لم تتذكر خيرة الحلبوني أي شيء عن الزلزال الذي كسر ظهرها وابتلع ابنتيها، لأن كل ما تعرفه هو ما أخبره به زوجها لاحقاً، إذ في عتمة الليل اهتز المبنى، فأمسك الرجل بابنته بيسان، وابنه علي، ثم صاح: خذي مياس، وهي الابنة الصغرى، ثم هرول وهو يصرخ.
وبصورة تلقائية، بحثت المرأة عن حجاب رأسها، وبعد ذلك لم تعد تتذكر ما حصل.
بيد أن أول ما تتذكره خيرة هو أنها استفاقت وسط كومة من الركام، حيث رأيت بصيص نور، ثم حذاء، فصرخت، وأخذت تبحث عن ابنتها، بعد مرور نحو 30 ساعة.
مأساة أسرة الحلبوني
كانت الأحذية تعود للمنقذين والجيران الذين أخذوا يبحثون عن ناجين، وتمكنوا من انتشالها في نهاية المطاف، بيد أن عمودها الفقري كان قد انكسر، وكذلك ذراعها، كما تهشم عظم الخد لديها، غير أنها بقيت على قيد الحياة، فنقلوها إلى المشفى، ذلك المشفى الذي اكتظ بالمصابين وصار يعمل بموجب خطة تصنيف متشائمة للجرحى، ولهذا رجحوا إصابتها بنزف داخلي، ما يعني احتمال عدم نجاتها، ولهذا تركت لتموت.
أما ابنتها فكانت هي أيضاً على قيد الحياة ومدفونة تحت الردم.
خيرة الحلبوني مستلقية فوق سرير داخل مأوى مؤقت في جنديرس
أما زوجها محمد فقد عانى من محنة هو أيضاً، حيث فقد الجزء السفلي من ساقه اليسرى في قصف استهدف ضاحية حرستا القريبة من دمشق في بدايات الحرب بسوريا، ولهذا عندما اهتز المبنى الذي يقيمون فهي هذه المرة، أدرك بأنه من الأسرع والأسلم أن يحاول الوصول إلى سطح شقتهم العلوية بدلاً من أن يسعى بعرجته للوصول إلى الطابق الأرضي، ولكن عندما كانوا يصعدون الدرج، انهار الجدار الأيمن لفسحة الدرجات فوق بيسان فقتلها على الفور، وذلك عندما اخترقت قطعة من قضيب فولاذي جمجمتها.
عند ذلك صرخ علي: "سقطت أختي في الفتحة"، وأخذ يتوسل لأبيه حتى يعودا لينتشل أخته من الحفرة.
دفع محمد علياً إلى أعلى السلم، فانهار المبنى من تحت أرجلهما، وبأعجوبة لم يصب أي منهما إصابة بليغة.
كيف أصبحت سوريا بؤرة اهتمام العالم؟
كانت عائلة الحلبوني من بين الآلاف من الأسر في الجنوب التركي والشمال السوري التي تضررت بسبب الزلازل التي وقعت خلال هذا الشهر، حيث نشرت الهزات المتعاقبة حالة كارثية بحجم يشبه حجم أهوال يوم القيامة، بعدما سوت مدناً بالأرض، وحولت عدداً لا يحصى من البيوت إلى أكوام من حجارة وفولاذ وغبار، كما قتل ما لا يقل عن 48 ألف إنسان، وذلك لأن الزلزال الأول ضرب المنطقة في ساعة حرجة جداً، أي في ساعة مبكرة من الصباح عندما كان الناس نياماً، ولهذا هلكت أسر بكاملها وهي في أسرّتها بعدما انهار المنزل فوقها.
محمد الحلبوني يعرض صورة لابنتيه بيسان، 8 سنوات، ومياس، 6 سنوات قبل أن يقتلهما الزلزال
هنا في الشمال السوري، أتت هذه المصيبة بعد مرور 12 عاما تقريباً على نزاع يعتبر من أعتى وأصعب النزاعات في القرن الحادي والعشرين، إذ بدأت الحرب السورية بانتفاضة مدنية كغيرها من الانتفاضات الكثيرة التي عمت العالم العربي في مطلع العشرية الثانية من الألفية الثالثة، وسط مطالبات بالحرية السياسية، ثم انفلتت الأمور من عقالها، وذلك عندما أخذ نظام بشار الأسد يقمع الناس، فتحولت الحركة الاحتجاحية إلى ثورة مسلحة ونزاع أضحى ساحة حرب بالوكالة لصالح دولتين إقليميتين متنافستين وهما السعودية وإيران.
