icon
التغطية الحية

وجيه البارودي.. صوت حماة المتمرد في الشعر والطب كيف يتذكره "طفله التاسع"؟

2024.06.24 | 05:48 دمشق

آخر تحديث: 24.06.2024 | 11:13 دمشق

الطبيب والشاعر الراحل وجيه البارودي برفقة ابنه حسيب في حماة ـ تلفزيون سوريا
الطبيب والشاعر الراحل وجيه البارودي برفقة ابنه عبد الحسيب في حماة ـ تلفزيون سوريا
تلفزيون سوريا ـ بثينة الخليل
+A
حجم الخط
-A

من مشاهير مدينة حماة السورية، الشاعر والطبيب الراحل وجيه البارودي (1906- 1996). أسر القلوب بشعره الذي يجمع الحكمة والغزل مع روح الدعابة وخفة الظل لمواجهة قسوة الحياة ولطرح مواضيع بعضها كان يعتبر من المحرمات اجتماعياً، فقد كان البارودي ينتقد الأثرياء بقسوة، ودعى الفقراء للثورة، ولقب بأبي الفقراء. حتى قيل إنه كان يعالج الأجساد بالطب، ويعالج الأرواح والعقول والوجدان بالشعر.

عاش البارودي 90 عاماً، ومارس الطب لمدة 60 عاماً، فوصف نفسه بقوله: "أنا أقدم طبيب في حماة، وأقدم سائق في حماة، وأقدم شاعر في حماة، وأتعس عاشق في حماة".

شكل الحب جزءاً كبيراً من شخصيته حتى بلغ التسعين من عمره، حيث كان شغوفًا بالعمل والعلم والطبيعة والجمال. ابتعد عن السياسة، لكنه كان داعية إصلاح اجتماعي وتقدم وتحرر، فكان أول من كسر تقليد لبس الطربوش، ولبس الطاقية المعروفة في فرنسا بالشابوه.

موقع تلفزيون سوريا، التقى مع عبد الحسيب البارودي، ابن وجيه البارودي الذي كان يرافقه كظله، بحثاً عن جوانب غير معروفة في حياة والده. وسألناه أولاً عن طفولته في ظل والده الشاعر والطبيب الشهير وجيه البارودي، فقال: "لم تكن أسرتنا ترى أبي كثيراً، إذ كان يغادر المنزل في الصباح الباكر قبل أن نستيقظ ويعود في وقت متأخر من الليل بعد أن نكون قد نمنا. وأحياناً نلتقي به عندما يعود لتناول وجبته الوحيدة في اليوم نحو الساعة السادسة مساءً. لم يكن لديه عطلة، إذ كان يعمل سبعة أيام في الأسبوع، ويخصص يوم الجمعة لمعالجة الفقراء مجاناً. والدتي مسرة العلواني كانت الشخصية القيادية في المنزل، حيث كانت تتولى مسؤولية إدارة الحياة اليومية واتخاذ القرارات المهمة. أنا كنت الطفل التاسع قبل الأخير إلا أنني كنت الأكثر دلالاً عند والدي، وكنت أرافقه في زياراته وتنقلاته، وأذهب معه إلى عيادته، حيث أجلس وأراقبه وهو يعالج المرضى، كنت أكثر شخص في العائلة يرى ويرافق أبي".

عبد الحسيب البارودي

ما الذكريات الأبرز التي تحتفظ بها عن والدك؟

"كان والدي محبًا للحياة ومتحمسًا لكل لحظة يمر بها. كنت دائماً أشاهده يلقي شعره بشغف وحيوية في المناسبات والسهرات، وكنت أشعر بفخر كبير بتواجدي إلى جانبه كمرافق له. كان يخصني بمعاملة خاصة، وكثير من المواقف جعلتني أشعر بأنه يرى طفولته في عيوني. عكس والدتي التي كانت توجهني بأسلوب مختلف".

