الذين كتبوا أن اشتباكاً مسلحاً حصل في حفلة فنان لبناني قرب دمشق، منذ أيام، أغفلوا تفصيلاً حاسماً أن هذا المغنّي هو وديع الشيخ، مع ما يعنيه ذلك من ذائقة ومزاج غالبين على الحضور.
الفنان الشاب نفسه يقول إنه يتقاضى أجره قبل بدء حفلاته «بشان إذا صار مَشكَل». والحق أن الشيخ قدم إلى سوريا بعد سلسلة جارفة من النجاحات الجماهيرية في نوادي السهر في بلده، وسلسلة أقصر لكنها غريبة من المشكلات التي لم يخلُ بعضها من إطلاق النار ومحاولة اغتياله كما يدّعي، وصدامات غامضة ليست بعيدة عن أسماء تتحدر من عشائر مدينته بعلبك تارة، أو من تبادل رصاص مع مسؤول محلي في حزب الله. مما يعدّه الفنان الشعبي نوعاً من «ضريبة النجاح» الذي ملأ بعض زملائه بالغيرة. كما أنه مفرز طبيعي للبيئة التي ولد فيها وبها يفتخر، رغم أن اللعب ببارودة صيد قد أودى بشقيقه (13 عاماً) في أيار 2018، فيما وديع يتأهب للقفزة الكبرى في نجوميته التي بلغت ذروتها صيف تلك السنة، عندما غنّى في حوالي 250 حفلة، بمعدل حفلتين أو ثلاثاً يومياً، خلال تلك الأشهر، وحصّل ما يقرب من مليون دولار، كما قال.
لا تقتصر مشكلات وديع الشيخ على تلك الجدية المكللة بالسلاح، التي دفعته إلى استئجار موكب من المرافقين أثار انتقادات حول انتفاخ الذات الذي أصابه إثر صعوده الصاروخي وغناه المفاجئ، حتى ظهر في تسجيل مسرّب وأمامه كمية ضخمة من رزم الدولارات (برر لاحقاً أنه كان في مكتب صرافة لأحد أصدقائه وأن العملة المصورة ملك للمكتب) وفي تسجيل، بثه هو على إنستغرام، مرتدياً ملابس باذخة، ومسافراً بطائرة خاصة لإقامة حفلة في إسطنبول.
غير أن هذا يتعلق بوديع الشيخ «الظاهرة»، وهو الوصف الذي يرفضه لما فيه من استبطان قرب زوال نجوميته، مصرّاً على أنه صار «رقماً صعباً» في لبنان على الأقل. في حين أن خصومه يمتلكون حججاً لا يمكن إغفالها مهنياً، منها أن أغانيه الخاصة قليلة جداً، يكررها في كل حفلة ضمن خلطة من أغاني الآخرين، وأن قسطاً كبيراً من نجاحه قائم على «الردّيات» الفارغة.
وبالفعل، الردّيات جزء أساسي من حضور الشيخ وذيوع شهرته. وهي مقاطع غنائية من أربعة أشطر، ذات إيقاع مميز موحد، تتراوح مدتها بين ربع إلى نصف دقيقة، مما جعلها مناسبة لحالات الواتساب، مع انتشار هذا البرنامج واستخدام حالاته كوسيلة غير مباشرة للمراسلة والمجاكرة والإعلان الموارب عن الوضع. وقد استجاب مضمون ردّيات الشيخ مع هذه الوظائف بشكل ملحوظ، متكئاً على قابلية الاستفزاز العالية عنده، فجاءت موبِّخة ومتهكِّمة وسجالية. بدءاً من فضح
حكاية وديع الشيخ مع المرأة بسيطة بالقياس إلى مشكلاته مع الرجال، التي تجد مستنداً لها في حياته الواقعية وفي شعوره الدائم بالتحدي والمبارزة.
زيف الحبيبة السابقة التي «عم تتغنّج وتقول/ ما بتاكل إلا سوشي// وهي بتمسح صحن الفول/ وبتريّل عالمنقوشي»، وصولاً إلى الشتم بألفاظ فاحشة، اعتاد المطرب أن يتركها لجمهوره كي يرددها بعدما أشاعها بينهم، تجاه المرأة التي «عاملة شريفة عليي» بينما تخفي العهر. مخاطباً إياها «إنتي ما بدك رجّال» بل مثلياً. منبهاً أبناء جنسه ألا يثقوا بامرأة لو «حلفت لك ما بتخونك»، فإذا «بتغلط مع حوّا» أو «خلصوا مصرياتك» يجب أن تنتبه إلى تنامي «قرونك»!
