منذ بدء الأعمال العسكرية في سوريا وأعداد العاملين في القطاع الطبي تتناقص يوماً تلو الآخر، بسبب هجرة عدد من الأطباء والممرضين والفنيين أو موت عدد كبير منهم أو حتى اعتقال قسم منهم. وينعكس ذلك سلباً على الواقع الصحي في البلاد، وخاصة في مناطق سيطرة النظام السوري، حيث يعاني موظفو القطاع الطبي من مشكلات عديدة تبدأ بقلة الدخل ولا تنتهي بالضغوط المرتبطة بظروف العمل.
تهجير لكوادر المشافي
في السنتين الأخيرتين شهدت سوريا هجرةً كبيرة للأطباء والممرضين وفنيي التخدير إلى دول الجوار وإلى أوروبا، وهي هجرة لم تشهدها سوريا طوال سنوات الحرب، فمنهم من سافر بعقود عمل إلى العراق أو الصومال أو اليمن أو ليبيا أو السودان، ومنهم من سافر إلى أوروبا، ما خلف نقصاً كبيراً في الكوادر الطبية العاملة في مشافي القطاعين العام والخاص.
"ربا" ممرضة أربعينية عملت في قسم العمليات في أحد مشافي الدولة لأكثر من 15 عاماً، وتمتلك خبرة كبيرة في العمليات الجراحية، تركت عملها وسافرت إلى العراق لتعمل في أحد المراكز الطبية براتب يقدر بنحو 800 $ شهرياً.
تقول لموقع تلفزيون سوريا "في سوريا أعمل 5 أيام في الأسبوع براتب لا يتجاوز الـ 30$، لا يكفيني لإطعام عائلتي، أقله إن اغتربت لعام أو عامين سأوفر لأولادي حياة كريمة".
في الوقت الذي كانت تنهك فيه ربا كل يوم للعمل براتب زهيد يحصل الاختصاصي الذي تساعده في العمليات على أجر يعادل أضعاف راتبها الشهري عن كل عملية يجريها، ومن دون أي تعويض لها أو تقديم مساعدة أو تحسين لوضعها من قبل وزارة الصحة. ربا لا تستطيع كغيرها من زملائها أن تعمل في مشافٍ خاصة وتحصل على أجر إضافي ولكن بحسب قولها حتى المشافي الخاصة تعطي أجراً "معيباً" للتمريض.
ليس الممرضون وحدهم من يهاجرون بسبب شح الأجور، فكثير من أطباء التخدير وأطباء الأطفال في سوريا هاجروا بسبب قلة الأجور، فمثلا في العملية القيصرية التي تكلف نحو 600 ألف ليرة سورية يحصل طبيب التخدير والفني على ما يقارب 40 ألف ليرة سورية ويحصل طبيب الأطفال على 10 آلاف ليرة في الوقت الذي يحصل فيه طبيب النسائية على ما لا يقل عن 300 ألف ليرة سورية. والأمر نفسه بالنسبة لعمليات التجميل التي تستغرق ثلاث ساعات ويحصل فيها جراح التجميل على مليونين مثلاً ينال طبيب التخدير فقط على خمسين ألف ليرة.
وهذا ما دفع "نمير"، طبيب تخدير في أواخر عقده الثالث للهجرة فهو يعمل في مشافي الدولة والمشافي الخاصة ليعيل عائلته، ورغم هذا لا يستطيع تأمين كل احتياجاته، والمشكلة أن عدد أطباء التخدير في سوريا أساساً قليل وفنيي التخدير عددهم قليل أيضاً وأحياناً تتوقف العمليات في بعض المشافي بسبب عدم وجود طبيب تخدير كما حدث في مشفى التوليد الجامعي في دمشق وفي مشفى الزهراوي.
يوضح نمير معاناته قائلاً "كل مرة نطالب بتحسين واقع المخدرين تقوم وزارة الصحة برفع سقف المكافآت والتعويضات الشهرية، ولكن المشافي الخاصة تعاملنا بأسعار ما قبل 2011 نفسها وأحياناً يزيدون زيادة مخجلة في الوقت الذي يتقاضى فيه أطباء التخدير خارج سوريا رواتب عالية".
ظروف عمل سيئة من دون راحة
"مهنتنا إنسانية ولكنك تكره الإنسانية بسببها"، هي الجملة التي قالها رمزي في بداية حديثه. رمزي ممرض في أحد مشافي القطاع العام ويبلغ من العمر 35 عاماً، عاد لوظيفته كممرض بعد تسريحه من الخدمة العسكرية الإلزامية ووجد نفسه غير قادر على السفر خارج سوريا. في بادئ الأمر وجد صعوبة في التناغم مع العمل خصوصاً أنه قضى نحو 8 سنوات كـ "عسكري" بعيد كل البعد عن الطب والتمريض.
يعمل رمزي اليوم ممرضاً بنظام مناوبات في أحد مشافي القطاع العام ويناوب في مشفى خاص من أجل تأمين وضعه المعيشي شهرياً، ورغم أنه يعمل ليومين في مشفى الدولة ويومين في مشفى خاص أسبوعياً فإنه يؤكد أنه ينهك من العمل فقلة عدد الممرضين جعلت مهامه أكبر وأكثر، ففي الوقت الذي يحتاج القسم الذي يعمل به إلى أربعة ممرضين يوجد ممرضان فقط، وهذا بالطبع لن يكون جيداً.