هل كانت الوالدة تشعر بالانزعاج من شعر الغزل؟

"رغم علاقتها العميقة بوالدي، لم تكن قادرة دائمًا على التعبير بالشكل الذي ترغب به عن غيرتها. عندما كنت أحاول نقل بعض الملاحظات حول سلوك الوالد، كانت ردودها دائمًا ممزوجة بالمدح لشخصيته. كانت تحترمه وتحبه بعمق، ولكنها في الوقت نفسه تتمنى المزيد من الوقت والاهتمام منه.

ذكرى حرق ديوان الشعر المعروف باسم 'بيني وبين الغواني' تبقى مؤلمة في ذاكرتي، حيث أقدمت والدتي على هذا الفعل تعبيرا عن غيرتها. رد فعل والدي لم يكن سوى تعبيرا عن الحزن والغضب، وكذلك كانت مشاعري".

وجيه البارودي

 

كيف كان تأثير والديك على شخصيتك وتوجهاتك في الحياة؟

"كان والدي يتسم بروح حرة تعطيني المجال المطلق للتفكير والعمل والتعبير، كان يشجعني بشدة على استكشاف ثقافة الأفلام الأميركية. كان يحب السينما، وكلما كان هناك فيلم جديد في السينما، كان يشجعني بحرارة على مشاهدته واكتشاف مغامراته. كما كان يحثني دائمًا على قراءة المجلات والكتب مثل مجلة العربي وغيرها، مما أسهم في تنمية معرفتي".

كيف كانت عيادة والدكم؟ بماذا تتميز؟ وكيف كانت تجربة المرضى هناك؟

"عيادة والدي كانت في الطابق الثاني، وكان المرضى يتوافدون عليها بلا مواعيد مسبقة، وبأعداد كبيرة. كانوا يصطفون في طوابير على رصيف الشارع، وبعضهم كان يجلس على الدرج، بينما كان آخرون يقفون في غرفة الانتظار الممتلئة بالمرضى. هذه الصورة الحية ألهمت والدي لكتابة قصيدة تصف بوابة عيادته، والمشهد الذي يحدث في الحارة التي تقع فيها. إنها غرفة تحتوي على مستلزمات عاشت معه ستين عاماً: سرير للفحص وطاولة ومكتب وكرسيان وجهاز غاز لتعقيم الأدوات الطبية. وكان يختار الأدوية والعلاجات الأرخص، وفي حالة عدم قدرة المريض على تحمل تكلفة العلاج، كان يكتب على الوصفة للصيدلي: سيتم دفع الفاتورة لاحقًا، أي أن الطبيب سيدفع ثمن الدواء نيابة عن المريض".

وجيه البارودي

متى بدأت علاقة وجيه البارودي بالشعر.. قبل الطب أم بعده؟

"بدأ والدي مشواره مع الشعر في سن العشرين، قبل أن يصبح طبيباً، وكانت أولى قصائده بعنوان "البنت القصيرة"، والتي كتبها بتأثير من حب فتاة قصيرة القامة، فجاءت القصيدة طريفة، يقول في نهايتها:

إن أردت جمعتها في ضمة.. وإن قبلتها فخدها لك دائما

كان والدي يعبر عن كل جوانب حياته وعن ثورته على العادات والتقاليد الاجتماعية السائدة، بالشعر، سواء من خلال قصائده الخاصة أو بالاستشهاد بأشعار الآخرين. كان يؤمن بأن الشعر هو الوسيلة المثلى لفهم شخصيته وأفكاره، وكان يقول:

شعري حياتي، من أراد تعرفا … بي، وهو عني ترجمان أفضل

وكان الشعر يهبط على والدي في لحظات غير متوقعة، على سبيل المثال، أثناء قيادته للسيارة مع أصدقائه، فكان يطلب التوقف فورًا لتسجيل القصيدة، والتي قد تتراوح بين 20 إلى 30 بيتًا، خوفًا من نسيانها".

