الجامع الأموي بدمشق أحد المعالم العمرانية المشهورة في العالم، بالإضافة إلى ما يمثله للمسلمين عامة من أهمية دينية لأنه من أقدم المساجد، وللسوريين والدمشقيين خاصة فهو رمز للقوة والعزة يوم كانت دمشق عاصمة وحاضرة الدولة الإسلامية.
حظي الجامع خلال تاريخه الطويل باهتمام الحكام الذين تعاقبوا على دمشق. بعضهم اهتم به إرضاء لله تعالى وبعضهم الآخر للدعاية والظهور أمام العامة كحكام تقاة يهتمون بالدين كحافظ الأسد وابنه. لذلك أمر الأسد الأب في الثمانينات، خلال صراعه مع الإخوان المسلمين، بإجراء ترميمات في الجامع ونُشرت صوره وهو يتفقده ونُصبت لوحة تذكارية تشير إلى أن الترميم تمَّ بتوجيه من "سيادة القائد المؤمن الرئيس حافظ الأسد". أما عمليات الترميم الأوسع فقد أمر بها عام 1994 وشملت أجزاء واسعة من الجامع، وخَلّدَ عمله بلوحة رخامية ضخمة وضعت كجزء من جدار المدخل الرئيسي المقابل لسوق الحميدية من دون اعتبار لتغيير المواصفات الأثرية للجدار.
انصب الاهتمام دوماً على الجامع كبناء بينما ظلت مقتنياته غير معروفة. فالمسجد الموغل في القدم كان يتلقى الأوقاف المتنوعة بالإضافة إلى الهدايا الثمينة من علية القوم داخل وخارج الشام ومنهم الملوك والأمراء. لن يتناول هذا المقال الأوقاف من أراض ومنازل ودكاكين وحمامات وغيرها، وهي تُعد بالمئات أو الآلاف؛ بل سيتناول الأوقاف الأخرى التي وقفها أصحابها للمسجد عبر مئات السنين؛ من ثريات، وساعات، وسجاد، وشمعدانات، ومصاحف مخطوطة، ومخطوطات في شتى أنواع العلوم، بالإضافة إلى لوحات خط عربي لكبار الخطاطين قُدم منها الكثير للجامع، لكن لم يبق إلا القليل فقد طالتها السرقة والتلف بسبب الإهمال والفساد الذي يعم جميع مفاصل مؤسسات الدولة ومنها وزارة الأوقاف في حكومة النظام السوري.
مفقودات.. مخطوطات ثمينة وثريات فاخرة وسجاد عجمي
وقد تمَّ التطرق إلى هذا الموضوع سابقاً دون تفصيلات. ففي عام 2009 أعد الصحفي أيمن الشوفي تحقيقاً بعنوان "سرقة السجاد العجمي من المسجد الأموي وساعة المرجة"، ولم يصل إلى نتيجة رغم أن كل سجاد الجامع قد تمَّ استبداله بآخر جديد عام 2004، واختفى القديم. كما أثار سامي مروان مبيض، المُقرب من السلطة، الموضوع عام 2017 عبر مقال بعنوان "مفقودات دمشق تحولها إلى ذكرى في الكتب... مخطوطات ثمينة وثريات فاخرة وسجاد الأموي النادر أين المصير؟" في "جريدة الوطن" شبه الرسمية. وتناول في مقاله ما أُثير حول 400 مخطوط عثماني مُخزن في صناديق بقيت في غرفة مؤذني الجامع الأموي، بالإضافة إلى الثريات القديمة الفاخرة التي لم يبق منها في المستودعات إلا واحدة فقط. واكتفى بالتساؤل عن مصير هذه المقتنيات.
عام 1991 أصدر حافظ الأسد قراراً بتشكيل لجنة، برئاسة محمد أمين أبو الشامات، مهمتها ترميم الجامع الأموي. وقامت اللجنة بتشكيل مجموعات عمل فنية متخصصة، وبدأت أعمال الترميم عام 1994، ليدشنه الأسد عام 1998. وبهذه المناسبة أنجزت المؤسسة العامة للسينما فيلماً عنوانه "الجامع الأموي الكبير بدمشق من عهد الوليد إلى عهد الرئيس حافظ الأسد". وقال القائمون على الترميم إنهم وثقوا كل شيء وأعادوا الترميم كالأصل، بعد أن تمَّ مسح وتسجيل جميع الآثار الإسلامية والتاريخية القديمة وتوثيقها. وقد أبدع مهندسو وحرفيو سوريا وبذلوا جهوداً كبيرة في ترميم مسجدهم كما فعلوا دوماً خلال تاريخه الطويل.
