بقيت الأزمة السياسيّة والقانونيّة تعصف بإقليم كردستان العراق على أثر الخلافات السياسية التي كانت مشتعلة بين القوى السياسية الكردية الرئيسية حول منصب رئاسة إقليم كردستان العراق على أثر تمسك الرئيس مسعود البرزاني بمنصب رئاسة الإقليم بعد انتهاء ولايته الثانية والأخيرة في 19 آب 2015م، وكذلك حول صلاحيات رئيس الإقليم حيث طرحت بعض القوى البرلمانية أن يكون النظام برلمانياً رئاسياً تقلص صلاحيات رئيس الإقليم لصالح رئيس الوزراء، بيد أن الظرف الذي مرت به المنطقة، وإعلان إقليم كردستان العراق بأنه يخوض حرباً ضدّ داعش قد سهّل للبرزاني التوصل لاتفاقية مع باقي القوى الكردية وخاصة مع الحزب الكردي المنافس (الاتحاد الوطني الكردستاني) الذي أسسه جلال الطالباني، لتمرير قانون سمح بتمديد ولاية رئيس الإقليم مسعود البرزاني لسنتين، وبالفعل جرى تمرير القانون على الرغم من مخالفته للدستور، واعتراض كتلة التغيير (كوران)، وبموجب القانون امتدت ولاية البرزاني حتى سنة 2017م.
مع انتهاء مدة التمديد، لم يكن يبدو أن رئيس الإقليم كان مستعداً لتسليم السلطة، الأمر الذي جعل مخاوف الأحزاب الكردية الأخرى تزداد من احتمالية تكريس حكم قبيلة البرزاني وتفردها بالسلطة، خاصة مع احتكار المناصب الحساسة في الإقليم على عائلة البرزاني ذاتها، فمسعود البرزاني يتولى زعامة الحزب بعد والده مصطفى البرزاني، ويترأس الإقليم، وابن شقيقه نيجرفان بارزاني نائباً لرئيس الحكومة منذ عام 1996 ورئيساً للوزراء منذ عام 2011م وأكبر رجل أعمال في الإقليم، ومسرور البرزاني ابن مسعود البرزاني رئيساً لجهاز المخابرات والأمن العام، ونجل مسعود الآخر منصور البرزاني جنرالاً في قوات البيشمركة، كما تتسلم العائلة مناصب أمنية وسياسية متعددة وتستحوذ على أهم المرافق الاقتصادية في الإقليم.
لقد دفعت كتلة التغيير (كوران) ثمن مواقفها المطالبة بالتغيير، فأقدم نيجرفان برزاني على عزل أربعة من أعضاء حكومته من كتلة التغيير، كما منعت قوى الأمن التي يرأسها مسرور البرزاني، رئيس برلمان الإقليم يوسف محمد – أيضاً من كتلة التغيير – من دخول أربيل، وقد عززت هذه الممارسات مخاوف الأحزاب حول انفراد أسرة البرزاني في السلطة، وتهميشها لباقي القوى. لقد وصف رواز هلكوت أحد الناشطين في حركة التغيير الوضع في إقليم كردستان العراق بالقول: "نظام الحكم داخل الحزب الديمقراطي الكردستاني هو نظام رئاسي قبلي من عائلة واحدة، أي أن البرزانيين يحكمون الحزب الديمقراطي".
