يستمر خلط الأوراق في الساحة السياسية في لبنان وذلك ربطاً بالنشاط الدبلوماسي المرتبط بخلق مناخ سياسي محلي وخارجي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية وتكليف رئيس للحكومة العتيدة، وعليه شهد لبنان مجموعة نشاطات دبلوماسية لافتة خلال الأيام الماضية، أبرزها زيارة الموفد القطري محمد عبد العزيز الخليفي إلى بيروت.
كذلك زيارة المرشح الرئاسي سليمان فرنجية إلى باريس ولقاؤه مستشار الرئيس الفرنسي باتريك دوريل، فيما تتشدد القوى المعارضة لفرنجية في موقفها بعد أن تلقت جرعة أمل بناء على الموقف القطري الرافض لوصول رئيس يمثل فوزه انتصاراً لفريق على آخر.
يتسلح السعوديون والقطريون بالمواقف الداخلية الرافضة لوصول حليف بشار الأسد إلى بعبدا، وتحديداً من الأطراف المسيحية الرافضة
وفي الداخل اللبناني مواقف علنية وأخرى في كواليس المشهد، فيما الأبرز هو موقف تيمور جنبلاط الذي قال "إننا نريد رئيساً لا يكون طرفاً". وموقف جنبلاط الابن جاء بعد عودة جنبلاط الأب من زيارته إلى فرنسا، والتي كانت مخصصة لاستكشاف ما هو جديد فرنسياً حول مبادرات ماكرون المحكوم عليها بالفشل الدائم. كما كان واضحا عودة وليد جنبلاط من دون لقاء فرنجية في العاصمة الفرنسية. ما اعتبر إعلانا مبكرا لحلفاء السعودية برفض وصول فرنجية والمطالبة بالذهاب لخيارات أكثر وسطية.
وفيما يتسلح السعوديون والقطريون بالمواقف الداخلية الرافضة لوصول حليف بشار الأسد إلى بعبدا، وتحديداً من الأطراف المسيحية الرافضة، في ظل تردد سني لافت تجاه فرنجية ومواقف متقاطعة للقوى السياسية البديلة والتغييرية والتي ترفض أي تسوية على حساب "سيادية" الاستحقاق، لذا برزت أجواء تفاؤلية من المواقف السعودية تجاه رفض دمج المسارات الإقليمية وفصلها، ومن ما أرسته من مواقف للموفد القطري محمد بن عبد العزيز الخليفي حول "دفتر شروط" الرئيس ومواصفاته المطلوبة والتي بطبيعة الحال لا تنطبق على فرنجية.
وبات واضحاً وجود مشاورات خارجية بهدف خلق تحرّك دولي لتحاشي الوصول إلى موعد فراغ حاكمية مصرف لبنان، والذي سيعني دخول لبنان في حال الفوضى الشاملة وربما التفكك، لا سيما أنّ القرار الدولي هو بعدم العودة إلى الوراء وتحديداً في مشروع إصلاح مؤسسات الدولة وإنتاج سلطة لبنانية جديدة خارج المنظومة السياسية السابقة المسؤولة عن الانهيارات والإفلاس، وهذا النقاش معطوف على تحولات إقليمية حدثت مؤخراً لا بد من الإسراع في استثمارها لصالح إنتاج الإخراج المناسب للاستحقاقات الدستورية.
ويعول البعض على انعكاسات مستقبلية للمصالحة السعودية - الإيرانية والتي لفحت لبنان بشق منها، من خلال تفكيك المنصات والحضور اليمني المعارض للسعودية وتحديداً الحوثيين، إنفاذاً لبنود الاتفاق برعاية الصين. في ظل وجود أطراف غير راضية بالاتفاق الحاصل ولها امتداداتها داخل إيران وأذرعها، عبر محاولات سريعة للسيطرة على المناطق الغنية بالنفط قبل أن تسري مفاعيل وقف إطلاق النار والدخول في مسارات التسوية السياسية. ما يفتح الباب بالنسبة لبعض الأطراف وتحديداً حلفاء الأسد في لبنان لأن يتلقّف لبنان بروح إيجابية ما حصل، وخصوصا أن بكين تريد إثبات حضورها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كوسيط عالمي موثوق به، ما يعني جنوحها باتجاه المساعدة في دفع الأمور إيجاباً في لبنان.
لكن تلك المعطيات وعلى أرض الواقع بدت تصطدم بالشروط العالية السقف لدول الخليج حيال الرئيس وشكله وطرق المعالجة المنتظرة منه حال انتخابه، والأكيد أن لدى الرياض والدوحة هواجس متعددة من أن يؤدي الدخول في تسوية مع حزب الله على شخص فرنجية من استمرار سياسة خلق الأزمات والانقلاب على التفاهمات وكذلك أن يكون انتخاب فرنجية مدخلاً جديداً لدفع الأسد في سياسة "مد اليد" إلى لبنان من جديد، وخاصة بعد تسرب معطيات تفيد بإعادة تكوين فريق في النظام السوري لمتابعة يوميات السياسة في لبنان كمنطلق مستجد للتعبير عن الخروج من الأزمة والحرب.
