icon
التغطية الحية

يوميات صيف سوري قائظ... كيف يتأقلم الناس مع انقطاع الكهرباء؟

2024.09.06 | 13:25 دمشق

متجر لبيع المراوح في دمشق
متجر لبيع المراوح في دمشق
The New Humanitarian- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

يشير المقال الذي كتبته الصحفية السورية زينة شهلا إلى الظروف القاسية التي يواجهها سكان دمشق في ظل موجات الحر الشديد المتكررة، والتي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية. يعرض التقرير تفاصيل معاناة الناس في التأقلم مع هذه الظروف، في ظل ضعف البنية التحتية للكهرباء التي تدمرت بفعل الحرب والانهيار الاقتصادي، مما جعل الحياة في الصيف أكثر صعوبة، خصوصاً مع استمرار انقطاع الكهرباء لفترات طويلة يومياً.

ويبرز المقال كيف أن التأقلم مع موجات الحر بات تحدياً يومياً للعديد من السوريين، من خلال استخدام حلول بديلة مثل المراوح التي تعمل على البطاريات والمولدات الخاصة، والتي بدورها تحمل عبئاً مالياً إضافياً. كما يعكس التقرير الواقع الاجتماعي والاقتصادي المرير، حيث أصبح البقاء في الظل أو الحصول على بعض الثلج ترفاً لا يمكن لكثير من الناس تحمله، ما يعمق الفجوة بين الطبقات في سوريا.

في الآتي ترجمته كاملا: 

أستيقظ غارقة في عرقي، وذلك يعني أننا في منتصف شهر آب، وفي المكان الذي أقيم فيه بدمشق، قد وصلنا إلى أشد أيام الصيف حراً، فدرجات الحرارة تصل بكل سهولة إلى 40 درجة مئوية، بل تتجاوز تلك الدرجة في بعض أنحاء البلد.

لدي مروحة تعمل على البطارية، ولكن مع كل هذا القيظ والرطوبة، لا جدوى من وجودها لأنعم بنوم هانئ ليلاً، ولهذا السبب يحتاج المرء إلى تكييف بالهواء، ولكن في ظل عدم توفر الكهرباء تصبح رفاهية امتلاك جهاز التكييف بلا جدوى هي أيضاً، إذ في هذا الجزء من العاصمة الذي يعتبر راقياً إلى حد ما، تصلنا الكهرباء لمدة ست ساعات باليوم.

بعد مرور أكثر من 13 عاماً على الحرب الوحشية التي عصفت بسوريا، تدمرت البنية التحتية للكهرباء في البلد إلى حد كبير، وإلى جانب الدمار، انهار الاقتصاد، وفاقمت العقوبات الغربية من صعوبة استيراد الوقود، وهذا كله يعني بأن فترات انقطاع الكهرباء باتت أطول، إذ إن معظم أنحاء البلد التي تسيطر عليها حكومة النظام أصبحت تعيش بلا كهرباء لمدة 22 ساعة باليوم.

قبل أن أبدأ نهاري المعتاد، أستحم بماء بارد كحل مؤقت لرد القيظ، وعلى الصفحة الرسمية لقسم الأرصاد الجوية السورية، أقرأ توقعات الطقس، فيتبين لي بأن درجات الحرارة تواصل ارتفاعها أعلى من المعتاد بنحو درجتين إلى أربع درجات مئوية، أي إن الطقس صيفي حار نسبياً، وصاف عموماً، ولهذا ينصح الناس بعدم التعرض لأشعة الشمس بشكل مباشر خلال ساعات الذروة.

"أعلى من المعتاد" صرت أصادف هذه العبارة كثيراً خلال هذا الصيف الذي عاش خلاله الناس أشد الأيام حراً.

الساعة العاشرة صباحاً

أقود سيارتي في شوارع دمشق، فأحس بالشمس تدنو مني، أسمع أصوات المولدات في كل مكان، بما أن معظم المحال التجارية ركبت مولدات في الشوارع بجانبها، وذلك حتى يتوفر لديها ما يكفي من الكهرباء للإنارة أو للقيام بالمهام الأساسية الأخرى.

