شكلت الحواضر الإسلامية والعربية منذ القديم، مناخاً ينعم فيه اليهود بالأمن والرخاء مقارنة مع ما كانوا يعانونه في أوروبا، الرحالة اليهودي بنيامين التطيلي ذكر في رحلته في زمن الخليفة العباسي المستنجد (1160- 1170م) وجود اليهود وتعدادهم في الجزيرة في كل من قلعة جعبر، والرقة، وحرّان، ورأس العين، ونصيبين، وجزيرة ابن عمر، والرحبة (الميادين)، وقرقيسياء (البصيرة)، والموصل، ذلك الوجود الذي تراجع مع الغزو المغولي وتدمير مدن الجزيرة، لينتقل اليهود إلى عواصم ومدن إسلامية أخرى.
ظهور نواة بلدة القامشلية (القامشلي)
سرّع توقيع اتفاقية أنقرة الثانية بين تركيا وفرنسا سنة 1926، قرار فرنسا إرسال قواتها لحفظ الأمن وتثبيت الحدود، فانطلقت في 5 من آب 1926 قوة متواضعة عبارة عن سرب من الفرسان بقيادة الجنرال بيلوت، يرافقه ضابط المخابرات تيريه صاحب السياسة الأثنية في الجزيرة، فاحتلت ظهر الخزنة وأنشأت أول ثكنة عسكرية لها فوق التلة المشرفة على البلدة الوليدة من الشمال، وشكلت بذلك النواة التي ستبنى حولها مدينة القامشلي، ولم يكن قبل ذلك في أرض القامشلي حينذاك سوى طاحونة مائية ومزرعة يمتلكهما السيد قدور بك، أحد وجهاء نصيبين.
سميّت البلدة بادئ الأمر بـ(نصيبين الجديدة)، غير أن الرسائل البريدية للتجار كانت تذهب سهواً إلى نصيبين الأصلية، فتقرر تسميتها بالقامشليّة نسبة إلى مزرعة من جهة نهر جغجغ الغربية الشمالية كانت تدعى "القامشليّة".
اللبنات الأولى في عمران القامشلي
أُنشئت القامشلي عملياً ضمن المنطقة التقليدية لقبيلة طيء، وعلى أراض امتلك قسم كبير منها على الضفة اليمنى لنهر الجغجغ آل نظام الدين القيّمون على وقف زين العابدين جنوب نصيبين، وقسم من أراضي قدور بك الذي كان يملك أراضي واسعة أيضاً على الضفة اليسرى لنهر جغجغ، واللذان تنازلا عن قسم من الأراضي التي يملكانها جنوب نصيبين لإقامة المنشآت العامة عليها، أما المالك الكبير الثالث فهو الشيخ محمد العبد الرحمن -شيخ طيء- الذي رفض طلب الملازم تيرييه بالتنازل عن قسم من أراضيه مجاناً، فكان مصيره لاحقاً خلعه من رئاسة قبيلته وإرغامه على اللجوء إلى القسم التركي من الحدود عبر استغلال الانقسامات الداخلية في قبيلته.
في 24 من أيلول 1926 بدأ تخطيط مساحات مستطيلة على الضفة اليُمنى لنهر جغجغ وتوزيعها على الفور لعدد قليل من المستوطنين الجدد المتعاونين والمرافقين للجيش الفرنسي، وبدأت القامشلي بالظهور وفقاً لتخطيط شوارعها المستقيمة التي تشبه رقعة الشطرنج، وبدأت عمليات تشجيع العناصر اللاجئة من تركيا من مختلف الإثنيات والأديان على الاستيطان، وجرت محاولة توفير الأمن، ومكافحة الملاريا التي كانت تمثل وباء المنطقة آنذاك عبر إزالة المستنقعات المحيطة وتنظيف ضفاف النهر وزراعتها. وتمكنت القامشلية في عام واحد من اجتذاب نصف سكان مدينة نصيبين وهكذا أصبحت القامشلي بسرعة كبيرة مركزاً زراعياً وتجارياً مهماً، مقابل تراجع أهمية نصيبين الاقتصادية التي باتت قرية متواضعة مؤلفة من ألف نسمة فقط، بعد أن كانت سنة 1914 مركز قضاء مهم يسكنها ما يقارب 9000 نسمة.
