لم تعد سوريا التي نعرفها كما هي فقد تغيرت ملامحها خلال 12 عاماً مضت، وقُسّمت بشكل غير رسمي مناطق نفوذ وسيطرة أمر واقع مع تدخلات دولية جمدت الحلول السياسية التي كان من المؤمل أن تؤدي لتحقيق العدالة الانتقالية وعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم والبدء في لملمة الجراح وبناء البلد على هدى وأهداف الثورة السورية في الديمقراطية والمواطنة.
ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 230224 مدنياً بينهم 15272 بسبب التعذيب واعتقال تعسفي أو إخفاء قسري لـ 154817 شخصاً وتشريد قرابة 14 مليون سوري، معظمهم على يد قوات النظام السوري.
سوريا.. حدود داخلية ومعابر
وعلى الخريطة السورية حواجز ومخافر ونقاط تفتيش وحدود ومعابر وإتاوات وضريبة عبور من أي نقطة في شماليها إلى أي نقطة في جنوبيها، وكذلك الحال من غربيها إلى شرقيها، والعكس في كل الحالات صحيح.
وتعيش سوريا بعمومها أزمات سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية غير منتهية المعالم، شديدة القسوة على المواطن السوري الذي فقد إيمانه بهذا الكيان لنقص كل معايير المواطنة والحياة فيه، مع الفشل البارز للنظام السوري الذي أذكى نار الحرب - باعتباره المسؤول الأول - وتسبب بتمددها من لحظة رفضه إطلاق النار على المتظاهرين العزل إلى وقت تدخل الدول القريبة والبعيدة والقوى العظمى فيها، إلى جانب الميليشيات الطائفية التي استوردت لتزيد الطين بلة في حرب شاملة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.
نحن في سوريا اليوم أمام خريطة نفوذ جُمدت منذ شباط عام 2020 حين سيطرت قوات النظام السوري بدعم وغطاء روسي على مساحات واسعة من ريف إدلب وريف حماة تلاها اتفاق خفض تصعيد بين أنقرة وموسكو في 6 آذار من العام نفسه، ما زالت حدوده ذاتها مع خروقات بين الحين والآخر من قبل النظام السوري وروسيا.
نسب السيطرة
وفي الوضع الحالي ترزح سوريا تحت حكم سلطات الأمر الواقع الممثلة في مناطق سيطرة النظام السوري وهي الأكبر مساحة بـ (63.38%) بعدد سكان بلغ 9.4 ملايين نسمة، تليها مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية "قسد" بـ (25.64%) بعدد سكان بلغ 3.050 ملايين نسمة، ثم المناطق التابعة لسيطرة المعارضة السورية بـ (10.98%) بعدد سكان بلغ 4.025 ملايين نسمة، بحسب مركز جسور للدراسات.
وتمثل هذه الخرائط أوضاعاً متباينة في ظل عدم الاستجابة الكافية للأزمات التي تطرأ عليها - كان آخرها في الزلزال المدمر - بعد 12 عاماً من قيام الثورة السورية وعدم نجاحها حتى الآن (لأسباب وظروف كثيرة لا يتسع التقرير لذكرها) في تحقيق أهدافها في الحرية وبداية عهد جديد ينهي عقوداً طويلة من الاستبداد.
في المقابل فشل المجتمع الدولي بعد 12 سنة ممثلاً بالولايات المتحدة والدول الغربية وتركيا من جهة، والإصرار الروسي الإيراني المتمسك بالنظام من جهة أخرى في عدم الوصول إلى أي حل سياسي ينهي الأزمة السورية عبر حل توافقي، مع الإشارة إلى الانكفاء العربي والدور غير الخفي لإسرائيل، في ظل موقع سوريا الجيوستراتيجي على خريطة الصراع الدولي.
النظام السوري.. فشل استثنائي
تشهد مناطق سيطرة النظام السوري فشلاً استثنائياً يزيد يومياً خصوصاً بين عامي 2018 -2023، فالوضع الاقتصادي وفق المعطيات التي تُدار بها الأمور عبر إعادة حكومة النظام تدوير المشاكل؛ فإن حُلت مشكلة الكهرباء بدأت أزمة المحروقات والوقود، وإن وقف الناس على دور الخبز صباحاً تأخرت رسالة الغاز المتوقعة في المساء لشهر أو شهرين. إن انخفض سعر السماد للفلاحين اختفى من الأسواق، إن زادت الرواتب المقدرة حالياً بمتوسط 13 - 15 دولاراً أميركياً بالشهر، ارتفعت الأسعار أضعافاً مضاعفة، وعلى هذا المنوال يعيش الناس في سوريا في معادلات مستحيلة الحل.