إيجاد مخرج للأزمة "برزانياً"
بقي مسعود البرزاني متمسكاً بالسلطة، مع شبه تعطل للعملية السياسية الحقيقية، وقد بات ترويج رئاسة الإقليم لفكرة اجراء استفتاء لاستقلال إقليم كردستان العراق تبدو فكرة معقولة من حيث إنها تلعب على الوتر الذي يلامس أحاسيس ومشاعر الشعب القومية، ويمكنها أن تخلق زخماً شعبياً مؤيداً لرئاسة الإقليم، وتلجم أصوات المعارضة، وتؤجل أي حديث عن رئاسة الإقليم، إلى غاية تحقيق الاستفتاء المنشود برئاسة البرزاني، إلا أن الفشل الذريع الذي منيت به عملية الاستفتاء، وإجراءات بغداد الصارمة، والرفض الإقليمي والعربي والدولي لهذه الخطوة الأحادية من رئاسة إقليم كردستان العراق، قد وضع رئاسة إقليم كردستان في موقف محرج جداً ومحبط أمام الشعب، فضلاً عن أن هذه الخطوة قد أعقبها قيام القوات العراقية باستعادة السيطرة الكاملة على كركوك، وطرد قوات البيشمركة من القوات التي احتلتها خارج إقليم كردستان عبر استغلال شعار الحرب على داعش، ومحاولة إجراء استفتاء في تلك المناطق أيضاً. كل ذلك زاد من التوتر، وباتت المنصات الإعلامية التابعة لإربيل تحمّل جماعة الطالباني في السليمانية مسؤولية خسارة المناطق التي تم احتلالها خارج إقليم كردستان، (المناطق المتنازع عليها) وبشكل خاص كركوك.
نيجرفان ومسرور .. تبادل الأدوار والسلطة
يبدو أن البرزاني وبعد تمسكه الطويل بالسلطة، قد قرر بعد مشاورات داخل البيت البرزاني إعادة ترتيب البيت الداخلي الكردي، فجرى التوافق على أن يقوم الحزب الديمقراطي الكردستاني بترشيح نيجرفان برزاني (صهر الرئيس مسعود البرزاني وابن شقيقه) لمنصب رئاسة الإقليم، على أن يتولى نجله مسرور البرزاني رئاسة الحكومة، وبالفعل تم انتخاب نيجرفان بنسبة 65 صوت من أصل 111 صوت علماً أن الحزب الذي يرأسه مسعود البرزاني يحظى بأغلبية المقاعد (45 مقعداً في البرلمان).
من المتوقع أن يتم تمرير مشروع كانت المعارضة قد طرحته سابقاً من نقل الصلاحيات لرئاسة الحكومة وإبقاء منصب رئيس الجمهورية بصلاحيات قليلة جداً، وهذا يعني ضرب عصفورين بحجر بالنسبة للبرزاني الأب، فمن جهة سيعتبر ذلك بمثابة تلبية لمطالب المعارضة، ومن جهة أخرى ستكون الصلاحيات الفعلية ممنوحة لنجل مسعود البرزاني. لكن في حال بقاء الحال على ماهو عليه وهذا الأقرب برأيي، فسيكون السيناريو الأقرب للتطبيق في الإقليم، هو إعادة تبدل الأدوار، أي أن يعود نيجرفان برزاني بعد انتهاء ولايته الأولى فقط لرئاسة الوزراء، وإعادة انتخاب مسعود البرزاني (احتمال وارد) أو مسرور البرزاني (الاحتمال الأكبر) رئيساً للإقليم، على طريقة تبادل الأدوار في روسيا بين الرئيس ورئيس الوزراء. وبهذا ستضمن عائلة البرزاني تكريس حكم الجيل الثالث بعد مصطفى البرزاني بشكل أكبر في الإقليم، مع احتمال أن تتجه الأمور نحو مزيد من الصراعات على السلطة، سواء بين قوباد الطالباني حليف الإيرانيين في السليمانية وبين أسرة البرزاني الأقرب في حلفها للأتراك، أو بين أبناء العمومة من العائلة البرزانية في حال شعور نيجرفان بأن بساط السلطة يتم سحبه من تحت قدميه لصالح أبناء عمه المنافسين.
رئاسة إقليم كردستان والثورة السورية
تبنت رئاسة إقليم كردستان موقفاً محايداً من الثورة السورية، إلا إن الإقليم يبدو حذراً من القطيعة مع النظام السوري أو توجيه أي نقد له، ويبدو أن الدعوات التي جرى توجيهها من قبل رئاسة إقليم كردستان لحضور حفل تنصيب نيجرفان برزاني إلى أكراد سوريين موالين للنظام السوري، بينهم عمر أوسي عضو مجلس الشعب الذي كان مترجم عبد الله أوجلان في سورية، واستبعاد أكراد آخرين محسوبين على المعارضة، يشير إلى اتجاه الإقليم للحصول على دعم من النظام السوري وباقي الأنظمة الإقليمية ( تركيا، إيران) خاصة في ظل تهميش المعارضة السياسية في السنوات الأخيرة من الأطراف الدولية.