يقول رمزي لموقع تلفزيون سوريا "لن أقصر في عملي ولكن الخطأ وارد خصوصاً عندما تعمل لـ24 ساعة متواصلة من دون راحة، فبالطبع هنالك مريض سيخدم على حساب مريض والأمر ليس بيدي، ولكنني أحاول قصارى جهدي خدمة المرضى". معاناة رمزي هي معاناة كل الكادر الطلي من تمريض وأطباء، فكثرة المرضى وقلة الكادر يجعل تقديم الخدمات صعباً في أكثر الأحيان.
"علا" طبيبة مقيمة لاختصاص داخلية عامة، لم تسافر كغيرها من الأطباء خارج سوريا، ولكن سفر كثير من زملائها زاد عبء العمل والمسؤوليات الملقاة على عاتقها، فعندما يكون دوام د.علا في قسم العناية المركزة يكون الوضع صعباً جداً عليها، لأن كل مريض بحاجة إلى اهتمام خاص به، وتمريض يراقبه كل الوقت، فضلاً عن أن الاختصاصيين قل عددهم وهذا ما يجعل حصولها على التعليم الصحيح والجيد أمراً ليس بالسهل مقارنة بالسنوات السابقة.
"عليك أن تدرس أكثر من اللازم وتتابع حالة المرضى بنفسك، وأن تسأل الاختصاصي الموجود عن كل تفصيل دقيق، فمعظم الاختصاصيين تركوا العمل ولم يعد هنالك نظام تعليمي كما السابق لقلة عدد الأطباء ولضغط العمل الشديد، فالمجهود هنا ذاتي بحت" تضيف د.علا.
كورونا مصدر رزق والطب تجارة!
منذ بداية جائحة كورونا واكتظاظ المشافي بالمرضى، وقدرة استشفاء الحالات المتوسطة والبسيطة من الإصابات في المنازل وعدد من الممرضين والأطباء استغل الفرصة ليجمع ثروة على حساب صحة المرضى. فبعد نهاية أول موجة لجائحة كورونا وبداية الثانية بدأت مشافي الدولة تكتظ بالمرضى ولم تعد تستقبل أي حالة جديدة، فلجأ قسم من المرضى مرغمين إلى المشافي الخاصة وبدأت المشافي الخاصة تفرض أسعاراً "خيالية" على كل ليلة يقضيها المريض في المشفى، إضافة إلى اختلاف السعر بين غرفة عادية أو جناح أو عناية مركزة أو منفسة وما إلى ذلك.
"مديحة" ممرضة في منتصف الأربعينيات من عمرها، تعمل في أحد مشافي الدولة في اللاذقية. وخلال جائحة كورونا كانت مديحة تتابع مرضى كورونا في المنازل، تعطيهم العلاج اللازم وتراقب علاماتهم الحيوية وتخبر الطبيب المسؤول عن المريض بأي مستجدات بحالة المريض. بالنسبة لمديحة إن لم تراقب هي المريض فهنالك كثير غيرها سيراقبه وهي بحاجة إلى النقود، حيث يتقاضى كل ممرض عن متابعة مريض كورونا خلال اليوم الواحد نحو 100 ألف ليرة سورية هذا في حال كان مقيماً في منزل المريض ونحو 50 ألف إن كان غير مقيم. والطبيب يأخد مبلغاً مضاعفاً.
"المبلغ قد يكون كبيراً بالنسبة لي أو للمريض ولكن مقارنة بما سيدفعه المريض في مشفى خاص فالمبلغ يعتبر عادياً، وإن تم قبول المريض في مشفى الدولة ولو قام بدفع مبالغ كرشا للتمريض فلن يلقى اهتماماً كالذي يلقاه في منزله ومن ممرض واحد". تقول مديحة.
لم تكن الكورونا وحدها سبباً وحيداً حول الطب إلى تجارة، فكثير من الاختصاصيين يسحبون المرضى لعياداتهم الخاصة أو لمشافي خاصة لإجراء عملية جراحية، "مرزوق" مقيم في اختصاص الجراحة في أحد مشافي الدولة، يروي أن معظم اختصاصيي الجراحة بعد إجراء عملية جراحية إسعافية يطلبون من المريض مراجعتهم في عياداتهم الخاصة خارج المشفى بحجة تبديل الضماد أو فك القطب وذلك لدفع ما يقارب نصف أجرة العملية فيما لو أجريت في مشفى خاص، وفي حال أتى المريض لعيادات المشفى وحدد له موعد عملية فعليه زيارة الاختصاصي في عيادته الخارجية للاتفاق على أجرة العملية والدفع سلف.
ويتابع "لا أقبل بهذا الفعل وأكدت أنه معيب ومخجل، ففي ظل ظروف قاهرة وصعبة كالتي نعيشها يجب أن يساند بعضنا بعضاً، ولكنني لا أستطيع معاكسة أمر الاختصاصي عندما يطلب من مريضه الذهاب إلى عيادته، فباستطاعته حرماني من دخول العمليات والتعلم".