بعد ذلك تسرب المقاتلون الإسلاميون من دولة العراق المجاورة واستولوا على أجزاء شاسعة من الشمال السوري، ما دفع الولايات المتحدة للغوص أكثر في ذلك المستنقع. بعد ذلك تدخلت روسيا التي هبت لنجدة الأسد، فنفذت غارات بلا هوادة على الشعب. انجرت لتلك الحرب أيضاً أكبر دولة مجاورة لسوريا، ألا وهي تركيا، والتي أصبحت تؤوي اليوم نحو 3.6 ملايين لاجئ سوري. كما انضمت ولكن بنسب متفاوتة دول أخرى مثل إسرائيل وفرنسا وبريطانيا للقتال الدائر، فتحولت بذلك سوريا إلى بؤرة اهتمام العالم بأسره، ولو لفترة من الزمن.
كانت الخسائر البشرية في الحرب مروعة، حيث قتل أكثر من 300 ألف مدني بحسب إحصائيات الأمم المتحدة، كما خلصت تحقيقات عديدة إلى قيام قوات الأسد برمي براميل متفجرة على المدنيين، وتسميم أحياء بكاملها بأسلحة كيماوية، مع تدمير المشافي بصورة متعمدة. وهنالك أيضاً 100 ألف مختف قسرياً، معظمهم وصلوا لأيدي أجهزة مخابرات الأسد التي لا ترحم بحسب ما أوردته الشبكة السورية لحقوق الإنسان. وهنالك أكثر من 13 مليون نسمة، أي أكثر من نصف عدد سكان سوريا، قد تركوا البلد، كما وصلت نسبة السوريين الذين يعيشون في فقر إلى 90%، بيد أن الأسد استطاع بمساعدة روسيا أن يهزم المعارضة المسلحة، ما أدى لتجميد النزاع بشكل خانق.
نازحون سوريون بسبب الحرب نزحوا مجدداً بسبب الزلزال
التسليم بالأمر الواقع
بعدما خمد القتال بنسبة كبيرة، وتوغل عدد من الأطراف فيه، أصبحت الحكومات الغربية تنظر نظرة متشائمة صامتة لسوريا، بعدما أذعنت للوضع الراهن، برأي تشارلز ليستر وهو زميل لدى معهد الشرق الأوسط، ولهذا يقول: "أصبحت سوريا مشكلة صرنا نرغب باحتوائها على أن نبذل قصارى جهدنا في محاولة حلها".
مع ترسخ حكم الأسد بقوة بفضل الدعم الروسي، أصبحت القوى الإقليمية التي عارضت حكمه بضراوة في السابق، ترغب بإصلاح ذات البين معه، بل حتى أشد المتشددين حياله التفوا حوله، وذلك مع وصول أولى الطائرات السعودية المحملة بالمساعدات إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام بعد وقوع الزلزال، على الرغم من أن تلك الفكرة لم تكن واردة بتاتاً قبل بضع سنوات فقط.
تمثل سوريا إحدى أعقد الحالات الدبلوماسية في العالم، بيد أن مهمة فك تشابك تلك العقدة باتت أصعب بكثير بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ولهذا تعتبر تركيا عنصراً أساسياً هنا، كونها عضو في حلف شمال الأطلسي يتمتع بعلاقات قوية مع روسيا إلى جانب إبداء رغبتها المتزايدة بتطبيع العلاقات مع الأسد.
بعد الغزو الروسي لأوكرانيا واشتداد النزاع بين الصين والولايات المتحدة، ابتعدت معظم دول العالم عن المشهد السوري ولم تعد تبدي كبير اهتمام بالحرب السورية هذا إن اهتمت بها أصلاً.
وحول ذلك علق أحد اللاجئين السوريين في تركيا عقب وقوع الزلزال بالقول: "إن العالم لم ينسانا، لكنه لا يعرف بأننا موجودون".
