شاعت عبارة «التاريخ يكتبه المنتصرون» لتشكّل مصدر قلق إضافي لسوريي المعارضة الذين تتناهبهم، منذ سنوات، مخاوف وأوهام وكوابيس هي في حقيقة الأمر، مفرزات وأعراض جانبية للفشل في إسقاط النظام حتى الآن، وعدم وجود بارقة أمل جدي في نهاية النفق الذي طال وزادت كلفته البشرية والمادية إلى درجة لم تكن متوقعة عندهم.
أعراض هذا الاستعصاء، الذي بلغ حد الاستنقاع على «ضفتي النزاع»، كثيرة. ويمكن لرصدها أن يفسّر العديد من إشكاليات الحاضر وعراكاته. وقد ارتفعت، في سنوات التقدم العسكري الذي حققه النظام أخيراً، مشاعر الخشية على «الرواية»، بعد أن ظن الكثيرون أن تلك الانتصارات نهائية، وأن جمهور الثورة، الذي تفرّق في فيافي الأرض، نمط جديد من الهنود الحمر الذين لن يستطيعوا أكثر من المحافظة على الصدق في نقل حكاية ما جرى للأجيال القادمة. وذلك في مواجهة ما يوصف بأنه «ماكينة» من تزوير الحقائق يديرها النظام «المنتصر». أما اليوم، بعدما ساورت معالم الشك في هذا الانتصار المزعوم صدر النظام نفسه ومؤيديه، فقد ظل ثابتاً أن الخشية على الرواية من التحريف هي من وساوس المهزومين.
بات شهيراً أن هذه الوسائل مكّنت «الحرب السورية» من أن تحوز رتبة الحدث الأشد توثيقاً عبر التاريخ
فمن جهة أولى تسهُل ملاحظة أن قاعدة «التاريخ يكتبه المنتصرون» تنتمي إلى عصور سحيقة، يوم كان التأريخ عملاً رفيعاً تختص به نخبة من الكتاب المنتسبين إلى بلاط منتصر ما أو من السائرين في ركابه. وربما اختُصرت هذه النخبة في مؤرخ واحد قام بالتأليف، أو حفظت الظروف بالصدفة مخطوط كتابه من عاديات الزمن، فأصبح الدليل الأساسي لمعرفتنا بحقبة أو عهد كما هو معروف. والحال أن هذه الحصرية في امتلاك أدوات الإعلام تغيرت منذ العصور الوسطى، بدءاً بتعميم التعليم واختراع المطبعة وظهور الصحف، وصولاً إلى أجهزة الهاتف المحمول المزودة بكاميرات وقنوات البث الفضائي والتخزين على الإنترنت. وقد بات شهيراً أن هذه الوسائل مكّنت «الحرب السورية» من أن تحوز رتبة الحدث الأشد توثيقاً عبر التاريخ.
وإذا غضضنا النظر عن الطبيعة المؤقتة لانتصار النظام؛ فإن ركاكة روايته للأحداث كفيلة بأن تخرجها من دائرة المنافسة. فما حدث، وفق دعايته، «حرب كونية» شاركت فيها أكثر من نصف دول العالم، بافتراض أن كل مهاجر جهادي يمثل دولته. وقد أفشلها صمود الجيش الذي دمّر نصف البلاد وهجّر ربعها. هذه قصة خارج أي تداول عقلاني. وهي غير قابلة للبقاء إلا محروسة بالبوط. وهي غير قادرة على إقناع أي من السوريين الذين عاشوا «الأحداث»؛ سواء أكانوا ثائرين أو بين بين أو حتى من مؤيدي النظام وحاضنة قوته التنفيذية التي تعرف ما جرى أكثر من سواها.
