لوسائط التواصل الاجتماعي فوائد عديدة أهمها يتعلق بالمعرفة، معرفة المجتمع الذي نعيش فيه ومعرفة المجتمع الأوسع الذي أصبح اليوم هو مجتمع هذه الوسائط، حيث نتعرف على حقيقة ما يفكر به الناس دون تزويق أو تزييف درجت عليه وسائل الإعلام الكلاسيكية (تلفزيون وإذاعات وصحف) وتمنعه مقصات الرقابة لاسيما في الدول العربية، تفكير وتعبير يمنعه مقص الرقيب، الحاكم بأمره لكل منظومة التعبير والكلام في الثقافة العربية منذ نصف قرن.
لكن وسائط التواصل الاجتماعي من ناحية ثانية ألغت الزمن كحّيز لجني الخبرة والاحتكاك مع العالم. كما أنها غيّبت حضور الواقع والمجتمع الفيزيائي والتواصل الحي.. فهي اختصرت بالتالي التنقل الفيزيائي في الجغرافيا لدرجة أنها كادت بالنسبة لقطاعات واسعة من الجيل الأصغر عمرا أن تلغي تفاعله مع حيزات الانتماء الجغرافية كالحي والمدينة والقرية، ولهذا السبب ربما قريبا تتبدل مفاهيمنا كلها أو يصبح لها معان جديدة.. ومن تلك المفاهيم المرشحة للتبدل أو لإعادة التفكير فيها، المفاهيم التالية: مسقط الرأس، الوطن، الحرية، السياسة، التنقل والسفر، التحصيل العلمي... إلخ
تبدل مفهوم السياسة مع دخول وسائط التواصل الاجتماعي:
كانت ولادة الفيسبوك ولادة للوجود الافتراضي ومسرحا للظهور المشتهى وفضاء للسجال بشتى أنواعه وعلى مختلف مستوياته.. وكان بالنسبة للسوريين تعويضا عن منع تاريخي لمعظم فعاليات الوجود الاجتماعي الثقافي السياسي.. والذي عانى منه السوريون طويلا.
تحول الفيسبوك السوري لمنصة أظهرت الاختلافات بطريقة فاقعة وفانتازيّة، على غير ما هي عليه في الواقع. بحيث أصبحت خلافات بسيطة في قضايا بسيطة أو معقدة، خلافات حادة..
وعلى الرغم من الدور الذي لعبه الفيسبوك في ثورات الربيع العربي في الدعوة للتظاهرات وتوجيه الحشود ونقل فاعلياتها، وتنظيم تحركاتها ونقل رسائل مهمة طارئة وأخبار التظاهرات وما يتلوها، غير أن الفيسبوك لا يمكن أن يكون بديلا عن السياسة كما نعرفها جميعا، أي السياسة كفاعلية اجتماعية وفعل في الواقع، وليس ممارسة حصرية عبر المنصات الافتراضية الاجتماعية.
فممارسة السياسة عبر الفيسبوك مثلا، يبرهن لنا لماذا استمرت الأزمة السياسية للمعارضة السورية وجمهورها كل هذا الوقت، فلقد تحول الفيسبوك السوري لمنصة أظهرت الاختلافات بطريقة فاقعة وفانتازيّة، على غير ما هي عليه في الواقع. بحيث أصبحت خلافات بسيطة في قضايا بسيطة أو معقدة، خلافات حادة.. لكون الناشط عبر الفيسبوك يمارس حرية الكتابة أو الظهور (عبر الصور) بطريقة عفوية أو فجّة أحيانا أو مبالغ فيها تثير حفيظة الأصدقاء والمتابعين..
في حالات كثيرة كان الفيسبوك السوري "مكاناً" لتحويل خلافات في الرأي يفترض بها ألا تفسد للود قضية - بحسب المقولة الثقافية العربية الشهيرة- إلى خلافات شخصية، وخلافات مصيرية كما أصبح "مكاناً" لافتعال معارك ولإثارة "غبار إلكتروني" هائل حولها وفوقها، ومكاناً للتشهير وتبادل الاتهامات، الأمر الذي تسبب أحيانا لبعض المساجلين بانهيارات عصبية.. يدفع البعض لإغلاق صفحاتهم الشخصية على الفيسبوك، عدا إلغاء صداقات قديمة أو على الأقل النيل منها.
