التعريب لفظ مشترك متعدد المعاني، يُقصد منه على وجه الإجمال النقلُ إلى اللغة العربية من لغةٍ أخرى، أمّا لغةً، فالتَّعْرِيبُ: تَهْذِيبُ المَنْطِقِ مِنَ اللَّحْنِ كما جاء عند صاحب تاج العروس، أو صبغ الكَلِمَة بصبغة عربيَّة كما ورد في المعجم الوسيط، أمّا اصطلاحاً فللتعريب معانٍ عدّة تختلفُ اتساعاً، ويمكن الإشارة إلى اثنين من هذه المعاني الأكثر رواجاً، أولهما: هو إدخال اللفظ الأعجمي في الفصحى، وصقله على منهاجها، والثاني: وهو المعنى الشائع بجعل الفصحى وحدها لغة الكتابة والخطابة والتعليم والإعلام.
ما يهمنا هنا المقصود بالتعريب (Arabization) في الخطاب الكردي المعاصر، وكيف تستثمر الأيديولوجية الكردية سياسياً في هذا المصطلح.
تكاد أسطورة التعريب أن تكون الأكثر حضوراً في الخطاب السياسي الكردي على الساحة السورية اليوم، وعلى الرغم من ضبابية التعريف لهذا المصطلح والمقصود به في الخطاب الكردي، فمن الواضح أن استعمال هذا المصطلح- لدى أكراد سوريا- له علاقة مباشرة بالمعنى المستعمل في الخطاب الكردي في العراق.
في العراق يشير هذا المصطلح إلى سياسات حزب البعث القومي العربي تجاه الكرد، من حيث تهجيرهم والقيام بإسكان العرب، وتعريب جزء من كركوك التي ينظر إليها كبلدة "كردستانية" في الخطاب الكردي، وما إلى هنالك من مسائل لها علاقة بالهوية والثقافة العامة، ومحاولة تبرير التأثر باللغة والثقافة العربية.
يطرح أكراد سوريا موضوع التعريب في نطاقات مختلفة، لكنها تتفق جميعاً على مسألة لها علاقة بنظرية المؤامرة على الأكراد وهويتهم وتاريخهم وثقافتهم وطموحهم القومي، وبالتالي يتم ذكر التعريب هنا مثالا على ممارسات موجهة ضدهم" تهدف إلى إلغائهم وتذويبهم واضطهادهم"، ولتأكيد ذلك يلجأ القوميون الكرد إلى ضرب أمثلة من مرحلة المد القومي العربي، وبشكل خاص منذ أواسط الخمسينيات، إذ تأتي مسألة تغيير أسماء القرى- ومن بينها قرى كردية- إلى أسماء عربية، ضمن أولويات الأدلة على وجود أيديولوجية عربية غايتها استهداف الكرد بالدرجة الأولى.
مسألة تعريب الأسماء الأعجمية لم تكن وليدة عصر البعث، أو سياسات شوفينية ضدّ الأكراد كما يزعم القوميون الأكراد
وفي هذا السياق يقول عبد الباسط سيدا متحدثاً عن ممارسات حزب البعث الذي يهدف- على حد تعبيره- إلى "إلغاء الوجود الكردي على صعيد الأرض" فيقول: "إن التدابير الشوفينية امتدت لتشمل تعريب أسماء جميع القرى، القصبات والمدن الكردية؛ للتغطية على ما توحي به الأسماء المعنية، من دلائل تؤكد ماضي تلك المناطق، وهويتها، وتقف شاهدة تروي للأجيال قصة التقسيم القسري الذي فُرض على المنطقة، بعد الحرب العالمية الأولى". و الواقع أن مسألة تعريب الأسماء الأعجمية لم تكن وليدة عصر البعث، أو سياسات شوفينية ضدّ الأكراد كما يزعم القوميون الأكراد، إذ إن تعريب الأسماء الأعجمية، أو تبديل بعض الأسماء غير اللائقة للقرى- وإن كانت عربية- إلى أسماء جديدة، هي سياسة كانت متبعة عند جميع الحكومات، قبل عهد الاستقلال وبعده، وقبل وصول حزب البعث للسلطة وبعده، وكانت معظم الأسماء التي جرى تعريبها أسماء تركية، نتيجة غلبتها على كثير من القرى والمحال والمراكز الإدارية في العهد العثماني، وعلى سبيل المثال، صدر قرار إداري في أيلول/ سبتمبر 1930 يحمل الرقم 2412 من رئيس مجلس الوزراء( رئيس الدولة) محمد تاج الدين الحسيني، جاء فيه: بناءً على قرار مجلس إدارة الحسكة تاريخ 29 تموز/ يوليو 1930 ورقم 63 المتضمن تبديل الأسماء الأعجمية المطلقة على بعض قرى ذلك القضاء بأسماء عربية، وباقتراح وزير الداخلية محمد الآلشي، تقرر ما يلي:" تبديل الأسماء التركية المطلقة على بعض القرى التابعة لقضاء الحسجة على الوجه الآتي: قرية(كوتبان) يطلق عليها اسم قرية العرجان، قرية( تل كبز) يطلق عليها قرية تل كمر، قرية (بير كنيس) يطلق عليها اسم قرية بئر كنيس، أما قريتا ملك ودحيلة، فيبقى اسم كل منهما كما هو".
