icon
التغطية الحية

"وفائي ليلا" شاعر التمرد والنزق.. والحب أيضا

2021.06.17 | 18:09 دمشق

wfayy_lyla_tlfzywn_swrya.jpg
أحمد طلب الناصر
+A
حجم الخط
-A

تحوم نصوص الشاعر السوري "وفائي ليلا" حول ذاتٍ مقموعةٍ ومستعبَدة قبالة موضوع يفتك بها ويرجمها تارة ويهمّشها بالوصاية والإلغاء تارة أخرى. موضوع تشترك فيه كل السلطات الدينية والسياسية والاجتماعية لسحقها كل مرة تحت رحى سيطرتها الغاشمة ومفاهيمها المبنية على التسلط والقمع بكل أشكاله.

الكتابة عن الهامش واليومي المنفلت والمجنون والمتمرد هنا هو الأصدق في كل التجربة عبر نص نثري متماسك وعبر أسلوب سردي بسيط لأول وهلة، إلا أنه لا يسقط أبدا في الترهل حتى وإن كان طويلًا، ما يجعل بناء النص عند "ليلا" متمايزًا عن سواه ومتماسكًا عبر تلك البساطة، التي هي بالنهاية عملية صعبة  للغاية وتحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ جدًا كونها نتاج قراءات مكثفة أجراها الشاعر، وتطلّبت استخراج عصارتها ليكوّن منها نصوصًا بتلك الاختلافات والتعقيدات.

نصوص ليلا عمومًا تعتمد على النفس السردي الذي يتطلب مقدرة عالية للإمساك بخيط البناء الأول الذي وظّف السرد لأداء تلك المهمة، وهو يتقن ذلك بفرادة وببراعة عالية مقتربًا من عالم الرواية والقصة

نصوص ليلا عمومًا تعتمد على النفس السردي الذي يتطلب مقدرة عالية للإمساك بخيط البناء الأول الذي وظّف السرد لأداء تلك المهمة، وهو يتقن ذلك بفرادة وببراعة عالية مقتربًا من عالم الرواية والقصة.

الاستبداد "الأبوي"

هنالك ثيمات مختلفة في تجربة ليلا، متنوعة وتنتقل من موضوع إلى آخر، لعل أهمها ثيمة "الأبوية" المقرونة بمفهوم الاستبداد (الذكوري) الذي يختص بها المجتمع  الشرقي، وصدرت بمجموعة واحدة في لغتين مختلفتين، العربية والسويدية، حملت العنوان العربي "قامة قصيرة لمعطف طويل" (2020). وصدرت بالسويدية تحت عنوان "الآن مات أبي".

يقول ليلا في أحد نصوصه:

"في السابعة كنت أُتقن الرقص

كان أبي يدعو كلّ أصدقائه كي يروني

يصفق بحماس لي

يخفف من وقع اسمي

فيختصره

الجميع كان منتشيًا وقتها

الجميع كان يشاركه الشغف

حين كبرت

قطعوا لي قدمي

نفس الرجل صار ينهرني بقسوة

نفس الوجوه،

صارت تنكرني بعنف

يخفيني أبعد كلما تسنى له

يمحوني

كلما ذكّروه باسمي الأول

كنت محط إعجاب الكلّ

صرت محط شكوكهم

والاتهام.

عرفت وقتها

أن الكبار "أطفال حمقى"
يحبون الدمى في البداية

كي يكسروها أخيرا

ودون رحمة".

تلك الثيمة التي تتجلى في القصائد، كل مرة، باستعباد الطفل والمرأة وسحقهما معاً من دون رحمة، نلمحها في كثير من النصوص المختلفة لنصوصه الشعرية التي تجازف بتحطيم تلك البنية وفضحها من دون رحمة.

ومن تلك البنية (البطريركية) للمجتمع الفئوي/ العصبوي، وتكوينها الهرمي القائم بالجوهر على فكرة الإلغاء والشطب والتنكيل، ترحل تلك الذات بعد حرب عالية السفك إلى بلاد الحرية حيث تسود قيم "العدالة والمساواة"، فتتعرض لاغتصاب جديد لهويتها، وتخضع لمساءلة مرة ثانية عبر وضعها على منضدة الاستجواب تحت أعين المحققين القاسية والباردة التي لا ترحم، ونقاشها حول حقها الطبيعي والمشروع بالحياة والحرية ومن ثم التحكم بمصيرها وإرغامها على "اندماج" ومحو للهوية عال وممنهج:

"أنا وفائي ليلا الذي فقدت كل شيء

اسمي

وكرامتي

شكل وجهي

وملامحي

أجرّ خلفي كل هذا العار الذي يخترقني

ذلك الكائن الذي كيّفته ليرتديه.. سواي

يقودني من يريد إلى حيث يرغب

ويستعملني من هو أقدر مني

ضدي

أذهب إلى المنصة للتصفيق

وإلى المهرجان للهتاف

أنا وفائي المُصادر عند الآخرين

الموضوع للخدمة

والمصمم للزحف

للأدعية

والتسول

والرجاء"

جميع النصوص تعاني الخوف ورهاب المواجهة، والضعف والتهميش، وبذات الوقت التهكم والكشف وفضح هذا التسلط بمرارة وعمق بالغين.

