلب وهي "جامعة إدلب الحرة وجامعة الحياة للعلوم الطبية وجامعة الشمال وجامعة ماري"، وجميعها لا تتلقى دعماً من حكومة الإنقاذ السورية، في حين تعتبر جامعة إدلب هي الأكبر في شمال غربي سوريا، إذ يُقدر عدد طلابها بـ22 ألف طالب.
كما وتتوزع 8 جامعات أخرى في ريفي حلب الشمالي والشرقي، وهي "جامعة حلب الحرة وجامعة شام وجامعة النهضة وجامعة غازي عنتاب وجامعة باشاك شهير وجامعة المعالي وجامعة آرام وجامعة الزهراء"، وجميعها لا تتلقى أي دعم حكومي، عدا جامعة حلب الحرة التي تحصل على دعم من الحكومة السورية المؤقتة، والتي يُقدر عدد طلابها بـ12500 طالب لعام 2023.
أسباب غياب الفرص
يرى المحلل الاقتصادي مصطفى نايف أن المنطقة في شمال غربي سوريا غير قادرة منذ سنوات على توليد أي فرصة عمل جديدة، بل تشهد منذ قرابة السنتين ارتفاعاً واضحاً في نسب البطالة بين الشباب، في حين لا توجد أيّة وظائف جديدة في مؤسسات الحكومتين المؤقتة والإنقاذ إلّا المؤسسات العسكرية منها.
ولعلّ أحد أهم أسباب انعدام فرص العمل وفقاً لـ "نايف" هو تقليص العديد من مشاريع المنظمات الإنسانية في منطقة إدلب تحديداً منذ قرابة السنتين، والتي أسفرت منذ ذلك الوقت عن استغناء العديد من الشبان عن شهاداتهم الجامعية التي أصبحت بلا قيمة.
ورشح الاقتصادي في حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا ارتفاع معدلات البطالة في شمال غربي سوريا خلال السنوات المقبلة، نظراً للمساحة الجغرافية وعدد سكانه الذين يعانون أساساً من أوضاعٍ معيشية واقتصادية صعبة، وسط غياب حلول عملية واقعية من قبل الحكومات التي تسيطر عليها.
"المشكلة داخلية"!
يرى مسؤول هيئة طلاب سوريا سابقاً "محمد الهترية" في مداخلة له مع موقع تلفزيون سوريا، أن مشكلة الطلاب الحقيقية هي داخلية بحتة، فالحقيقة المُرّة هي أن جامعة حلب لا تعترف بطلاب جامعة إدلب والعكس صحيح، وإلى اليوم تنكر جامعة حلب وجود بعض الجامعات المرخصة لدى مجلس التعليم العالي في حكومة الإنقاذ، مثل جامعة الحياة، وهو ما صرّح به رئيس جامعة حلب سابقاً بأنه لا توجد جامعة بالأصل اسمها جامعة الحياة.
وأشار إلى أنه بالرغم من جهود الطلبة في دراساتهم واختيار تخصّصاتهم وحمل شهاداتهم بعد التخرج، فإنهم يعانون أساساً حتى ولو وجدوا فرصة عمل، من قضية الاعتراف الدولي بشهادتهم، والتي إلى اليوم ما هي إلا عبارة عن مبادرات خجولة جدّاً، كتوقيع بعض الجامعات التركية مذكرات تفاهم، أو تصنيف بعضها في عدد من المواقع العالمية المتخصصة بتصنيف الجامعات مثل تصنيف QS.
ويرجع مراقبون أسباب عدم الاعتراف في الشهادات الصادرة عن الشمال السوري المحرر، إلى عراقيل سياسية، إذ ترى الدول الأوروبية أن مناطق وجود هذه الجامعات هي مناطق صراع إلى الآن.