وأخيراً كانت أزمة البصل دليلاً على فشل النظام في تأمين أدنى مقومات الحياة للسكان القاطنين في مناطق سيطرته، إذ سمح بتصدير البصل للحصول على القطع الأجنبي فإذا به يستورده بأسعار أعلى بعد أشهر.
كما تكمن أساسيات الأزمة لدى النظام في حجم الفساد المفتوح لرجالاته وقواته وموظفيه، إذ لا تخلو مؤسسة مهما كبر حجمها أو صغر من الفساد والرشا والمحسوبيات والسرقة العلنية ما وسّع من حجم الأزمات.
ومثّل انتشار وباء الكوليرا ما يشبه الفضيحة بالنسبة لوباء انتهى في معظم دول العالم، وأدى لوفاة المئات وإصابة الآلاف حيث تقدر الأمم المتحدة أن ثلثَي محطات معالجة المياه في سوريا، ونصف محطات الضخ، وثلث أبراج المياه في سوريا تضررت منذ عام 2011، ولم يقم النظام بإجراء صيانة لازمة لها.
ومع فقدان الليرة السورية لقيمتها أمام الدولار بقيت السلع تبتعد عن متناول الأسر السورية التي لا تعرف كيف تعثر على الوجبة التالية، مع الإشارة إلى أن 90% من السوريين تحت خط الفقر وفق أرقام الأمم المتحدة لعام 2022.
استغلال الكوارث
وكان الزلزال مثالاً واضحاً على استغلال النظام السوري لأي مصيبة قد تحدث للسوريين، فعمل على إرجاع الأزمات التي تعاني منها مناطق سيطرته إلى العقوبات الغربية المفروضة عليه، وهو عكس الحقيقة لأن العقوبات لا تشمل أي مواد غذائية أو أدوية أو نقل مساعدات.
ورغم ما تم نقله عن دبلوماسية الكوارث التي حاول النظام استغلالها ليعود من الباب الإنساني إلى "الحضن العربي"، فشلت الإمارات وغيرها في إحداث أي شرخ حقيقي حتى الآن، كما أن جميع الوفود العربية التي زارت دمشق هي على علاقة به وتزوره من حين إلى آخر.
ولم يكن الوضع الأمني أفضل حالاً، حيث ما زالت القبضة الأمنية التي يفرضها النظام على السوريين في مناطق سيطرته كما هي، ويقوم النظام باعتقال أي شخص من بيته أو من حواجزه المنتشرة في مداخل ومخارج المدن، إلى جانب استمرار عمليات ابتزاز ذوي المعتقلين عبر شبكات نصب على صلة بالأجهزة الأمنية.
ولم يفرج النظام السوري في جميع مراسم العفو التي أصدرها بين آذار 2011 وتشرين الثاني 2022 سوى عن 7351 معتقلاً فقط، وما زال في سجونه أكثر من 135 ألف معتقل ومختف قسرياً، بحسب "الشبكة السورية لحقوق الإنسان".
ورغم مزاعمه بالسيطرة على درعا فإنها سيطرة هشة تفتقر إلى جميع معايير الاستقرار الأمني حيث لا تتوقف عمليات الاغتيال والاعتقالات والتفلت الأمني وانتشار السلاح في ظل وجود مجموعات عسكرية تنشط ضده منذ عام 2018، وهذا ينطبق نسبياً على محافظة السويداء.
الشمال السوري.. استقرار منقوص
بالمقارنة مع الأوضاع المعيشية مع مناطق النظام السوري تبدو مناطق شمال غربي سوريا، ومناطق تل أبيض ورأس العين في الرقة والحسكة، وفي منطقة "الزكف" و"التنف"، الواقعة جميعها تحت سيطرة قوى المعارضة السورية، أفضل حالاً اقتصادياً من عدة نواح، ولكنه يبقى استقراراً منقوصاً للعديد من الأسباب والتحديات.
واستطاعت الجهات العسكرية والمدنية المسيطرة على محافظة إدلب وأجزاء واسعة من ريف حلب بشكل خاص تأمين معظم المستلزمات المعيشية من كهرباء وماء ووقود واتصالات بسبب قربها من الحدود التركية، كما أدى فك ارتباط تلك المناطق بالليرة السورية المنهارة إلى شيء من الاستقرار النسبي، لكن استخدام الليرة التركية التي فقدت كثيراً من قيمتها جعل الأسعار في مناطق شمال غربي سوريا خاضعة لفوضى التضخم وارتفاع الأسعار بشكل مستمر.
ويبلغ متوسط الأجور في مناطق شمال غربي سوريا بين 100 و125 دولاراً أميركياً، في الوقت الذي يبلغ الحد الأدنى للأجور في تركيا 8500 ليرة تركية (450 دولاراً).