علي، 5 سنوات، ابن محمد وخيرة الحلبوني
كيف رسمت الحرب السورية شكل العالم؟
أتى الزلزال ليغير الأحداث بشكل لافت في خضم الحرب السورية التي رسمت شكل العالم الذي نعيش فيه اليوم، تلك الحرب الذي تسببت بتوسع أكثر جماعة إرهابية مثيرة للذعر في زماننا، ألا وهي جماعة تنظيم الدولة الإسلامية التي تعتنق عقيدة القتل ولهذا قطعت رؤوس الكفار وجعلت القوات الأميركية تتورط في سوريا. كما خططت تلك الجماعة أو كانت مصدر إلهام لهجمات إرهابية وقعت في مصر وفي أرجاء أوروبا، بل إنها وصلت إلى الفلبين حتى، فنشرت الفوضى وخلطت أوراق السياسة المحلية في كل دولة على سطح هذا الكوكب.
أرسل النزاع بموجات من الخائفين الباحثين عن ملجأ إلى أوروبا، ما ساهم بتسريع صعود السياسيين من اليمين المتطرف والمعادين للمهاجرين في مختلف أنحاء القارة الأوروبية، بل والعالم بأسره بكل تأكيد، ولذلك يمكن لأحدهم أن يحاجج بأن دونالد ترامب لم يكن ليصل إلى الرئاسة إلا بفضل الحرب السورية وأجواء الخوف التي خلقتها تلك الحرب.
وبالعودة إلى الذاكرة إلى الوراء، نجد بأن التدخل الروسي في النزاع السوري يشبه اليوم حالة تصعيد خطيرة نحو المواجهة مع الولايات المتحدة والغرب عامة، وهذا التصعيد هو الذي دفع روسيا لغزو أوكرانيا قبل عام من الآن.
إن كنا نعيش في عالم رسمته الحرب السورية، فهو عالم لم يقم بشيء سوى أنه تخلى عن الشعب السوري وخذله، وقد عاشت أسرة محمد الحلبوني هذا الخذلان، إذ هربت في البداية من بيت الأجداد بالقرب من دمشق في عام 2018، على أمل حماية الأولاد من القصف الذي تسبب ببتر ساق محمد، حيث توجهوا في بداية الأمر إلى محافظة إدلب التي أقاموا فيها برفقة أقارب لهم لفترة من الزمان، ثم تنقلوا إلى أن استقر بهم المقام في جنديرس. وهناك، عثر محمد على بناء سكني لم ينته تجهيزه بعد، فبدأ يبني بيتاً جديداً لأسرته فيه، لبنة لبنة، بيديه العاريتين.
استقرت حياة تلك الأسرة وسط سلام نسبي وعثر رب الأسرة على عمل في مهن متفرقة، وبعد أن ادخر ما يكفي من المال لشراء شاحنة، صار يستخدم تلك المركبة لتحصيل المال عبر نقل البضائع، ثم أنهى الشقة الموجودة في الطابق العلوي، خلال فترة الهدوء التي سادت تلك المنطقة السورية بما أنها تخضع لسيطرة الجيش التركي والثوار السوريين.
بيد أن الزلزال أتى بعد كل ذلك.
مآس ومعجزات
أخذ محمد يبحث عن زوجته وابنته بحركات جنونية، وعندما عثر عليهما تحت الركام وهما على قيد الحياة، اضطر للانتظار لمدة تجاوزت 24 ساعة حتى يصل المنقذون ويساعدوا على تحريرهما من بين الأنقاض. تم نقل خيرة ومياس إلى المشفى، وهناك تحدت خيرة تكهنات الطبيب المتشائمة وبقيت على قيد الحياة.
سوريون ينتظرون الحصول على مساعدات
في غمرة الفوضى التي سادت في ذلك المشفى، لم يعد محمد يرى ابنته مياس، فأخذ يتنقل بواسطة عكازيه من عنبر إلى عنبر، بحثاً عنها وهو بأشد حالات الهياج، إلا أن أحداً لم يعرف أين هي.