في 31 كانون الثاني/ يناير 1933 صدر كذلك مرسوم رقم 785 من وزارة الداخلية يقضي بتبديل اسم قرية (شيطانلي) التابعة لقضاء كرد طاغ إلى اسم(الرحمانية).
كما أن العديد من القرارات في مدد لاحقة تناولت عشرات القرى والبلدات، بعضها يقطنها أكراد وتحمل تسميات محلية كردية، وبعضها يقطنها عرب وتحمل مسميات محلية عربية أو تركية أو سريانية أيضاً، وقد تمّ اتباع هذه السياسات في جميع أنحاء سوريا، ولم تكن خاصةً لمنطقة الجزيرة التي تعدّ قراها الأحدث في سوريا، والتي نشأ العديد منها من العدم في خطة الإصلاح الزراعي، وبذلك اكتسبت أسماء مسبقة وجديدة حددتها الدولة، مثل القرى الحدودية مع العراق التي اتخذت أسماء عواصم تاريخية، أو أسماء لأمهات القبائل العربية التاريخية.
د. آزاد أحمد الذي نشر دراسة بعنوان (الحزام العربي في الجزيرة السورية- أكبر تغيير ديموغرافي في الشرق الأوسط) يرى أن للتعريب جذوراً تاريخية تعود للعصر الأموي، لكن الأغرب أن يربط ذلك بأسباب سياسية وأيديولوجية، علماً أنه لم يكن هناك أيديولوجيات تؤسس لدول قومية في العالم أجمع آنذاك، وفي سياق الحديث عن الهوية الأصلية لسوريا قبل التعريب، يقول: "إن سوريا عادت لتظهر بهوياتها المحلية، وضعف العنصر العربي فيها كثيراً، وانحصر الثقل السكاني العربي في البدو والمسيحيين العرب، في العهد العثماني، حتى باتت اللغة الكردية هي السائدة في مدينة دمشق أواسط القرن التاسع عشر". ويتابع السيد آزاد سياق حديثه لعملية التعريب هذه دون منهجية علمية أو قرائن ملموسة، ليصل إلى نتيجة مفادها أن موضوع الملكيات الزراعية ومصادرة الأراضي في الإصلاح الزراعي والإحصاء سنة 1962 كلها نماذج للتطبيق العملي لعمليات التعريب، بل وحتى قضية إعدام حسني الزعيم ومحسن البرازي في الانقلاب العسكري مثلت ذروة عملية التعريب في منتصف القرن العشرين.
صلاح بدر الدين (القيادي الكردي اليساري المعروف) رأى أن التعريب كان يهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية، وبدأ في الستينيات بتوجيه مباشر من أواسط البرجوازية القومية الحاكمة. وهنا يربط بدر الدين - كدأب القوميين الأكراد- بين مقترحات الملازم الأول والمسؤول الأمني في الجزيرة (طلب الهلال) فيما يتعلق بالحزام العربي، وبين تغيير أسماء القرى الكردية.
