icon
التغطية الحية

نظرية الخطوط المُتقاطعة | قصة

2024.06.18 | 19:13 دمشق

8989080
*موسى رحّوم عباس
+A
حجم الخط
-A

عندما عاد من الابتعاث الحكومي لجامعة صديقة في بودابست، اشتعلتِ القريةُ بالرَّصاص، أسلحة رشَّاشة، ومسدَّسات مرخَّصة، وزِّعت في أكثر من مناسبة؛ لحماية القيادة ومصالح البلاد العليا والطبقة العاملة من المخرِّبين، وذكر لي أسعد المعروف بـ "المهبول" أنَّ الزَّرازير والقَطَا كانتْ تتساقطُ مُضرَّجةً بدمائها وسط حلقة الدَّبكة التي أقيمت في فناء البلديَّة، وأردف أسعد المهبول أنَّها كرامةٌ تنزَّلت على القرية والدكتور محسن الهوَّاري العائد من هنغاريا؛ إذ تصادف مرور أسرابها مهاجرة إلى الشَّمال مع انطلاق رشقات الرُّوسيات ومسدَّسات "البراوننغ" المُهرَّبة؛ ليمتزج دمها بتراب السَّاحة التي نُظِّفتْ، ورشَّت بالماء؛ كيلا تفسد لون سيَّارة رئيس البلديَّة.

 لاحقا تم استقبال الدكتور محسن؛ ليشرح لمستقبليه الأفكار الجديدة التي خبرها، وعرف خباياها في جامعته واختصاصه في " التفكير الإبداعي" وركَّز في شرحه على عبارات محدَّدة، كان قد استعملها في رسالة الدكتوراه، من مثل: "التَّفكير خارج الصُّندوق" "التَّفكير وحلّ المشكلات" "العَصْف الذِّهني" ولكنَّ الجماعة كانوا يهزُّون رؤوسهم، وتتوالى أصوات الصَّفير، وتدور فناجين القهوة والسَّجائر الطَّويلة، وبخاصَّة عند شرحه ل " نظرية الخطوط المتقاطعة" التي طلبوا منه إعادتها عدَّة مرَّات، وكان في كلِّ مرة يُغيِّر فيها، ويضيف مفرداتٍ غريبةً إلى الغرائب السَّابقة، قال : إنَّ الحياة لا تسير في خطوط متوازية، كما تظنُّون أيها الرِّفاق- مشدِّدًا على حروف الكلمة الأخيرة، وهو ينظر إلى عيونهم مباشرة-  بل تنتظم في خطوط متقاطعة، وعند كلِّ تقاطعِ زاويةٍ قائمةٍ يلتقي فيها خطَّان أفقيٌّ وعموديٌّ، وضرب أمثلة محاولا تبسيط الأمر، المثال الأول عن "التَّسوُّل" فقال : خُذْ مثلا من يدير التَّسوُّل في مدينةٍ مثل مدينتنا، مدينة "الخُزامى" وهي مدينة تبلغ الملايين من السُّكان، يأتي بأطفال يلبسهم ملابس ممزَّقة، يصطنع لهم عاهاتٍ تستدرُّ العطف، هذا نمطيٌّ، مُبتذلٌ، أمَّا في التَّفكير وفقا لنظريتي، ومسح بيده على صدره،  نأتي بشباب وصبايا مكتملي الأجسام، لا تنقصهم الوسامة والجمال، يرتدون أجمل الملابس، ويتحدثون اللُّغات الأجنبيَّة، ولكنَّهم لظروف قاهرة يطلبون مبالغ كبيرة، لا يقفون في الشَّوارع، وعند الإشارات الضوئية، بل يَغْشَوْنَ فنادق النُّجوم الخمسة، ومراكز القرار الكبرى، إنَّهم من عِلية القوم لكن الحياة لا يُؤمْنُ جانبها، إنَّهم أعزَّةُ قومٍ أذلَّهم الظرف الحرج، صرخ الرُّجل الضَّخم الأصلع الذي يتوسَّط الجلسة، نعم، نعم هذا هو الحلُّ.

أردف الدكتور محسن، ويمكن أن نأخذ مثالا آخر لتطبيق نظرية "الخطوط المتقاطعة" عاملات الجنس...، فقاطعه ذلك الشَّاب ذو الشَّعر الطَّويل المربوط كذيل الحصان، عاملات! شو! تعني الدَّعارة! رد عليه بغضب: هذه تصنيفات بائسة، وتابع سرده، يمكن أن نطوِّر هذا القطاع بتوفير تدريبٍ لهؤلاء العاملات للعناية برجال الأعمال، والوزراء، وأعضاء القيادة العليا، وهم الشَّريحة التي تدفع دون حساب!

***

أراد التوقف عند مثالين، لكن الرجل الضَّخم الأصلع أصرَّ على الاستماع لأمثلة أخرى لتطبيقات نظرية " الخطوط المتقاطعة"؛ فاعتدل الدُّكتور في جلسته، وارتشف قهوته التي بردت، قال بصوت هادئ، هل تعرف كم هي ميزانية الدِّفاع، جحظت عينا الرُّجل الضَّخم، وحرك يديه في الهواء؛ قال كتير، كتير، والله! هز الدُّكتور محسن رأسه موافقًا، وعلَّق بثقة كبيرة، واستفاض في الشَّرح كعادته، هذا كلُّه وفق نظرية " الخطوط المتقاطعة" لا جدوى منه، إهدار للموارد، وذهابها في خطوط متوازية، همس الشَّابُّ ذو ذيلِ الحصان:

-       " يرحم بيك، شو هوي الحلّ؟"

-       قرِّب نفَّاضة السَّجائر، لو سمحتْ، وسأشرح لكم الحلَّ.

