نشرت بضعة مقالات في الآونة الأخيرة تتناول مسألة العقوبات على النظام السوري، تراوحت ما بين مشجع ومتحفظ، والتشجيع على معاقبة النظام السوري أمر بدهي لكل سوري خبر هذا النظام المتوحش، أما التحفظ فهو ما يجب مناقشته.
في السياسة لا توجد أسئلة كثيرة يكون الجواب فيها بنعم أو لا فمعظم الأسئلة في هذا العالم أجوبتها شرطية أي أن الإجابة غالبا ما تكون: نعم في حال كذا. وهي إجابة لا تتناقض مع الإجابة: لا إذا كان كذا..
ولو طبقنا هذه المعادلة على مسألة العقوبات على النظام السوري لقلنا إنها واجبة في حال كانت تؤثر على النظام فعليا، وهي غير واجبة إذا كانت تضر بالشعب السوري، كما أنها غير واجبة في حال كانت شكلية فقط، وليس لها تأثير فعلي على النظام.
"وأنت تقاتل الوحش احذر أن تتشبه به"، ولنعيد ترجمة المثل فنقول وأنت تقاتل النظام احذر أن تتشبه به أو تصبح مثله
من ناحية ثانية وبما يتعلق بالمعارضة التي تقاتل النظام لا بد من التذكير دوماً بمقولة "وأنت تقاتل الوحش احذر أن تتشبه به"، ولنعيد ترجمة المثل فنقول وأنت تقاتل النظام احذر أن تتشبه به أو تصبح مثله، والتشبه بالنظام لا يعني أن تكون مغتصبا أو قاتلا الناس في السجون أو أن تعمد لقصف التجمعات السكنية، بل التشبه به تعني ألا تكون مستغرقا في عشق ذاتك بحيث لا ترى شيئا سوى رغبتك بإسقاط النظام، دون أن ترى ما انتهى إليه الأمر بعد ثلاثة عشر عاما مضت على الثورة، من دمار الشعب السوري ومعاناته المتزايدة لدرجة الهجرة وتفشي الأمراض النفسية والذهنية وازدياد معدلات الانتحار والأمراض الناجمة عن سوء التغذية.
في قصة معبرة عن امرأتين تتقاضيان بشأن طفل تدعي كلتاهما أنه ابنها يصدر القاضي الحكم بمنح الطفل للمرأتين عن طريق تقطيعه إلى قسمين متساويين، وافقت الأم الزائفة ورفضت الأم الحقيقية.
القصة يمكن إسقاطها على ذهنية بعض المعارضين الذين يمثلون هنا الأم الزائفة، هؤلاء الذين لا يرون في سوريا سوى النظام، لذلك هم في سبيل إسقاطه لا يبالون بتدمير سوريا بمن فيها، فهم نسوا أن في سوريا شعبا سوريا يعاني من النظام بقدر ما يعاني تجاهلهم... وهو عين سياسة النظام الذي بحجة قتال المعارضة دمر نصف مدن سوريا وهجر نصف سكانها، وهو أيضاً ما تفعله إسرائيل في غزة، التي قامت بتدمير القطاع بالكامل وتهجير أهله.
ما سبق ذكره عن النظام وإسرائيل يشبه بالضبط ما فعلته العقوبات الأميركية والأوروبية على النظام السوري فهي تتسبب في استمرار انقطاع الكهرباء التي دمرت الصناعة السورية تقريبا بشكل شبه كامل، فهجر آلاف الصناعيين حلب ودمشق إلى مصر كما أن العقوبات سببت تدهور الحالة الخدمية والمعاشية وتهجير الشباب السوري (يوميا خمسة آلاف سوري يدخلون لبنان عبر المعابر غير الشرعية).
فكلما ظهرت عقوبات جديدة تضيق على النظام ازداد نهب النظام للشعب دون أن تؤثر العقوبات بحال من الأحوال على النظام الذي يحتال على العقوبات ويعوض انقطاع تدفق الأموال من دول عربية بنهب منظم للسوريين، إذ يخترع ضرائب جديدة ويرفع الأسعار بشكل دوري، وهو ما يشكل مزيدا من الإفقار والتجويع يضاف إلى مشكلة التضخم.. ويبارك أساليب جديدة لتهريب الكبتاغون إلى دول عربية مجاورة وصولا إلى أوروبا.
السؤال الذي يخطر على بال كثيرين هو لماذا تحرص أميركا على مقاتلة الأسد بالسلاح الاقتصادي فيما هي رفضت مقاتلته عسكرياً ورفضت دعم من يقاتله عسكرياً؟
إن وسائل إسقاط النظام كانت متوافرة وممكنة منذ سنة 2011 لو أرادت الولايات المتحدة ذلك، لكن أميركا لم تفعل بل هي منعت قوى الثورة من إسقاط النظام عسكريا بامتناعها عن تزويدها بالسلاح الفعال بحجة خوف الأميركيين من "وقوعه في اليد الخطا".
وجود حاكم اسمي لا صلاحية له ولا قوة ضروري لها كحجة لتبرير التفكيك وإقامة دويلات قوية، مثل دويلة الجزيرة ودويلة إدلب
وإسقاط الأسد ممكن أيضاً دون عقوبات اقتصادية، عقوبات تؤذي الشعب السوري أكثر مما تؤذي النظام بكثير.
لقد تريثت طويلا القوى الدولية الحاكمة في طرد بشار لسبب أساسي هو تفكيك البلاد بهدوء، فوجود حاكم اسمي لا صلاحية له ولا قوة ضروري لها كحجة لتبرير التفكيك وإقامة دويلات قوية، مثل دويلة الجزيرة ودويلة إدلب.
أما ما فعلته أميركا حتى الآن في سوريا فهو تدميرها بحجة تدمير النظام، والحقيقة فإن السياسة الأميركية في إضعاف الشعوب وتدميرها لم تقتصر على سوريا والعراق ولبنان وليبيا بل هي شملت حتى ألمانيا، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سعت أميركا لتحويل ألمانيا إلى بلد زراعي لكن الوطنيين الألمان انتبهوا إلى الخطة الأميركية الخبيثة وتجنبوه.
ختاماً نريد للشعب السوري أن يعيش حتى ولو لم ينل حريته المنشودة الآن، فالعالم لم ينتهِ بعد، وستكون هناك فرص قادمة لينال حريته، قد يكون النظام بمساعدة حلفائه لم يسقط تماما، وقد تكون المعارضة قد هزمت بـ "خيانة" الأميركيين، لكن جمهور المعارضة الأوسع يتمنى أن يبقى السوريون أو من تبقى من السوريين وألا يتحول الشعب السوري إلى مكسر عصا وساحة لتصفية الحسابات، وهذا لا يعني بحال من الأحوال تخليهم عن حرية شعبهم ولا يعني الاستسلام للأسد أو الاعتراف له بأي مشروعية من أي نوع.. إن للباطل جولة وللحق جولات..