أفكر في سري كم أنا محظوظة لأن عملي لا يتطلب مني العمل في الخارج، ولأن لدي سيارة، وبوسعي تحمل نفقات وقودها في بعض الأحيان، إذ من خلال عملي في الصحافة بإمكاني أن أعمل في مقهى أو في البيت في أغلب الأوقات، لكن معظم الناس يمارسون أعمالهم وهم يمضون ساعات طويلة في الخارج، من دون وجود ما يقيهم من حر الشمس، كما أنهم يستعينون بوسائل النقل العامة التي تتسم بالازدحام ولا يمكن الاعتماد عليها أو الثقة بها.

في بعض الأحايين، استقل سيارة أجرة لأذهب إلى عملي، وقبل بضعة أيام أخبرني سائق بأن عمله أصبح لا يطاق بسبب الحرب، كما لم يعد بمقدوره تحمل نفقة تشغيل جهاز التكييف في السيارة، لأنه يستهلك كثيراً من الوقود، لأنه لا يحق لكل فرد أن يحصل إلا على حصة محدودة من البنزين الذي تدعمه الدولة، والأسعار في السوق السوداء تصل إلى الضعف تقريباً، ولهذا قال لي: "أضحت الحياة قاسية هنا، ولكن ماذا بوسعنا أن نفعل؟ كيف بوسعنا أن نصلح كل ذلك؟" حرت ولم أجد جواباً شافياً.

تختلف الحياة في سوريا بشكل شاسع تبعاً للمكان الذي تعيش فيه ومقدار المال الذي بحوزتك، ولكن في عموم البلد، أضحى 90% من الشعب السوري البالغ تعداده 23.5 نسمة يعيش تحت خط الفقر، وثمة ملايين يكافحون ليعثروا على فرصة عمل، أو لتأمين الأساسيات مثل كفايتهم من الغذاء أو الوقود، ناهيك عن استمرار الحرب بشكل فعلي في أجزاء أخرى من البلد (على الرغم من توقفها حيث أعيش)، بيد أن التعامل مع الحر أصبح مشكلة تضاف إلى قائمة طويلة من المشكلات المستعصية بالنسبة لأغلب الناس هنا.

وأنا أقود السيارة، توقفت بجانب الطريق لأتحدث إلى رجل يبيع مكسرات يبدو منظرها شهياً على العربة، فأخبرني بأنه يتحرك كل ساعة قليلاً ليتبع الظل الذي توفره له شجرة بالجوار، وقد ظل يعمل في البقعة نفسها لمدة تزيد على عشرين عاماً، من الساعة الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساء.

يبلغ عمر بائع المكسرات، ولقبه أبو عمر، 45 عاماً، وليس لديه أي مصدر آخر للدخل سوى بيع المكسرات، وبالرغم من ذلك يخبرني بأن هذا الصيف كان أشد صيف حراً منذ أن بدأ العمل، ولكن عليه أن يستمر في عمله وأن يتأقلم مع الحر وهذا ما دفعه للقول: "أذهب إلى الحديقة العامة القريبة لأغسل وجهي بالماء البارد كل ساعة تقريباً".

في الحديقة، أخذ بعض الأطفال يلهون بالماء الجاري الذي يوفره صنبور مفتوح، وذلك ليخففوا من لظى الحر على نفوسهم. تمنيت لو كان بوسعي أن أفعل مثلهم، وأخذت أفكر بما حدث خلال الأسبوع الماضي عندما كنت في الشمال بمدينة حماة، حيث كان الأطفال يسبحون في نهر العاصي لرد الحر، حتى لو لم تستغرق مدة السباحة أكثر من بضع دقائق.

بالنسبة لأغلب شعوب الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا، فإن التخفيف من أثر الحر لم يعد مجرد متعة بسيطة، بل إنها مسألة حياة أو موت، سواء الآن أو مستقبلاً، إذ ثمة دراسات كثيرة حول زيادة موجات الحر التي تهدد الحياة اليومية للناس في هذه المنطقة، وخاصة الفئات الأكثر ضعفاً وعلى رأسها النساء والأطفال والعمال المياومين. وقد تحدثت إحدى الدراسات أنه بنهاية القرن الحالي، سيتعرض نصف سكان المنطقة لموجات حرارة شديدة بشكل سنوي ومتكرر، ما يعني بأن درجات الحرارة ستصل إلى 56 درجة مئوية أو أكثر وسيستمر الوضع كذلك لأسابيع.