بنيت الحوانيت الأولى على عجل واستخدمت الصفائح المعدنية كسقف بديل، لكن الأمطار الغزيرة ذلك العام تسببت بهدمها، ليعاد بناؤها مجدداً مع منازل التجار الأوائل باستخدام اللبن والمواد الأولية التي جرى نقلها من القرى القريبة لعشيرة الغنامة إحدى أقدم العشائر التي عرفت الاستقرار، كما باع الشيخ حسين المكطف الطائي جزءا من أراضيه شرق جغجغ للقادمين الجدد، لتتشكل عليها نواة الحي المعروف اليوم بالبشيرية.
كان السيد داؤود حداد من أوائل من سكنوا غرب نهر جغجغ، وجاء بعده كامل الخطيب ثم آل كوزي وكنجو، كما كان من أوائل السكان السيد حسن ابن السيد محمود (المنسوب إلى سلالة عبد القادر الكيلاني) والذي ينحدر من هجرة من ماردين، فقد نصب بادئ الأمر خيمة له في المنطقة التي ستغدو مركز المدينة (السوق)، وسكن مع عائلته، ومع تطور البلدة قام السيد حسن بإنشاء أول فندق بمكان خيمته، وسماه فندق النصر، ثم تحول الفندق إلى مطعم معروف حتى اليوم بمطعم الخيمة.
الهجرات الأولى
تسارع نمو القامشلي السكاني، ففي عام 1927 تركت عوائل يهودية نصيبين، وبدأ اليهود بتأسيس تجارة لهم في القامشلية، وبات النزوح يزداد بوتيرة متسارعة، وفي عام 1928 تخلّت 100 عائلة يهودية أخرى عن نصيبين واتجهت إلى القامشلية، حيث جلبوا معهم مدارسهم الدينية، وشهدت سنة 1929 أكبر عملية نزوح من نصيبين والعديد من المناطق التركية الأخرى، وترك آخر اليهود منازلهم في نصيبين باتجاه القامشلية، وكذلك نزحت 50 عائلة يعقوبية (سريان) وبين عامي 1929-1930 نزحت ثلاثمئة أسرة أرمنية من ديار بكر، وشكلوا طبقة الحرفيين الأوائل في المدينة، في حين إن اليعقوبيين من ميديات كانوا أوائل المزارعين.
الهجرة اليهودية
إنَّ أول يهودي هاجر إلى القامشلي كان الحاخام (موشيه ناحوم عبد الله) الملقب بـ" خادم الرب"، واستطاع شراء بعض الأراضي فيها، ليلحق به اليهود الآخرون، ويبنون المحال التجارية على الضفة الغربية لنهر جغجغ في المنطقة التي تتوسط السوق، وباتت تُعرف بالحي اليهودي، وكان الشارع يُعرف أيضاً آنذاك بالشارع اليهودي الكبير، ولا يزال حتى الآن يُعرف بسوق اليهود، وكانت معظم المحال لبيع الأقمشة، وكان السوق مزدحماً بعشائر المنطقة طوال العام، وجميع السكان في البلدة بما فيهم اليهود كانوا يرتدون الأزياء البدوية ويعرفون أنفسهم كيهود عرب. موشيه عبد الله تبرع بجزء كبير من المبلغ الذي تم تخصيصه لبناء أول مدرسة وأول معبد يهودي، بطول 30 متراً وعرض 8 أمتار لا يزال أثره قائماً اليوم على مساحة 1200 متر مربع، ويضم المعبد بئراً، وغطت جدرانه الداخلية بسجادات مصنوعة من وبر الجمل.