رواية النظام هذه مرتبطة ببقائه؛ سلطة سياسية ووسائل إعلام وتوجيهاً معنوياً للجيش وهتافات في المدارس. لكن من شأن أي انتقال سياسي، يشرخ تماسك هذه البنية، أن يضيف إلى رواية الثورة عما جرى كثيراً مما يكمّلها. إذ نعلم أن كمية الوثائق الأمنية التي وقعت بين أيدي المنظمات الحقوقية أقل بكثير من الماكينة الورقية البيروقراطية الهائلة للنظام. وأن المنشقين عن أجهزة الأمن والقمع كانوا، في الغالب، في مواقع ثانوية أو قليلي الاطلاع أو مبكّري المغادرة، مما يجعل من الاعترافات المرتقبة للجناة مادة أغنى من شهادات الضحايا. وفي هذا الصدد يمكننا أن نتذكر الدور الذي لعبته مقابلة أجريت مع اثنين فقط من «سرايا الدفاع»، قُبض عليهما إثر فكرة عملية خرقاء في الأردن طافت ببال قائدهما رفعت الأسد، في الكشف عن مجزرة تدمر وأبرز منفذيها. وحديثاً الدور الذي لعبته صور الجثث التي سرّبها «قيصر»، صف الضابط في الشرطة العسكرية، في تعرض النظام لأقسى أنواع العقوبات التي تستهدف بقاءه اليوم.
من طبيعة شهادات الضحايا أن تكون مهتزة، جزئية، محدودة المعرفة. أما رواية الجناة فهي ذكريات عن مدة كانوا يؤدون فيها عملهم «الطبيعي» بحد أدنى من التوتر وأعلى من الدقة والتوثيق. من غير المعروف كم ستتاح للمؤرخين والصحفيين الاستقصائيين ولجان الحقيقة من هذه الوثائق وتلك الشهادات، فهذا مرتبط بطريقة الانتقال السياسي وإجراءات الحل النهائي منظماً أو فوضوياً، لكن وفرة الجرائم تقول إن أي حد مما يمكن توافره كفيل باستكمال الرواية نفسها وتثبيتها. ومن يستطيع أن يصل، اليوم، إلى الحكايات الشفوية لبعض الجناة يعرف أن هناك رواية واحدة لما جرى، سيتناوب القاتل والقتيل على رسم مشاهدها الوثائقية.
الانتهاكات والدماء قد جرت على أيدي جميع الفاعلين العسكريين، مع فارق هائل في النسبة لصالح النظام
في سبيل دعم سرديته بحد أدنى معقول من الحقائق والمظلومية؛ تعمد مؤسسة «وثيقة وطن»، التي أنشأها النظام في منتصف 2016، إلى تسجيل روايات شفوية لجرحى قصف عشوائي ارتكبته فصائل معارضة على دمشق وحلب، أو لناجين من حصار فرضته على بلدات شيعية في ريفي حلب وإدلب، وحتى للحصار الذي أحكمته داعش على أحياء من مدينة دير الزور، أو لذوي ضحايا عمليات تفجير واسعة النطاق جرت في دمشق وحمص والساحل. في هذه الشهادات فقط يكمن بعض الحقيقة. وهو أمر لا بد من الاعتراف به في أي عملية تدوين نزيهة لتاريخ البلاد خلال السنوات العشر السابقة. وهو، على كل حال، ليس رواية كاملة بديلة كما يجري تسويقه أسدياً، بل سياق مواز لها بات معروفاً كنوع من ردات الفعل غير المبررة وغير المقبولة. وقد صار معروفاً الآن أن الانتهاكات والدماء قد جرت على أيدي جميع الفاعلين العسكريين، مع فارق هائل في النسبة لصالح النظام.
يفيد توثيق الثورة في تقديم مادة غنية، ربما أكثر مما يلزم، للمؤرخين والباحثين ومتتبعي قضايا جزئية محددة لأسباب جنائية أو غيرها. وهو مهمة مطلوبة على جميع الأحوال. أما الخشية المذعورة على الرواية فهي هواجس مبالغ فيها لمن «يحسبون كل صيحة عليهم» من المكتئبين ومدمني نشر القنوط على وسائل التشاتم الاجتماعي.