ثمة معطى واحد واضح منذ بداية هذه الحرب المجنونة، وهو أن إيران وعلى الرغم من كل البروباغندا الإعلامية والصوتية التي تطلقها عن الصمود والتصدي ووحدة الجبهات وتكامل الساحات، فإنها أكثر الأطراف حرصاً على عدم توسع الحرب وتمددها بشكل لا يمكن إيقاف اندفاعها، ما يعني استدعاء كل الشرق والغرب لمواجهة إيران.
وهذا أدى إلى تكوين صورة عامة عن الأداء الإيراني عنوانه أن طهران، تفضل "اللعب على القطعة" بكونها ستخسر أي مقامرة كبرى تشمل كل الساحات، عبر إزعاج كل الخصوم عبر ساحات لبنان وسوريا والعراق واليمن، والهدف الرئيسي لهذه الصيغة هي إبعاد أي ردود عن الداخل الإيراني المنهك أصلاً من جراء العقوبات الغربية، والسعي الدائم لاستدراج عروض تسويات من الجانب الأميركي تشمل ضمان إبقاء الأمور ضمن حد معين من السخونة.
بينما إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أحرص الحريصين على إجراء الهدنة خلال شهر رمضان المبارك، لأنها ووفقاً لفهمها للواقع العربي والإسلامي في ظل كل الأزمات البينية في العواصم المحيطة بالحرب، فإن الخشية الأكبر من انفجار شعبي وتعبئة دينية، على اعتبار أن الشارع العربي بكل تكويناته سيكون أكثر قابلية لأن يتحرك بعد صلوات التراويح، والخوف الحقيقي هي التحركات المحتملة في الأردن ومصر، وخاصة أن أبعاد الحرب ستلقي بظلالها على البلدين إذا ما نجح نتنياهو بتهجير سكان قطاع غزة باتجاه سيناء.
تبدو إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والحزب الديمقراطي والذي يعيش أزمات متلاحقة، أكثر الأطراف الحريصة على إجراء تلك الهدنة
وكان مريباً ما قاله مدير مكتب الأمن القومي الأميركي في الشرق الأوسط بريت ماكغورك خلال جولته العربية وحديثه عن احتمال دخول أطراف إقليمية على الخط لتشجيع حصول اضطرابات في مدينة القدس، وهو ما سيشعل كل المنطقة العربية وقد يؤدي لخلق اضطرابات في دول متعددة، ويبدو أن المسؤول الأميركي يغمز من قناة إيران وتركيا على اعتبارهما الدول القادرة على تشجيع هذا الدور المحتمل.
وتبدو إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والحزب الديمقراطي والذي يعيش أزمات متلاحقة، أكثر الأطراف الحريصة على إجراء تلك الهدنة، والتي ستدفع باتجاه الارتداد داخلياً على مسافة أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية، وتحديداً إلى المناطق التي تشهد حضوراً وتصويتاً عربياً وإسلامياً كبيراً، والذي من المرجح أن يصوت هذه المرة وفقاً للعاطفة الجياشة تعبيراً عن غضبه من موقف بايدن من الحرب في غزة، والأكيد أن الحزبين الديمقراطي والجمهوري لا يمكنهما تجاهل هذه الكتلة الناخبة والتي باتت وازنة في ولايات كثيرة.
وعلى الصعيد الداخلي الإسرائيلي يسعى رئيس حكومة تحالف اليمين بنيامين نتنياهو إلى توظيف إطلاق عدد من المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس لتحسين صورته السياسية وتصويرها إنجازاً داخلياً في ظل السعي الدائم لضرب حكومته وإسقاطها، وعلى وجه الخصوص فإن العودة إلى المفاوضات في باريس والدوحة أتى بعد إقناع حماس بالتنازل عن بعض المطالب المتعلقة بالميدان وعدد الأسرى الذين سيطلق سراحهم من الجانب الإسرائيلي إضافة لموافقة الحركة على الدخول في منظمة التحرير والتي تعترف رسمياً بإسرائيل، وهذه الأمور بدأ نتنياهو بتسويق أنها جرت نتيجة تصلبه السياسي ورفضه للضغوط الأميركية والعربية.
