عشرٌ عِجاف
عشر سنوات عِجاف مرّت على ثورة الشعب السوري التي تآمر عليها الجميع، تشويها وقتلاً وتدميراً وتهجيراً، استثمر بجراحاتها القريب قبل الغريب، والجار قبل البعيد، جميعهم تظاهر بذرف الدموع على أشلائنا، والتضامن مع عجزنا، جميعهم هددوا وأزبدوا وأرغوا وتوعدوا بأن مجازر استخدام السلاح الكيماوي ضدّ المدنيين لن تمرّ دون محاسبة، وأن صور آلاف المعتقلين الذين تمت تصفيتهم في سجون الأسد لا بد من أن يدفع النظام ثمنها، لكن النتيجة بالمحصلة كانت بقاء شعبنا في مخيمات القهر والذل، مزيد من الحصار الاقتصادي والتهجير للشعب، مقابل تسهيلات للنظام وميليشياته. أما قرارات الأمم المتحدة التي تقضي بإطلاق سراح المعتقلين والأسرى، والانتقال السياسي للسلطة، فبقيت حبيسة الأدراج مع انعدام كامل لأي إرادة دولية لتنفيذ تلك القرارات جزئياً أو كلياً.
عشر سنوات عِجاف كذلك مرّت على اغتيال السوريّ أولاً والكرديّ ثانياً مشعل تمو (أبو فارس)، الذي انتشرت صرخاته وكلماته وعباراته الوطنية كالنار في الهشيم منذ بداية الثورة السورية، فمشعل الذي كان أحد كوادر حزب الشعب الكردي لعقدين، قبل أن يؤسس تياره المستقبل سنة 2005، أدرك بحنكته السياسية وذكائه، منذ بداية الثورة، بأنّ الأولويات الوطنيّة هي توحيد الخطاب الوطني لجميع السوريين، والابتعاد عن طرح أي شعارات أو خطابات قد يستغلها النظام لتفتيت الشعب، ونشر الفتنة بينهم، باللعب على وتر التنوع الإثني واللغوي والديني والطائفي، وأدرك أنه من دون إسقاط النظام وتحقيق الانتقال الديمقراطي لا يمكن الحديث عن أي قضايا ومسائل فرعية لها علاقة بشكل الدولة أو مسائل خاصة بالأقليات الدينية أو القومية وغير ذلك.
ابصقوا في وجه جلاديكم
رحل مشعل مبكراً بعد أن حدّد بوضوح خريطة الطريق أمام أبناء شعبه وخاصة الأكراد، ودعوني هنا أنقل لكم نموذجاً عن مشاركته بالحراك الشعبي، عندما وقف على المنصة أمام جموع آلاف المتظاهرين من أبناء القامشلي، وهم يحملون أعلام ورايات وشعارات الثورة السورية فقط، ويهتفون متفاعلين مع خطابه، حينما كان يصرخ في مكبرات الصوت قائلاً وسأقتبس:
"رسالتنا إلى طاغية الشام نطلقها من مدينة القامشلي مدينة التآخي بين العرب والكرد والآشور، بأن دماء شباب سوريا لن تذهب هدراً، لن ندعك يا بشّار الأسد تسلم بما فعلت، وستحاسب والمستقبل لنا، لا نريد فقط إسقاط الرئيس بل محاكمته، ومحاكمة جميع القتلة الذين أجرموا بحق شباب وأبناء سوريا، ونقولُ لكل المعتقلين ولكل شبابنا المعتقلين ابصقوا في وجه جلاديكم فالمستقبل لنا، لن يثنينا جلاد، ولن يثنينا قاتل عن مطلبنا في سوريا مدنية وسوريا تعددية، وسوريا لكل السوريين، فلنحيي معاً كل المدن السورية المحاصرة من درعا إلى حلب إلى هنا إلى اللاذقية إلى حمص وحماة، فلنحيي كل الشباب السوريين ونقول لهم: تحيا سوريا ويسقط بشار الأسد".
هكذا كان خطاب الشهيد مشعل، خطاباً جامعاً وطنياً دفع حياته ثمناً من أجله، خطاب يؤكد على وحدة الشعب السوري ووحدة مصيرهم ومطالبهم، خطاب يمجّد فيه تضحيات الشعب السوري ضدّ الاستبداد، خطاب يبتعد عن الشعارات القومية الأحادية والمزاودة باسم الأكراد والمطالبات الخاصة بالأكراد، لم نسمع الشهيد مشعل يقف في المظاهرات ويقول: نريد إنشاء وطن قومي للأكراد في سوريا ونريد كردستان سوريا وروجافا، ولم نسمعه يقول: إن في سوريا شعبين هم (الشعب الكردي والشعب السوري) وإن للأكراد الحق في تقرير مصيرهم بمعزل عن باقي أبناء شعبهم السوري.