سرديات كردية أخرى فيما يتعلق بالتعريب
على الرغم من أن جميع السرديات الكردية تتناول مسألة التعريب بوصفها سياسة بعثية شوفينية استهدفت القرى الكردية، فإن هذه السردية عانت الضعف في إجراء مراجعة موضوعية لهذا الموضوع، خارج سياق تقليد السرديّة التي تتبناها القوى الكردية في شمال العراق، ويحاول الخطاب الكردي في سوريا أن يضع مسألة تعريب القرى في سوريا، ضمن سياق انتهجه حزب البعث في سوريا والعراق، كسياسة مشتركة استهدفت الأكراد في البلدين.
إن معظم القرى المأهولة بالأكراد التي طرأ عليها تعديل، كانت أسماؤها القديمة عربيةً، أو أن جزءاً منها على الأقل مشتق من الأصل العربي
في هذا السياق، أصدر" التحالف الديمقراطي الكوردي في سوريا" الذي يضم ستة أحزاب قومية كردية كرّاساً بعنوان (حملة تعريب أسماء القرى والمدن الكوردية في كردستان- سوريا) سنة 2009 في دهوك، جاء في مقدمته أن "هذا الكراس يتضمن مئات الأسماء المعربة، مقابل أسمائها الأصلية، لقرى وبلدات كردية في مناطق الجزيرة وكوباني وعفرين". هنا نجد أن التحالف الديمقراطي الكردي من طريق العنوان الرئيس لكراسه، يفترض وجود جزء من كردستان في سوريا (كردستان سوريا)، وبالتالي يتعامل- كما سنلحظ- مع جميع القرى والبلدات الواقعة في المناطق السورية التي يوجد فيها الأكراد إلى جوار باقي المكونات السورية على أنها كرديّة، وهنا تكمن إشكالية كبيرة ذلك أن محاولة طرح "مظلوميّة قومية" في مسألة تعريب القرى، هي بالأساس تنطلق من منظور أيديولوجي يتجاوز الواقع والتاريخ أيضاً، وبذلك نجد أن التحالف الكردي حاول تضليل القارئ، حينما تعمّد إدراج جميع القرى التي جرى تعديل أسمائها في محافظة الحسكة على حين أنه تغاضى عن حقيقة أن معظم تلك القرى التي أوردها هي بالأساس قرى عربية ومأهولة بالعرب، حتى إن أسماءها القديمة عربية، ومنها (السفح، عريمش، باقلّة، عرب شاه، ثماد حمود، عرنان كبير، بسيس، عبلة، قبر الشيخ حسن، البوغا، خربة جمو، خربة عبود، مزرعة الكراكير، أم شعيفة، الأبرش...الخ ) وهذه عينة من أسماء قرى قبل التعريب!! وسكانها عرب قبل وبعد تبديل أسمائها! بل إن معظم القرى المأهولة بالأكراد التي طرأ عليها تعديل، كانت أسماؤها القديمة عربيةً، أو أن جزءاً منها على الأقل مشتق من الأصل العربي، أو مصحّف وفق اللهجة المحلية مثل (تل أيلول، رحيّة شيتية، خراب كورت، خربة حسي.. الخ). كما أن بعض القرى حملت أسماء غير لائقة وجرى تبديلها، ومعظمها عربية (تل كديش، خربة التيس، ذبانة، طوبز.. الخ)، هذا بالطبع لا ينفي أيضاً أن جزءاً من القرى حملت أسماء كرديّة ومأهولة بالأكراد وجرى تعريبها، لكنها تمثل عدداً محدوداً جداً من القرى المذكورة.
وبخلاف كل ما سبق يجب ألّا ننسى أن أكثر من 90 % من قرى الجزيرة لم تكن مأهولة قبل الثلاثينيات، بل نشأت وفق رهان زراعي اتجهت القبائل إلى الاهتمام به في مرحلة الانتداب الفرنسي، مع الأخذ بالحسبان التغيّرات الديموغرافية التي طرأت على المنطقة، نتيجة عوامل الهجرة إلى الجزيرة التي استقطبت المزيد من الدفقات البشرية من غير العرب في مدة ما بين الحربين.