غير أن حكاية وديع الشيخ مع المرأة بسيطة بالقياس إلى مشكلاته مع الرجال، التي تجد مستنداً لها في حياته الواقعية وفي شعوره الدائم بالتحدي والمبارزة. تشغل العلاقة مع الذكور عدداً أكبر من الردّيات من تلك المخصصة للنساء. وهي علاقة معقدة ومتغيرة بخلاف تلك العاطفية المبتوت في صورتها وعواملها. فالعلاقة مع الرجال مركّبة، تحتمل الصحبة والوفاء والاحترام والغدر والانقلاب. وهي عنده، قائمة على المماحكة. ما يجعلها مناسبة، من جهة أخرى، لجمهور من اليافعين أو الشبان في بواكيرهم، إذ تتناكف كراماتهم النامية بفعل الهرمونات غير المتحكَّم فيها بعد. وهذه وظيفة محورية لحالات الواتس كذلك؛ يشكو فيها الذكر قيد التكون ممن «خانوا العشرة»، ويلطّش على «الصغار» الذين «كبروا وصاروا يتحدّوا»، ويذكّرهم باستطاعته مسحهم متى شاء، فعندما «يحضر المعلّم/ كل الغنم بيتخبى». مشبهاً إياهم بالقطط في مواجهة الأسد، في مراوحة بين تماهي الجمهور مع مطربه ومع رسائل حقيقية أرسلها لبعض منافسيه عبر ردّيات واضحة تقصّد فيها هذا أو ذاك، فـ «وديع الشيخ يتكلم»، و«إذا كنت زلمة جيبا»!!
في حفلاته يقدّم ما يحفز على الرقص أو القفز في المكان، من أغان خفيفة رائجة شعبياً من جديدِ الغناء اللبناني وقديمه النسبي. وهو لا يتورع عن استخدام اللهجة البدوية في ماركته الشهيرة «كلما أدگ الرگم/ يطلع شخص ثاني// يگلّي لا تتصل/ يا أغلى خلاني». وخلان الشيخ كثيرون رغم توالي الخيانات، وهو يخاطبهم بقوله «يا خيي لا تهتم/ ولا بعمرك تحمل هم// غموز بعينك لفرجيك/ عندي رجال بتشرب دم».
من هؤلاء، الذين «مراجلهم تتمدد» ومن يتحداهم «يحفر گبره»؛ غضب شاب في الحفلة التي أقيمت في أحد مطاعم طريق المطار قرب دمشق، لأن ذكراً آخر طلب منه الجلوس فيما هو يصوّر المطرب بجوّاله. وتطور الأمر إلى صدام مع المتعاقدين من شركة الجبل لخدمات الحراسة والحماية، وهو قطاع جديد من «الأعمال» التي ازدهرت في زمن «الحرب». فاستعان الشاب بأقاربه المسلحين من موقوفين جنائيين سابقين، ليطلقوا رصاص رشاشاتهم على الحفل حتى تدخل قوات الأمن السياسي والفرقة الرابعة، كما نقلت وسائل إعلام.
التشبيح لدى وديع الشيخ وجمهوره ليس توجهاً سياسياً بل موقف أصلي وثابت من العالم. والمطرب، الذي تركّز نشاطه في لبنان، كان يحظى هناك بجمهور أعزل من شبان بلحى سوداء وصبايا بملابس السهرة. أما عندما غنى في سوريا، «العمق الاستراتيجي» للفن اللبناني؛ فقد كان شرارة كافية لاشتعال النار في بلد متخم بالسلاح الذي يحمله ذكور قلقون. وهكذا حظيت حفلة الشيخ في قرية مغمورة قرب العاصمة السورية بدعاية قل نظيرها، وسط جمهور حقنه طويلاً بعقلية «احكي على مقاسك» تحت طائلة «كسّر لك راسك».
ومن البديهي، إذاً، أن تجد هذه النزعة تجليها السياسي في نظام بشار الأسد الذي خاطبه الشيخ بقوله «يريدون رحيلك/ ما منرضى بديلك// رح تبقى يا أسدنا/ بأرواحنا منشيلك»، وفي حسن نصر الله الذي يخاطبه بالشعار المفروض «لبيك». مدمجاً، في خلطته المعتادة، نشيداً لحزب الله «اضرب والريح تصيح/ تسلم يا حامي الدار». ومن الطبيعي، في عرف الشيخ ومحيطه، أن حماية الدار قد تستلزم إرسال مقاتلين إلى بلد مجاور للتنكيل بقطاع واسع من أبنائه. ففي نهاية المطاف وديع «من شيعة علي» و«كل البلا جانا من الدواعش»!!