سياسة الإقليم اعتمدت منذ بدء الثورة السورية على عم واضح للأحزاب الكردية الموالية للبرزاني في سورية، ومعظم هذه الأحزاب هي ضمن المجلس الوطني الكردي الذي يعتبر جزءاً من المعارضة السورية، لكن دعم إقليم كردستان لها يأتي في إطار الأهداف والمحددات والأطر الكردية فقط، أي المطالب التي تركز على الحالة الكردية في سورية، مثل مسألة الصراع على السلطة في مناطق شمال شرق سورية مع منافسيهم من حزب العمال الكردستاني، أو مسألة تدريب عناصر كردية سورية على يد قوات البيشمركة الكردية وإبقائها كقوات رديفة جاهزة للتدخل في شمال شرق سورية والمشاركة في السيطرة على المنطقة في حال التوافق مع جماعة العمال الكردستاني (قسد حالياً)، أي أن إقليم كردستان العراق يمارس سلطة أبوية على الأحزاب التابعة له، يقوم بتحريكها وتوجيهها بما يخدم مصالح إقليم كردستان العراق نفسه وهيمنة أسرة البرزاني على الحياة العامة وتقديسها كرموز وقيادات لأكراد سورية والعراق، لذلك يسعى إعلام إقليم كردستان العراب إلى اللعب على الوتر القومي الكردي بتعميم مصطلحات وتسميات كردية جديدة ومختلقة على الحالة الكردية في سورية، كتسمية مناطق شمال سورية الحدودية بكردستان سورية، أو تشجيع الأحزاب الكردية على طرح أهداف وشعارات ومطالب مماثلة لأهداف وشعارات وخطاب حزب البرزاني في إقليم كردستان العراق.
وهذا كله لم ولن يصب في مصحلة أكراد سورية الذين يجب أن يعترفوا بأن وضعهم السياسي والديموغرافي والجغرافي مختلف ومغاير لوضع أكراد العراق تماماً، وبالتالي من مصلحتهم أن يراعوا ظروفهم ويتصرفوا وفقها، ويؤسسوا مرجعيتهم السياسية التي تتناسب مع حالتهم بوصفهم جزءاً من الشعب السوري لهم حقوق وعليهم واجبات أيضاً وبتجاوز الشعارات القومية الطموحة جداَ، ويجب أن نعترف أنه حتى إقليمياً وجيوسياسياً، يصعب أن تكون لأكراد سورية تجربة مماثلة أو قريبة من تجربة أكراد العراق، خاصة وهم يتقاسمون العيش مع غالبية عربية في مناطق تواجدهم المحاذية للحدود التركية في شريط ضيق وممتد طويلاً إلى جانب الحدود، لذلك فإن تبعيتهم المفرطة لإقليم كردستان العراق، أو لمنظومة العمال الكردستاني، قد تسبب قطيعة حادة بينهم وبين باقي أطياف الشعب السوري، بما ينعكس سلباً على التعايش المشترك بل وعلى المستقبل الكردي برمته في سورية، ويجب أن يلاحظ الساسة في الأحزاب القومية الكردية الطموحة في سورية، بأن خطابهم فشل وجلب مزيد من الفشل في الشارع الكردي، بدليل الهجرات الكبيرة لأكراد سورية حتى قبل وجود أي أعمال عسكرية في مناطق تواجدهم المشتركة في سورية، وهذا مؤشر على ضرورة أن تعيد الأحزاب الكردية سياسياتها، وتلتزم بخطاب يحافظ على المصالح الوطنية لجميع السورييين على قاعدة دولة عدالة و مواطنة للجميع، قبل أن يلفظهم من تبقى من كوادرهم، بعد أن لفظهم الشارع الكردي تماماً، وخسروا ثقة باقي الفرقاء السوريين.