وينشط نتنياهو على تسويق سردية إعلامية مفادها أن الهدنة لا تعني وقف الحرب والعودة للمربع الأول، لأنه يدرك جيداً أن إنهاء الحرب وفقاً لورقة باريس أو مناقشات الدوحة ذات المراحل الثلاث سيعني سقوط حكومته فوراً، في ظل استطلاعات الرأي التي تؤكد أن الجزء الأكبر من الشارع الإسرائيلي يميل بقوة لاستمرار الحرب، وهذا الأمر سيعزز قوة منافسيه غريمه بيني غانتس وغادي آيزنكوت، واللذان يقدمان نفسيهما للداخل الإسرائيلي على أنهما الأصلب في مواجهة إدارة بايدن "الخانعة".
لكن ماذا عن الجبهة المفتوحة مع لبنان؟ هذا السؤال يكثر تردده في أروقة الصالونات السياسية والدبلوماسية، في ظل تمسك حزب الله بمعادلة الربط العسكري بين جبهة غزة وجبهة لبنان، مع تأكيده الدائم والمستمر أن الهدنة في حال حصولها في غزة سيلتزم بها في الجنوب اللبناني، وهذا الموقف يأتي رغم كل التطورات الميدانية الحاصلة والتهديدات الإسرائيلية والتي لاتزال تصل عبر دبلوماسيين أجانب عن نية إسرائيل ضرب لبنان بالتزامن مع بدء الهدنة في القطاع.
واستمرار إسرائيل بتوجيه ضرباتها في عمق لبنان، وصولاً لاستهدافها منطقة بعبلك الهرمل المحاذية لسوريا، بعد عملية صفد والتي استخدم بها الحزب صواريخ جديدة، إضافة لإدخال نوع جديد من السلاح وهو صواريخ الدفاع الجوي الذي أسقط طائرة هرمز الإسرائيلية ذات الأهمية العالية في عالم المسيرات المتطورة.
هناك مسعى أميركي يقوده هوكشتاين بهدف فصل لبنان عن غزة، لذا فإن كل التصعيد العسكري الحاصل حالياً، واستخدام حزب الله لأسلحة جديدة، غايتها رفع سقف التفاوض
من هنا جاء تعويل الأطراف السياسية في لبنان على القمة القطرية – الفرنسية والتي أتت في ظل حالة تباين بين قطر وفرنسا في الملف اللبناني، فالدوحة حريصة على إبرام حل لبناني لكن لا تتكرر به الأخطاء التاريخية السابقة، أي الحلول الترقيعية التي يستهويها أركان النظام السياسي وتحديداً حزب الله وحلفاءه، لذا حرص الموفدون القطريون على تمرير فكرة هامة وهي فكرة "المواصفات الرئاسية"، أي الرئيس الذي يحمل أجندة إصلاح اقتصادي – سياسي ولا يشكل انتخابه شعوراً لطرف بالانتصار على الطرف الآخر، فيما الجانب الفرنسي ينظر إلى لبنان "كعكة" استثمارات في دولة منهارة، وأمام تحقيق هذا الهدف يمكن القبول بكل أنواع التسويات.
بالتزامن هناك مسعى أميركي يقوده هوكشتاين بهدف فصل لبنان عن غزة، لذا فإن كل التصعيد العسكري الحاصل حالياً، واستخدام حزب الله لأسلحة جديدة، غايتها رفع سقف التفاوض والتمهيد للدخول إلى الفجوة الحاصلة عبر بوابة الموافقة على هدنة تتيح له اللعب بالساحة بشكل رسمي ومعترف به، لذا فإن كل ما يجري لا يزال تحت السقف المسموح به بانتظار الوصول إلى اتفاق، إلا إذا جنحت إسرائيل باتجاه طريق مغاير ومفاجئ يضع كل الأطراف أمام حالة صدمة ميدانية لا هروب منها.
ويبدو أن الموقف الأميركي يعززه هوكشتاين بحديثه اللافت عن أن مفاتيح الحل بيد واشنطن، وأن الإدارة الديمقراطية فوضته إلى إبرام اتفاق يبدأ في الجنوب، ولا ينتهي في قصر بعبدا، وأن هذا المسار ينطوي على موافقة إيرانية ضمنية وفقاً لمخرجات اللقاءات في مسقط، وعليه فإن تريث الأميركيين في الملف يحمل تقدير موقف ثابت، وهو أن الأصوات العالية للمتطرفين ستصمت في لحظة التسوية.
فلننتظر!