وعلى الرغم من أن درجات الحرارة لم تصل لهذا المستوى بعد، فقد سجلت الأخبار المحلية خلال هذا الصيف في سوريا مئات الحالات التي طلب فيها الأشخاص المساعدة ونقلوا إلى المشفى بسبب ضربة شمس، كما تعرض أشخاص للغرق أثناء محاولتهم الترويح عن أنفسهم بالسباحة في ظل موجات الحر العاتية، وخلال العام الماضي، وتحديداً في شمال غربي سوريا، وصلت درجات الحرارة إلى 46 درجة مئوية واستمرت على هذا الحال لعدة أيام.

وفي أماكن أخرى بالمنطقة تستعر الحرارة أكثر، فقد توفي أكثر من 1300 شخص في مكة في بداية هذا الصيف أثناء أداء مناسك الحج بسبب درجات الحرارة التي وصلت إلى 46-49 درجة مئوية.

الساعة الحادية عشرة صباحاً

أركن سيارتي وأمشي باتجاه مقهى صغير اعتدت أن أجلس فيه برفقة حاسوبي المحمول لأكتب مقالاتي. في الشارع رأيت بعض الناس يحملون قطعاً من الورق أو الكرتون ليغطوا بها رؤوسهم، فيما برد الآخرون حرارة أجسادهم بواسطة كأس من العصير البارد الطازج والذي يباع على قارعة الطريق. أواصل التفكير في الأسواق المسقوفة التي تشتهر بها هذه المنطقة، يا لها من طريقة ذكية للحماية من عوامل المناخ، ولكن هل خطر ببال من بنوا تلك الأسواق بأن درجات الحرارة ستصل إلى هذا الحد؟

داخل المقهى، وصلنا للفترة الأشد حراً من النهار، والتي تمتد ما بين الساعة 12 وحتى الساعة الثالثة. يجلس نحو العشرات ممن يعملون لصالحهم في مهن مثل التصميم الغرافيكي والترجمة وإنشاء المحتوى مستغلين توفر الكهرباء حتى ينجزوا أعمالهم التي سيقدمونها لزبائن داخل البلد وخارجها، بما أن أغلبهم لا يمكنه أن يشحن هاتفه أو حاسوبه المحمول في بيته.

إلا أن ارتفاع أسعار الوقود يعني أنه لم يعد بوسع أصحاب المقاهي مواصلة تشغيل أجهزة التكييف، بل باتوا يعتمدون على بضع مراوح تحرك الهواء المثقل بالحرارة، جلست وعملت لبضع ساعات، إلا أن حرارة هاتفي وحاسوبي ارتفعت، لأن كل شيء حولي تشوبه حرارة عالية، ولهذا شعرت بإنهاك شديد عقب بضع ساعات.

الساعة الثالثة عصراً

توجهت إلى البيت، وأثناء مسيري إلى سيارتي، رأيت إعلانات ملصقة على الجدران ظهر فيها رقم هاتف من أجل الاشتراك بمولدات كهرباء خاصة، إذ على مدار الأشهر القليلة الماضية، انتشرت تلك المولدات في معظم أنحاء وسط دمشق، على الرغم من انتشارها في أجزاء أخرى من المناطق التي تسيطر عليها حكومة النظام السوري مثل ريف دمشق وحلب. نستخدم كلمة "أمبيرات" للإشارة إلى المولدات التي أضحت أشبه بحل سحري لكثير من مشكلات الصيف.

تنتشر المولدات في مختلف أرجاء المدينة، إذ صار بوسع الأهالي وأصحاب المحال الاشتراك بمبلغ ثابت للحصول على الكهرباء، مثل أمبير واحد أو أمبيرين، وذلك حتى ينيروا بيوتهم ومتاجرهم ويشغلوا الأدوات الكهربائية فيها، ويدفع هؤلاء بدلاً يتراوح ما بين 6-25 دولاراً كل أسبوع، وذلك بحسب ما يستهلكونه من كهرباء.

وبما أن دخل معظم الناس في سوريا يقل عن مئة دولار بالشهر، قد يتحول هذا النوع من الاشتراك إلى عبء مالي هائل، ويزيد هذا العبء على من يديرون المطاعم أو المخابز أو أي مشروع تجاري يمكن للقيظ أن يدمره.

في الوقت الذي أصبحت فيه ظاهرة المولدات دخيلة وجديدة على دمشق، لم تكن الحرارة كذلك، لكني ما زلت أندهش وأنا أراقب أساليب الناس في التأقلم معها، إذ مثلاً، صار بوسعك اليوم أن تشتري مختلف أنواع المراوح التي تعمل على البطارية، وتجدها في كل مكان في أحد الشوارع وسط المدينة الذي يعرف باسم سوق الكهرباء.