ما سر ارتباط والدكم بالشاعر وليد قنباز؟

"لقد كان خليله ورفيقه رغم أنه أصغر منه بثلاثين عامًا. كان يحفظ شعره أكثر منه ووصفه بقوله:

وبعصرنا ولألف عام بعدنا... يرعى تراثي باحث ومفكرُ

ووليد راويتي وشارح سيرتي... وهو ابن جني في الحديث وأقدرُ

وسيلجؤون إليه في أبحاثهم... فلديه سر قصائدي والدفتر

كان والدي يرى في وليد الحارس الأمين لتراثه الأدبي، وصاحب القدرة الفريدة على فهم وتفسير أعماله. وفي كثير من الأحيان، كان يقوم بتدقيق قصائده لغويًا، رغم أن والدي كان يقول دائمًا إنه لم يقزم الشعر أبدًا، بمعنى أنه لم يكتب شعرًا يحتاج إلى تصحيح. وكان لوالدي صداقات وثيقة مع عدد من الشعراء البارزين في عصره، منهم إبراهيم طوقان وحافظ جميل، اللذان نظم معهما قصيدة مشتركة بعنوان "وادي الرمان". كما كان من أصدقائه الشعراء بدوي الجبل، نزار قباني، رشيد سليم الخوري المعروف بالشاعر القروي، وعبد السلام العجيلي".

هل شجعكم والدكم على كتابة الشعر؟

"حاولتُ مرة أن أكتب الشعر، معتقدًا أنني كابنٍ لشاعر يجب أن أكون شاعرًا أيضًا. كانت محاولتي فاشلة، ولم يكن والدي لطيفًا في رد فعله. قال لي ضاحكًا: اذهب واقرأ الكتب، فهذه القصة ليست لك.

فتركت الشعر، ولكن شقيقي مسعف البارودي اهتم بالشعر من صغره، وصار شاعراً".

ما هي القصائد والمواضيع التي كانت أكثر قربًا لقلب وجيه البارودي؟

"كانت هناك العديد من القصائد القريبة إلى قلب والدي، مثل "الصيحة"، و"الحمراء" التي دعا فيها الفقراء إلى القيام والتحرك، وقصيدة "سيد العشاق" حيث منح نفسه هذا اللقب، و"حب في الصحراء". ومع ذلك، كانت القصيدة التي يعتز بها أكثر من غيرها هي "جائزة نوبل". في هذه القصيدة قال:

لو أن نوبل في جوائزه الهوى.. لأجاز حقًا دنجوان حماته

معظم القصائد التي كتبها والدي كانت تدور حول الغزل. كانت أولى كتاباته محاورة بين شاب وفتاة. وفي إحدى قصائده تحدث عن ظاهرة التلاعب على الحجاب قائلاً:

تفنن البنات في الحجاب ألوانا.. حتى غدا الحجاب كالجمال فتانا

ظلمنه وكل من ظلمته خانا.. وضيع السر الذي من أجله كانا

بهذا الأسلوب، عبّر والدي عن رؤيته الجريئة والمتمردة، مظهراً مهارته الشعرية في معالجة المواضيع الاجتماعية بحس فكاهي ونقدي. وكان منظمو الندوات يحرصون دائمًا على وضعه كآخر متحدث، نظرًا لقدرته الفائقة على إيقاظ الحاضرين وإبقائهم متحمسين حتى نهاية الفعالية.

نشر والدي ثلاثة دواوين شعرية تحمل عناوين: "بيني وبين الغواني"، و"كذا أنا" حيث يصف فيها نفسه، و"سيد العشاق". بالإضافة إلى ذلك، صدر كتاب جديد يحتوي على ما تبقى من شعره، بعنوان "حصاد التسعين".

البارودي

هل منح الطب والشعر الغنى لوجيه بارودي وأسرته؟

"لا. لقد كانت حياتنا صعبة، فوالدي كان يعمل كثيرًا ولكنه لم يكن يكسب ما يكفي. ومع ذلك كان الناس يظنون أننا من الطبقة الغنية. أذكر عندما كانوا يمنحون الكتب المدرسية مجاناً لأبناء الأسر التي لديها أكثر من ستة أولاد، كنت أذهب للحصول على الكتب  مجاناً باعتبار أننا 10 إخوة. لكنهم كانوا يقولون لي: اذهب، والدك وجيه البارودي".