وكم من مشكلة صنعها الفيسبوك بين أفراد النخب السورية كان يمكن حلها باتصال هاتفي أو بلقاء فيزيائي. وهو ما جرى بالفعل في حالات عديدة. وسبب ذلك في زعمي هو وسيلة التعبير المستخدمة في هذا المكان الافتراضي أقصد بذلك الكتابة.
فالكتابة من ناحية، وسيلة قاصرة (ربما في كل اللغات) عن التعبير الدقيق ونقل المشاعر، فهي لحداثة عهدها مقارنة بالكلام مازالت عاجزة عن التعبير كما الكلام، كما أنها من ناحية أخرى حمّالة أوجه، فالعبارة بل الكلمة الواحدة، مكتوبة، يمكن فهمها بأكثر من طريقة ومعنى، بحسب القارئ وبحسب مزاجه النفسي.. وبحسب الموضوع ومدى التناغم حوله ما بين المتحدثين والمعلقين، كل هذا الذي يجري كتابيا هو على خلاف الكلام الذي يملك وسائل إيصال أو بوح إضافية مثل نبرة الصوت وملامح الوجه والإشارات (لغة الجسد) التي تتوفر في الحضور الفيزيائي أو التواصل البصري (مكالمة الفيديو مثلا) التي تفعل فعلا نفسيا فتحقق التواصل بشكل صحيح.
والحقيقة إن وسائط التواصل الافتراضية (غير البصرية) تعيق التواصل الصحيح لأنها عاجزة أصلا عن تحقيق التواصل الطبيعي، فهي تقوم أساسا على الكتابة كما قلنا أو نشر الصور والأشكال التعبيرية... الخ
فكم من مشروع لقاء وتواصل وعمل دمره الفيسبوك، وعلى العكس كم من خلاف حدث بسبب الفيسبوك جرى تداركه وإصلاحه بعد لقاء فيزيائي بين المختلفين، زال فيه سوء الفهم فور حدوث اللقاء مع تبادل بضع كلمات وابتسامات..
فالسياسة دون أطر تنظيمية من أحزاب جمعيات منظمات لا يمكن لها تحقيق أي حضور فاعل أو حاسم، فما بالك بالفاعلية السياسية المؤثرة في اللاعب الخصم (النظام) وجمهوره، والمؤثرة في اللاعب الإقليمي أو الدولي، فبالتأكيد يستحيل تحقيق فوز سياسي على النظام وحلفائه فقط بواسطة ممارسة السياسة الافتراضية وسائط التواصل.
لقد حصرت حركة الاعتراض السوري في جانبها السياسي المحترف بمؤسسة الائتلاف إضافة لأجنحة سياسية موزعة جغرافيا، بدل أن تكون رديفا للائتلاف عملت على كبح حركته والتشويش عليه ومقاسمته سلطة تمثيله السياسي للشعب السوري المعارض.
هل يمكن وهل يجوز لتداول السياسة عبر وسائط التواصل الاجتماعي أن تكون بديلا عن ممارسة السياسة كما عرفناها قبل دخول هذه الوسائط؟
دون ذلك لا توجد سياسة داخل صفوف حركة الاعتراض بجماهيرها المليونية. فقد تم تفريغ قوة وطاقة الشباب الثوري والنخب التكنوقراط في مجالات خدمية لوجستية إغاثية، إضافة لمجموعات المجتمع المدني في مجالات عملها التعليمية الإعلامية الإرشادية..الخ
وفي الختام هل يمكن وهل يجوز لتداول السياسة عبر وسائط التواصل الاجتماعي أن تكون بديلا عن ممارسة السياسة كما عرفناها قبل دخول هذه الوسائط؟ بحيث يمكن القول بولادة مجال جديد في السياسة هي السياسة الافتراضية بما تشمله من الناشط السياسي عبر الفيسبوك وسياسي المؤتمرات المتلفزة؟
وإن كان هذا ممكنا ومقبولا فهل هو مثمر حقا وأين هو ثماره وجناه؟ دون ذلك تصبح السياسة الافتراضية مقتلاً للسياسة كما نعرفها جميعا خصوصا بالنسبة للسوريين الذين منعوا منها طوال عقود ومازالوا يتهيبونها، لاسيما في ضوء النتائج غير المشجعة بل المخزية لبعض المجموعات والنخب السياسية السورية خلال الثورة وفي أرض الاغتراب ..
لكن البعض يرى في وسائط التواصل الاجتماعي مجالا وفضاء مهمين لإحياء السياسة المحرمة على السوريين لعقود ومازالت كذلك داخل سوريا وهو ما يمكن أن نتحدث عنه في مقال لاحق..