-       إي، تفضَّل، الله يعلِّي مقامك، يا دكتور!

-       أيُّها السَّادة، وكأنَّه يخطب بهم، الحرب الحديثة لا تقوم على كُتل الحديد الكبيرة والدَّبَّابات والمدافع، بل على الخطَّة المتقاطعة الدَّقيقة، مثلا نحن نحتاج للقنَّاص أكثر من الخبير العسكريِّ، والطَّيَّار الحربيِّ، وحتى قائد الأسطول!

الفكرة الأخيرة أعجبت القيادة، فأرسلت في طلبه فورا، وطلبوا إليه أن يقوم بتنفيذها بنفسه نوعًا من التَّدريب لأجيال من القنَّاصين.

كتب في مذكراته لاحقا: اعتليتُ سطح العمارة التي تقابل دوَّار السَّاعة القديمة في مدينة "قلعة الصَّخر" تلك المدينة التي اخترتها لأسباب عاطفيَّة خاصَّة، أحدثتُ ثقوبا متعدِّدة في الجدار المقابل للطُّرق المؤدية للسَّاعة من ثلاث جهات، وطلبتُ من رفاق الحاجز جَلْبَ أصُصِ الزُّهور الموزَّعة على درج العمارة، ووضعتها وفق نظرية "الخطوط المتقاطعة" حولي، ياه ما أجمل هذه الزهور بألوانها البيضاء والحمراء والليلكي!

***

 تأكدت من وجود القهوة والماء النظيف، فالنظرية تلحُّ على تكوين بيئة العمل وعناصرها الجاذبة، طلقةٌ واحدةٌ عبر كلِّ طلَّاقة، على أن يكون الرَّمي غير نمطيٍّ، من حيثُ التَّوقيت والجهة، كانتِ الطَّلقة الأولى لطفلٍ يقبض أبوه على يده بقوَّة؛ ليعبرَ به الدَّوَّار، تركتُ الأبَ يمرُّ إلى وجهته؛ لصنع المزيد من الألم، الطَّلقة الثَّانية عبر الممرِّ المقابل للمخبز؛ فكانت بين عيني الفرَّان وسط دهشة الزَّبائن، أما الثَّالثة لم أطلقها، فقد ركَّزتُ " النَّاظور" المُقرِّب على ساعد تلك الفتاة ذات الأرداف الممتلئة، والشَّعر الطويل، كان الوشمُ واضحًا، أعرفه، لونه الأزرق المشوب بالحمرة، تفاصيله المعَّقدة، الثُّعبان الذي يشرئبُّ عاليا ، وينفث سُمَّه في الهواء، رأيته في بُودابٍستْ، وأعرف وشما آخر في جسدها في مكان ما من ذلك الجسد، ربما لديَّ مثله، نعم، تذكَّرتُ كنَّا نلتقي قريبا من مبنى البرلمان الهنغاري، على ضفة نهر الدَّانوب، بالضبط مقابل الجسر الحديديِّ المُعلَّق، ونبع المياه المعدنيَّة السَّاخنة، توقفتِ الرَّصاصة عند نقطة التَّقاطع بين الأفقيِّ والعموديِّ، توقفتْ في منتصف المسافة بين "بُودابِستْ" وقلعة الصَّخر، أو منتصف المسافة بين ضَفَّة "بُودا" وضَفَّة "بِستْ" التي تقابلها تماماً!

 الآن عرفتُ إنَّ الأجيال التي دربتُها، ستستمرُّ في اعتلاء الأبنية، وزراعة الزُّهور حول طلَّاقة القنص؛ لتغطيَ رائحتها على رائحة البارود والدِّماء في الدَّوَّار، عندها نزلتُ بهدوء من سلَّم العمارة، دلفت إلى الشارع العريض، اتجهت إلى اليمين بخطى واثقة، على الرَّغم من المطر الخفيف، وبداية شتاءٍ يبدو أنه سيكون قارسًا، ضبطتُ ساعتي الذَّهبيَّة على توقيتِ " قلعة الصَّخر" ولبستُ البزَّة الرَّسمية السَّوداء وربطة العنق الأنيقة الحمراء، تلك التي ارتديتُها في حفل التَّخرُّجِ في بودابست، وصرتُ أرشُّ الكثير من العطر الفرنسيِّ الذي دأبتْ صديقتي الزَّهراء زميلتي أيام هنغاريا، طالبة الفنون الكلاسيكية، وخبيرة فنِّ " التَّاتو" على إهدائه إليَّ، كلَّما حضرتْ من بيروت؛ أرشُّه على شكل دوائر حول عنقي ويديّ؛ فربَّما يمكنه التغطية على روائحَ أشعرُ أنَّها لما تزل تفوح من مكان مُنْتِنٍ ما، بل ربَّما أمكنة!".


* كاتب وأديب سوري مقيم في السويد
كلمات مفتاحية