لذا ثمة من يتحدث أن السعودية أشارت إلى حلفائها بأنها متمسكة بالثوابت القائمة على معارضة وصول رئيس من محور الممانعة، وكذلك عدم رغبتها في الوقت نفسه وصول "رئيس مواجهة" مع حزب الله، وذلك بسبب ذهاب المنطقة إلى تهدئة وتفاهمات وباعتبار أن الوقت لم يعد مؤاتياً للاشتباك السياسي والمعارك المفتوحة. وهذا السقف السياسي السعودي انعكس في مواقف جعجع وجنبلاط والجميل وبعض النواب التغييرين لتثبيت مشروعية قطع كلّ طرق حزب الله-الأسد، وتأكيد "المعارضة" لثابتة تشير إلى أن "فرنجية لن يمر إلى بعبدا".
بالتوازي كانت العقوبات التي فرضتها واشنطن على لبنانيين وسوريين رسالة ذات معاني سياسية متعددة، فالعقوبات التي فرضت على نوح زعيتر وحسن دقو وآخرين من آل الأسد بسبب تورطهم في تجارة المخدرات وتهريبها هي استكمال لاستراتيجية حصار النظام والضغط باتجاه وقف التطبيع معه.
أما العقوبات التي فرضت على الأخوين ريمون وتيدي رحمة، فهي ذات مغزى سياسي، وهم متورطون بملفات فساد داخلية، إضافة إلى علاقتهم في تأمين المحروقات للنظام في سوريا، وبناء على المسارين من العقوبات يمكن تحليل الموقف الأميركي في لبنان، لا سيما في ضوء تركيز أميركي على مسألة محاربة "تبييض الأموال" للنظام وحلفائه والقائم على خلفية الاقتصاد الموازي القائم.
ويبدو في تصاعد فرض العقوبات على متورطين بالمخدرات، رسائل سياسية منها تسليط الضوء على الحدود المتفلتة بين لبنان وسوريا، والتي لطالما طالبت واشنطن بضرورة ضبطها ومنع عمليات التهريب من خلال سياسة تقضي بالإمساك العسكري الرسمي عليها. وهذ التصعيد الأميركي يتزامن مع شروط قدمتها السعودية والأردن للنظام حول مسألة ضبط الحدود السورية ومنع تهريب المخدرات إلى الخليج عبر الأردن أو لبنان.
نطوي العقوبات على الأخوين الرحمة في الشق اللبناني على تأثيرات تطول مرجعيات مسيحية كجبران باسيل وسليمان فرنجية
لكن تكمن خلفيات فرض عقوبات على الأخوين رحمة، في إطار رسائل سياسية للداخل اللبناني أولاً وللجانب الفرنسي ثانياً، بكون العقوبات تنطلق من مبدأ معاقبة استخدام النفوذ لتحقيق مكاسب لفرنسا وحلفائها. وهذا يترجم الرد الأميركي على الالتفاف الفرنسي على الدول المواكبة للبنان وحصول باريس على امتيازات في المرافئ والمنشآت ما يفهم منه أسباب تثبيت باريس لأركان المنظومة عبر ترشيح سليمان فرنجية.
في حين تنطوي العقوبات على الأخوين الرحمة في الشق اللبناني على تأثيرات تطول مرجعيات مسيحية كجبران باسيل وسليمان فرنجية، الذين لا بد لهم أن يقفوا عند تفاعلات هذه الرسالة المدوية، وهذه التفاعلات تشير في ثناياها إلى تورط باسيل في ملف الفيول المغشوش، على الرغم من محاولات التبرؤ العوني من هذه العلاقة، فيما رحمة هما الممولان الرئيسان لنشاط فرنجية السياسي منذ عهد الوصاية السورية.
لذا يبدو في العقوبات إعلان واشنطن دخولها الرسمي للملفين اللبناني والسوري لتخريب "طبخة" ماكرون في الاستحقاق الرئاسي اللبناني وهي شبيهة بإعلان عقوبات على مساعدي بري وفرنجية علي حسن خليل ويوسف فنيانوس نهاية العام 2020 بهدف الإطاحة بمبادرة ماكرون القائمة على إنقاذ الطبقة السياسية وإعادة تجميل صورتها.
وإزاء هذه المواقف، يمكن للبنانيين أن يتخيلوا المناخ الذي سيكون سائداً في المنطقة، في حين هم يطلبون من العالم أن يخترع لهم التسويات لأزماتهم الداخلية، من انتخاب رئيس وتشكيل حكومة إلى سردية تسول المليارات، لعلها تنقذهم من التفكّك والجوع ومخاطر التقاتل.