صور من الحياة الاجتماعية في القامشلي
وجد اليهود بلا شك فضاء للتعايش بعيداً عن العصبيات في القامشلية، وفي تقرير لممثل منظمة يهودية جاء من فرنسا لزيارة البلدة سنة 1934 في إطار النشاط الصهيوني، وصف التقرير علاقات اليهود مع عشائر المنطقة العربية بأنها ممتازة، فضلاً عن قدرتهم على التنقل بحرية وممارسة تجارتهم مع البدو في كل المناطق، ووصف بأن منازل التجّار اليهود الطينية كانت تمتلئ مساءً بالبدو الذين يقضون ليلتهم عندهم، لكن بالوقت نفسه أظهر التقرير شكوى اليهود من تعصب مسيحين من أولئك القادمين من تركيا.
تطورت القامشلي وكانت أنوار البلدة تضيء سماء المنطقة، وكان يمكن رؤيتها على بعد عشرات الكيلومترات، وباتت هناك محال للخضراوات وأيضاً للألبسة والحاجيات الأخرى، مجموعات من العرب والأكراد القبليين من السكان المحليين يتوافدون من الأرياف والبوادي مع ساعات الفجر الأولى إلى البلدة الناشئة، مع إشراقة الشمس تكتظ الأسواق وتبدأ عمليات البيع والشراء، يبيع سكان الأرياف إلى التجّار اليهود والأرمن ما جلبوه معهم من منتجات (صوف، مواشي، منتجات ألبان)، ويبتاعون بالمقابل ما يحتاجونه من سلع، في الشوارع الترابية للبلدة الناشئة، فترى الخيول مربوطة بحجر أو وتد منصوب أمام دكّان، الطرق مليئة بالجمال والدواب، وأيضاً افتتحت ثلاثة مقاهي أبوابها في المدينة الوليدة، حيث كان الرجال يتكدسون فيها متكئين على بنادقهم. حركة الأطفال وصرخاتهم ولعبهم بعثت الحياة في المدينة، لا أسوار للمنازل يمكنها حجب رؤية القدور أثناء طهي الطعام في الهواء الطلق، وقبيل غياب الشمس يتم وضع فرش أمام المنازل يأخذ القادمون من الريف قسطاً من الراحة، يتبادل الجميع الأحاديث على ضوء الفانوس قبل الخلود للنوم.
رحيل اليهود
يُعَد حانوت عزرا من أقدم معالم مدينة القامشلي، وعزرا هذا هاجر من نصيبين، وكان أول من افتتح محلاً في البلدة الناشئة؛ لذلك سمّي السوق باسمه، سوق عزرا أو( سوق اليهود)، باع عزرا الأخشاب والحبال والسمن قبل أن ينتقل إلى بيع التوابل، وكل ما له علاقة بالطب البديل حتى المواد التي يحتاج إليها أولئك الذين يتعاطون السحر، وقد بقي عزرا يعمل في حانوته حتى وفاته، ثم تسلم الحانوت بعده ابنه ناحوم، ثم بعد ذلك حفيده ألبير ابن ناحوم الذي هاجر أخيراً للولايات المتحدة الأميركية، وقيل إنه هاجر من هناك إلى تل أبيب في نهاية الثمانينيات، ومصادر أخرى ذكرت أنه مقيم في المكسيك ولم يهاجر لأي مكان آخر.
تظهر الإحصاءات التي جرت عام 1943 أن عدد اليهود بلغ في القامشلي (1319) نسمة، وفي الحسكة لا يتجاوز (43) نسمة، و(76) نسمة فقط في قضاء دجلة، وكان لهم تجمع كبير في قرية العويجة قرب القامشلي، يشتغل أهلها بالزراعة هناك وتربية المواشي، لكنها باتت لاحقاً محطة عبور ليهود تركيا والموصل وإيران باتجاه الأراضي المحتلة.
هاجر معظم اليهود من القامشلي وريفها للاستيطان في فلسطين المحتلة أو في دول أخرى، في عام 1970 وصلت أعدادهم إلى (414) نسمة فقط في عموم الجزيرة، و(4574) في عموم سوريا. ولم يبقَ اليوم منهم سوى شخص واحد قائم على أملاكهم في القامشلي، وكثير من محالهم وأملاكهم تم تأجيرها بمعرفة أصحاب النفوذ في الدولة عبر مركز إدارة أملاك اليهود بأثمان بخسة تودع في حساب خاص بالبنك التجاري.