اغتيال التمو وانحراف تياره
أدرك النظام خطورة الأشخاص الذين يدعون لخطاب جامع مثل مشعل تمو، الذي نجح في استقطاب شباب التنسيقيات الثورية الكردية، تحت علم واحد هو علم الثورة، وشعارات وأهداف الثورة، لتنعكس الصورة في شوارع القامشلي بمظاهرات ضدّ النظام تجمع شباب من مختلف أطياف المجتمع، وهذا ما دفع النظام بالإسراع باتخاذ قرار بتصفية مشعل تمو، تاركاً التنفيذ على أيدي أدواته وعملائه من الأكراد، ولم تمضِ أشهر على اغتيال التمو، ودخول الأحزاب القومية الكردية على خط المظاهرات في الشارع، حتى تبدّلت الخريطة الثورية بشكل كامل، وانحرف مسار التظاهرات في الشارع الكردي 180 درجة، تماماً مثلما يريد النظام، فبدأت المظاهرات تأخذ طابعاً قومياً، وترفع أعلام وشعارات قومية خاصة بالأكراد، التطورات في باقي المناطق في سوريا كذلك كانت تتجه نحو الأسوأ، خاصة مع تطور العمل المسلح، ليتحول إلى ظاهرة "تفريخ الفصائل"، حيث أصبحنا أمام عدد لا نهائي من الفصائل والكتائب والسرايا والمسميات والقوى المشتتة والمتناحرة متعددة الولاءات، ومع طول أمد النظام في السلطة، وتعدد القوى والميليشيات والعصابات، كانت الانقسامات في المجتمع السوري تزداد شاقولياً وأفقياً، مع تبادل المخاوف والشكوك والاتهامات المتبادلة التي أخذت أكثر من صبغة (قومية، دينية، طائفية، مناطقية..إلخ) ، بل بات الانقسام داخل كل مجموعة إثنية ودينية وكل منطقة وعشيرة وعائلة، وانفجرت ظواهر تشكيل المجموعات والقوى والأحزاب والتجمعات والهيئات واللجان والمنظمات السياسية والمدنية والعسكرية بشكل دراماتيكي، والأسد يزداد قوة، وسيطرة على الأرض، وقبولاً على الصعيد الدولي.
يبدو أنّ الموت المبكر لمشعل تمو وهو ثابت على شعارات الثورة، هو من جعل ذكراه باقية وحاضرة ومتقدة بين السوريين، أما الذين جاؤوا من بعده، فمؤسف جداً أنهم يزعمون أنهم أوفياء لذكراه، وباقون على عهده، ورفاق دربه، لكن الواقع أنّ جلهم يستثمرون فقط في أرشيف صوره ليثبوا أنهم الأقرب له، بل هم يستثمرون في دمائه وفي ذكرى رحيله لكنهم يشوهون مسيرته ويتنكرون للخطاب والمبادئ التي تشبث بها ورددها في الساحات والمظاهرات وتسببت بمقتله!
هل يعقل يا سادة أن يتم إحياء ذكرى مشعل تمو من قبل هؤلاء دون أن يرفع أحدهم علماً واحداً للثورة السورية التي استشهد من أجلها مشعل تمو، هل يعقل أن لا تجد شعاراً واحداً رفعه مشعل تمو، هل يعقل أن يتم إحياء ذكرى اغتياله بمحاولة وضعه في قوالب وشعارات الأحزاب القومية الكردية التقليدية وأهدافها العاطفية الضيقة، وتصويره على أنه شهيد "قضية كردستانية" ومطالب مستحدثة لها في سوريا، متجاهلين المكانة التي وصل إليها مشعل تمو كشهيد وأيقونة للثورة السوريّة. هل يعقل أن ينقسم تيار المستقبل وينشق إلى ثلاث مجموعات، كل واحدة تلعن أختها وتتهمها بالخيانة، وتزعم أنها الأكثر وفاءً لمسيرة مشغل تمو، دون أن يدل نهجهم ولا توجهاتهم بعد مشعل تمو على ذلك، بل جميعها خانت مسيرة مشعل تمو وخالفت نهجه، وباتت ترفع شعارات ومطالب قومية ذات مدلولات انفصالية، فمن يقول أنه يقتدي بمشعل تمو، لا يمكن له أن يطرح بعد خمس سنوات على اغتياله مشروع يسميه "دستور كردستان سوريا"، ومن يزعم محبة التمو لا يجدر به أن يحاول تقزيمه أمام الشعب السوري وأمام التاريخ، وأنا على يقين لو أن مشعل تمو قام من قبره اليوم لبصق في وجه معظم المتاجرين باسمه اليوم وعاد إلى قبره.