منذ فترة قريبة، أخبرني صاحب أحد المتاجر بأن مبيعات المراوح التي تعمل بالكهرباء قد تضاعفت منذ العام الماضي، نظراً لاحتياج كل بيت لمروحة أثناء الحر الشديد، ولهذا أصبح سعر المروحة الصغيرة 500 ألف ليرة سورية (ما يعادل 35 دولاراً)، وبوسعك الحصول على نوعية أفضل بسعر يصل إلى 60 دولاراً. وبعض العائلات الدمشقية الثرية أصبح لديها ألواح طاقة شمسية ولم تعد بحاجة لمراوح تعمل بالبطارية أو لمولدات، إلا أن تركيب لوح شمسي واحد يكلف ألفي دولار على الأقل، وهذا ما لا يمكن للغالبية الساحقة من أبناء الشعب السوري تسديده.

ثمة حل آخر يتمثل بتجارة الثلج، إذ بسبب انقطاع الكهرباء عن الثلاجات طوال اليوم، أصبح الناس يشترون الثلج ليضعوه في مجمداتهم وثلاجاتهم، أو في صناديق ليحتفظوا بالمشروبات باردة على مدار بضع ساعات، وهكذا أصبحت أكياس أو ألواح الثلج تباع اليوم في الشوارع وفي متاجر البقالة، وقد أخبرتني امرأة من ريف دمشق بأنها تنطلق في الصباح الباكر بحثاً عن الثلج، لأن كمياته تنفد بسرعة، ويتراوح سعر الثلج ما بين 500-1500 ألف ليرة سورية (أي ما بين 30 سنتاً إلى دولار واحد) باليوم، ولهذا ذكرت هذه المرأة بأن بعض الناس لا يمكنهم أن يشتروا الثلج إلى في الأيام التي يتوقعون فيها قدوم ضيوف إليهم.

في بعض المناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام السوري، تصل الكهرباء من مصادر مختلفة، لكن هذا لا يعني بالضرورة بأنه يمكن الاعتماد عليها أو الوثوق بها. إذ في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في شمال غربي سوريا، تصل الكهرباء عادة من الشركات التركية، بالإضافة إلى بعض مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية.

ولكن، وكما هي الحال في دمشق، أضحت الكهرباء باهظة الثمن كثيراً، ولهذا لا يتمكن مليونا شخص في شمال غربي سوريا من تسديد ثمن الكهرباء للشركات الخاصة بما أنهم يعيشون في مخيمات أو غيرها من المساكن غير الرسمية، كما أن معظمهم يعتمدون على المساعدات لتأمين أمور العيش.

في شمال شرقي سوريا، حيث تسيطر قسد على معظم أنحاء المنطقة، تعرضت البنية التحتية للتدمير، وهذا ما أدى لانقطاع الكهرباء لساعات طويلة إلى جانب الاعتماد على مولدات الكهرباء المكلفة.

الساعة الرابعة عصراً

عندما عدت إلى البيت، شعرت بإنهاك شديد بسبب الحر وأصوات المولدات العالية التي تنتشر في كل مكان. استمتعت بحمام بارد آخر، ثم حاولت أن أمضي بقية يومي داخل بيت بات أشبه بفرن كبير. أخذت أفكر كم أنا محظوظة لأن لدي مروحة وبعض المياه الباردة، وبطارية لأشحن هاتفي. فكرت بكل الناس الذين لا يملكون كل تلك الأمور في هذا البلد، كما فكرت بمن يعانون كثيراً ويكافحون تحت الحر، وبينهم عجائز ومرضى وعمال مياومون، وبائعون متجولون، وسائقو سيارات الأجرة، وأولئك الذين يعيشون في الخيام.

الساعة التاسعة ليلاً

أصبح الوضع أفضل بعد غروب الشمس، جلست في المساء على الشرفة لأستمتع بشيء من النسيم العليل، وأخذت أراقب الناس وهم يخرجون من بيوتهم التي دهمها الحر ليذهبوا إلى الحدائق والمنتزهات القريبة، أما الأطفال فأخذوا يلعبون في الشوارع، لكني تساءلت في سري: هل ستعود الحياة لطبيعتها في سوريا في يوم من الأيام؟

 

المصدر: The New Humanitarian