تجربة اللجوء والعالم الجديد وصدمة المكان والثقافة، نجدها في مجموعة شعرية صدرت بالعربية والسويدية أيضاً، وحملت عنوان "اسمي أربعة أرقام". حاول ليلا من خلالها اختزال التجربة الجديدة عبر نص نثري طويل حمل عنوان المجموعة نفسها ونصوص أخرى مثل: "هاي"، و"قرائن"، و"عدسات لاصقة"، ومحاولة الدفاع وإعادة الاعتبار للذات الخائفة والمضطربة تلك في النصوص الأخرى.

يقول ليلا في جزء من نصّه الطويل:

"اسمي أربعُ أرقامِ

ألتقطُ الصورَ بهاتفِ نقالِ لحياتي المتوقفة بالواقع.. تزدهرُ في الصور

ألجأ إلى الأماكنِ العامةِ وأقفُ قربَ المنشآتِ لألتقطَ خطَّ إنترنت سريع

ومجاني

كلّ يوم يموتُ أحدٌ تعرفهُ أمي في دمشقَ وضواحيها

تخبرني ولا تبكي

- وهذا أخطرُ على كلِّ حال -

كلّ يوم ينجو أخي من قذيفة

يعملُ على خطِّ العباسيين

سنغيّرُ له الخطَّ قريبًا

لينجو..

أقصدُ.. كي يموتَ متأخرًا بعضَ الوقتِ

الأمرُ سهلٌ كما ترون

لاجئ

أصافحُ كلَّ السويديين حينَ أمرُّ بالطرقات

أهنئهم كم هم بشرٌ".    

****

أمشي ذاهلًا قليلًا

لجأتُ لجمعيةِ الحفاظِ على النوعِ

أنا كائنٌ نادرٌ

أقولُ للموظفةِ التي تنظرُ إليَّ بعينينِ بلهاوتينِ

وفم فاغر منَ الدهشةِ

أراقبُ الرجالَ والنساءَ وهم يتعقبونَ خراءَ كلابهم

يا للرِّقةِ

يلمونها بكلِّ حرصِ بأكياسِ نظيفة

عيونٌ زرقٌ فاتنةٌ، وقاماتٌ رشيقةٌ وتشيل بكلِ طيبةِ خاطر غائِطًا عن هذهِ الأرض

يا للحظّ

لن أصيرَ عجوزًا مثلَ الكثيرينَ من حولي

بعربات يستندونها وبطءٍ متمهل، وأعين متحفظة

سأموتُ قبلَ ذلكَ

بإبرةِ انتحار

أنتظرُ الاقامةَ

يقولونَ لا يوجدُ عملٌ

ولا سكنّ

وبعدَ سنتينِ سيطردكَ (الكامب).."

نصوص المجموعة تقتنص صور الهتك والاستعلاء وتفضح قيم التسلط بكل أشكالها سواء في الشرق أو الغرب، بخفة ورشاقة بالغين وعبر لغة هي غاية في البساطة والسلاسة وفي الوقت ذاته غاية في العمق حيث لا تثقل على المتلقي بلغة متعالية ومقعرة وصعبة ولا تكون ساذجة في الوقت ذاته حد السطح. 

إن اللعب بهذه المساحة في التكوين الشعري هنا، هو غاية في الصعوبة وفي التميز بآنٍ معاً، لأنه يمنح هوية يصعب محوها، حتى وإن قُلدت فستكون مجرد نسخ رديئة عنها. 

وللحب حصّة

إلا أن ليلا يبقى شاعراً على أيّة حال، ومحال أن يحيا شاعرٌ بدون حبيبة، ومحال أيضاً أن تخلو نصوصه من قصائد عشق. وعلى الرغم من غَلَبة طابع التمرّد على كلماتها، فإنها تبقى "قصيدة حب" بحسب تسمية ليلا:

"هل تمنحينني..

حبيبتي قبلة

كي يتغير العالم

وتتوقف الأنهار وقلبي

وتسقط الشمس صريعة

تحت قدمي المكان؟

هل تمنحينني قبلة

أمتدح بها غباءك المُشع

بالفوسفور..

حدودك المغلقة إلى الأبد؟

هل تستطيعين أن

تري أبعد

من حلمة إغوائك الأخلاقي؟

هل تكفين عن استخدام التوائك

لإيقاع أكثر ما يمكن من القتلى؟

هل تكفين عن تفضلك

بإسقاط أكياس الحنان

على رأس جوعي

قتلي بابتسامتك

الباهرة السخف؟

لو أتحرر من جسدي

لو أقتل الوحش الذي يمارسني.. كرجل

لو أستطيع أن أرمي شهواتي

إلى المحو الأبدي".

سيرة..

وفائي ليلا، شاعر وكاتب سوري من مواليد دمشق عام 1964، ودرس الفلسفة في جامعتها.

أقام في مملكة البحرين منذ عام 1996، ولجأ إلى السويد في عام 2015.

من مؤلفاته:

  • رصاصة فارغة.. قبر مزدحم.
  • متوقفاً عن الضحك.
  • مغسولاً بمطر خفيف.
  • ما ليس ...أنا.
  • يعطي ظهره للمرآة.
  • بيت واسع بحمامين.