كما أن انقسام مناطق شمال غربي سوريا إلى منطقتي نفوذ زاد من السلبيات، حيث تسيطر هيئة تحرير الشام على مركز محافظة إدلب وما حولها، في حين يسيطر الجيش الوطني السوري على مناطق ريف حلب الشمالي ومنطقتي تل أبيض ورأس العين بريفي الرقة والحسكة.
وتكمن المشكلة كذلك في وجود حكومتين: "حكومة الإنقاذ" في إدلب، و"الحكومة السورية المؤقتة (منبثقة عن الائتلاف الوطني)" في اعزاز، وأدى ذلك خلال سنوات إلى غياب التنسيق في مختلف القطاعات والمجالات.
وعلى سبيل المثال تزيد الأسعار في شمال غربي سوريا بسبب الضرائب المفروضة من قبل جميع المعابر التي تمر بها شاحنات الاستيراد، فأي سلعة يزيد سعرها بشكل كبير حتى تصل إلى المستهلك.
ويقدر عدد المعتقلين في سجون هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري بـ 7 آلاف معتقل تقريباً وفق أرقام الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
اقتتال فصائلي يؤرق المدنيين
وأدى الاقتتال الفصائلي في ريف حلب في محاولة من هيئة تحرير الشام لزيادة نفوذها إلى حالة من الفلتان الأمني، وشيوع عمليات الاغتيال والسرقة، في اقتتال يفقد خلاله المدنيون حياتهم واستقرارهم.
وفي أزمة الزلزال المدمر التي أثّرت بشكل كبير على مناطق شمال غربي سوريا، كانت الاستجابة التي أبدتها فرق الدفاع المدني السوري والمنظمات سريعة وعلى درجة عالية من الاحترافية رغم قلة الإمكانيات وعدم دخول أي مساعدات حتى اليوم الرابع من الكارثة.
ولم تستطع كل المؤسسات العاملة في مناطق شمال غربي سوريا أن تنهي أزمة المخيمات رغم الجهود المدنية التي تبديها الجمعيات والمنظمات الخيرية لبناء مساكن من أموال المتبرعين إلا أن بقاء مئات آلاف الأشخاص في الخيام بعد 12 عاماً ينم عن فشل كبير في طريقة إدارة الأزمة.
وتؤدي الغارات وعمليات القصف الممنهجة التي تقوم بها قوات النظام السوري بدعم روسي إيراني، وعمليات القصف المشابهة من قبل قوات سوريا الديمقراطية "قسد" على مناطق شمال غربي سوريا إلى مقتل كثير من المدنيين، الأمر الذي يمنع حالة الاستقرار والشعور بالأمان، بحسب الشبكة السورية.
الجزيرة السورية.. مخاوف أمنية مختلفة
يعد الوضع الاقتصادي في المناطق التي تسيطر عليها "قسد" في شمال شرقي سوريا، أفضل أيضاً من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، فهي تسيطر على معظم آبار النفط السورية، وسلة الغذاء الزراعية، ومناطق الرعي، إلى جانب الماء والسدود التي تولد منها أجزاء من الكهرباء، ومع ذلك فنسب الفقر والعوز كبيرة جداً.
وما زالت "قسد" تتعامل بالليرة السورية، وهو ما يجعل السكان في حالة من عدم الاستقرار المادي، وإن كان معدل الرواتب أفضل حالاً مما هو لدى النظام حيث يبلغ متوسط الأجور نحو 60 دولاراً، خصوصاً مع انخفاض سعر المحروقات للتدفئة والمواصلات والصناعة، وهو ما ينعكس على السلع الأخرى مقارنة مع مناطق النظام.
ويعاني السكان في مناطق سيطرة "قسد" من حملات التجنيد الإجباري في قوات الإدارة الذاتية التي تعلنها بين الحين والآخر لمواليد محددة، تشمل الرجال والنساء والشباب وحتى القصر، بلغت أخيراً من يتجاوز عمر الـ 40 عاماً، وسط إدانات من منظمة حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش" ومنظمة العفو الدولية.
كما تشن قوات "قسد" حملات اعتقال واسعة للرافضين للتجنيد الإجباري، يضاف إلى ذلك الاعتقالات التعسفية لأسباب سياسية وما يتعلق بتهم "الإرهاب"، حيث بلغ عدد المعتقلين في سجون "قسد" ما لا يقل عن 4224 شخصاً بينهم 751 طفلاً و523 سيدة، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان التي استطاعت الشبكة توثيقهم من دون المخيمات التي يحتجز بها عشرات آلاف الأطفال والنساء.
وتشهد مناطق دير الزور والرقة وريف الحسكة مظاهرات مستمرة ضد ممارسات قوات سوريا الديمقراطية، تشمل قطع طرقات وإحراق إطارات السيارات وقمعاً من قبل "قسد".