طلب منه الأطباء أن يبحث عنها في الخارج، وهناك عثر محمد على جثة ابنته الثانية التي انتشلت من بين الأنقاض حية، لكنها أصبحت جثة هامدة الآن.
في أثناء سرد محمد لقصته، جلس على أرضية خيمته القماشية التي نصبت في باحة مدرسة وتحولت لمأوى للعشرات من الأسر، وأخذ يبكي وهو يبحث في هاتفه عن صورة لابنتيه، تظهرهما وهما ترتديان قميصين متماثلين وتبتسمان في أثناء ركوبهما لعبة دراجة نارية وتنظران إلى الكاميرا أمام تمثال لجمل.
يقول محمد: "عندما استفقنا كان أول شيء خطر ببالنا هو أين هما؟ بعد ذلك عرفنا أنهما توفيتا".
مايزال علي يسأل عن شقيقتيه، حيث سأل أباه: هل ستلتحقان بجدتهما؟ بما أنه صبي حصيف ذو وجه حلو يعلوه جرح غائر تمت خياطته بالقرب من المنطقة التي تعلو عينه اليمنى، لكنه بقي مرابطاً بالقرب من والديه.
تشتمل كل خيمة موجودة في باحة المدرسة هذه على مأساة ومعجزة، إذ ذكر رجل بأن زوجته توفيت في الزلزال، لكنه يفتخر لكونه تمكن من إنقاذ رضيع.
الأسوأ قادم
أصبحت الاحتياجات الإنسانية هنا في حالة يرثى لها، إذ يقول جو إنغليش الناطق الرسمي باسم اليونسيف: "كان الوضع مريعاً تماماً قبل الزلازل، وكدنا أن ننساه نظراً لمرور 12 عاما عليه، على الرغم من أن الاحتياجات الإنسانية في سوريا بلغت ذروتها خلال العام المنصرم".
من الغباء البقاء على فكرة تجاهل سوريا عقب الزلزال، نظراً للفوضى والمعاناة التي تسبب بها هذا النزاع، ناهيك عن الوضع الراهن المفعم بالتشاؤم والذي ساد وبلغ مرحلة الانهيار أيضاً قبل كل ذلك. ثم إن تركيا التي تعتبر أهم عنصر فاعل إقليمي، أصبحت تسعى جاهدة حتى تتعافى من الزلزال، كما لم يعد شعبها يطيق وجود ملايين اللاجئين السوريين الذين شردتهم الحرب، ولهذا بلغ عدد السوريين الذين حاولوا الوصول إلى أوروبا ذروته في عام 2022، ومع ظهور زلزال مدمر في تركيا، لابد أن يحاول المزيد من السوريين الفرار عبر البحر المتوسط الغدار.
يحاول الأسد استغلال الوضع، إذ على الأرجح اعتبر المصيبة بمنزلة سلم لتطبيع العلاقات مع دول الجوار ولتعزيز فكرتهم عن تمكنه من سحق للثورة. بيد أن الحرب في سوريا زعزت قبل كل ذلك الاستقرار في العالم وأعادت رسم نظامه بطرق لا تعد ولا تحصى. وفي هذه الأوقات الخطرة التي لم يتوقعها أحد، لابد للمرء أن ينتظر الأسوأ.
تحولت جنديرس اليوم إلى خرائب، على الرغم من أن شعبها المؤلف من أهلها وفئة من النازحين قد وحدته المعاناة في السابق، وهذا ما دفعه للبدء بإعادة الإعمار والبناء، حيث تجد المتاجر وقد فتحت أبوابها من جديد في الشارع الرئيسي لتلك المدينة بين أكوام الأنقاض، ومن بين تلك المحال نجد مقهى يحتوي على آلة لتحضير الإسبريسو لكنها تعرضت لضربة قوية، ومطعم رتب الدجاج المدهون بالزيت فوق مشواة، إلى جانب محل للخرداوات. كما فتحت مكابس الطوب والبلوك أبوابها مرة أخرى، ونظراً لأن بناء القصور عمل شاق، لذا اقتصر العمل على وضع الملاط فوق الطوب لتظهر جدران جديدة في بيوت جديدة، بما أن الشعب السوري قد استجمع جرأته على المضي قدماً.
المصدر: New York Times