ما الذي دفعك لترك سوريا والهجرة إلى أميركا؟

"أولاً قيود العادات والتقاليد، ثانياً بعد مشاركتي في الاحتجاجات الطلابية على دستور 1973 حيث هاجمنا مكاتب حزب البعث والشبيبة، وقمنا بتدمير ممتلكاتهم وإشعال النيران في مقارهم. بعد تلك الأحداث، تعرضت لضغوط كبيرة من قبل السلطات والمخابرات السورية، حيث كنت أشعر بأنني مُراقب في كل خطوة أقوم بها، ثم تم إخطار والدي بأنه يجب علي أن أغادر البلاد. وبعد معاناة في الحصول على جواز سفر بسبب التعقيدات الأمنية والموافقات اللازمة من مخابرات النظام السوري، تمكنت من المغادرة إلى الولايات المتحدة، بحثًا عن حياة جديدة وأفق أوسع".

كيف كانت علاقة وجيه البارودي بالسياسة في الفترة الديمقراطية؟

"في الأربعينات، بعد ترشحه للمجلس النيابي، تعرض لإحباط شديد إثر خسارته، الخسارة التي يعزوها إلى المال السياسي الذي كان يدير السياسيين في ذلك الوقت، فقرر الابتعاد عن السياسة.

ومن الطرائف أنه سأل مريضة إذا كانت قد شاركت في الانتخابات، فأجابته بأنها شاركت ولكنها لم تصوت له. استفسر منها عن السبب قائلاً: لماذا لم تصوتي لي وأنا أعالجك منذ سنة؟ فردت عليه: لا أريدك أن تترك حماة".

كيف كانت علاقة وجيه البارودي بنظام حافظ الأسد؟

"الخوف، كان دائماً ينبهني خلال فترة حكم حافظ الأسد وحزب البعث قائلاً: انتبه يا ابني، الجدران لها آذان، لا تثق حتى بأخيك.

كان يرفض نظام حافظ الأسد، لكنه اختار الابتعاد عن السياسة. كان يقول: أريد أن أعيش أكثر لأرى ما سيحدث في هذا البلد بعد وفاة حافظ، الذي يعتبره البعض ربهم الأعلى!؟

وجيه البارودي لم يكن يحب السلطة أو من يسحق كرامة الناس، لكنه اضطر لمقابلة حافظ الأسد مرة واحدة عندما تم اعتقال أحد أبنائه في الثمانينات وصدر حكم بالإعدام عليه. استقبل حافظ الأسد والدي استقبالاً حافلاً في القصر الجمهوري، معبراً عن اعتزازه به وبقصيدته "الحمراء" التي اعتبرها رمزاً للاشتراكية والعدالة. أما الضيافة، فقد كانت مميزة، حيث قدموا طبقاً يشبه طبق الشوكولا، لكنه كان يحتوي على ساعات ذهبية من ماركة أوميغا بدلاً من الشوكولا".

كيف تعامل النظام مع وجيه البارودي بعد وفاته؟

بعد وفاته عام 1996، ودفنه في حماة، تعرض القبر للتخريب. كانت لحظات من الحزن العميق عندما زرت قبر والدي لأول مرة حيث وجدت الحجارة مسروقة. كانت حيطان المقبرة وبعض شواهد القبور مثقبة بالرصاص، منذ تعرضها لهجمات من جيش نظام الأسد خلال أحداث الثمانينات. كانت هذه الأعمال تأتي كنوع من الإهانة والاستفزاز.

وعندما قررنا بيع بيت وجيه البارودي، قدمنا بعض مقتنياته الشخصية مثل الكؤوس والدروع والتماثيل والرسومات إلى متحف حماة ليتم عرضها، لكن المتحف اعتذر عن قبولها".