اهتمت لجنة الترميم ببناء الجامع، بينما تركت باقي آثاره للإهمال والفوضى رغم وجود مؤرخين وآثاريين في عضويتها. فلم تراعِ تهيئة مكان مناسب لحفظها في أثناء عمليات الترميم، بل نُقلت على عجل إلى أماكن أخرى في الجامع لم تكن ضمن خطة الترميم، وتُركت لسنوات من دون عناية فطالها التلف وربما السرقة، خاصةً أن الكثير منها غير مسجل في سجلات رسمية.
ولأهمية المقتنيات الأثرية الموجودة في الجامع الأموي أُقيم لعرضها متحفٌ خاص افتُتح عام 1989، مع أنه كان عبارة عن قاعة واحدة فقط ضمت نماذج من تلك المقتنيات الثمينة، ومنها: مصاحف مخطوطة ومذهبة يعود بعضها للعصر المملوكي، بالإضافة إلى كتب مخطوطة مزخرفة متنوعة، وبعض الأحجار والسجاد ولوحات خط عربي، ومصابيح إنارة وقطع فسيفسائية وخزفية وزجاجية ونقود إسلامية وساعات كبيرة وثريات. فما مصير هذه الكنوز؟
بعد انتهاء أعمال الترميم وإعادة افتتاح المسجد عام 1998 لم تتمَّ إعادة افتتاح متحفه، ولم يكن أحد غير العاملين في المسجد وبعض المختصين يعلمون عن مقتنياته. وفي عام 2008 بادر أحد إداريي الجامع بالطلب شفوياً من "مركز الوثائق التاريخية بدمشق" إرسال خبير لإبداء الرأي في الوثائق والمخطوطات الموجودة في الجامع الأموي وحالتها سيئة. فتوجه الخبير برفقة مختصين بحفظ وترميم المخطوطات في زيارة استطلاعية للمسجد، وتمَّ اصطحابهم إلى مستودع في سقيفة لتكون المفاجأة الكارثة، ألواح خشبية طويلة وضعت على عوارض كُدست فوقها كتب قديمة تلامس السقف يعلوها التراب وزرق الحمام. وعلى الأرض كتب حديثة وأوراق مخطوطات تختلط مع أثاث تالف وأوساخ، والقوارض عملت فيها عملها، وفي إحدى الزوايا صناديق كرتونية مليئة بلفائف مخطوطة، وعلى الأرض لوحات خط عربي مزخرفة. كم كانت صدمة المختصين كبيرة فعند وصولهم استقبلهم مدير الجامع في قاعة بديعة نظيفة مكيفة، بينما التراث والتاريخ والأمانات التي تركها الناس تقرباً من الله في المسجد باعتباره مكاناً آماناً هذا حالها.
تشكلت لجنة مختصة من المديرية العامة للآثار والمتاحف كُلفت بفرز وتنظيف واقتراح الحلول لحفظ المخطوطات. نُقلت المقتنيات إلى مكان جديد ليتم العمل عليها، ولكن دهشة اللجنة به كانت أكبر من "السقيفة"، فقد كان قاعة المتحف المغلقة منذ 1994، وقد تُركت فيها الآثار كل هذه السنوات في خزائن العرض وعلى الجدران دون إجراءات الحفظ المعروفة، ففتكت بها الرطوبة والسوس والحشرات والقوارض. المعروضات التي كانت في الخزائن هي الأقدم والأجمل، وبعضها هدايا من أمراء وملوك. ولدى السؤال كيف تُترك هذه الكنوز على هذا الحال كان الجواب أن أحد لا يجرؤ على الدخول إلى هذه القاعة خشية الاتهام بالسرقة، وخوفاً من رجال الأمن الموجودين في الجامع الذين يدهم في كل شيء.
في المرحلة الأولى فرزت اللجنة الآثار بحسب مادة صنعها، ولما كان اختصاص اللجنة الوثائق والمخطوطات، وهي الأكثر تضرراً، فقد وضعت هدفها الأول فرزها وعلاجها أولياً لإيقاف التلف. وتبين وجود مئات المخطوطات، وأكثرها مصاحف بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى كُتب موضوعاتها مختلفة من تصوف وفقه وعقيدة ولغة، ومئات اللفائف من الحجج الشرعية يتعلق أغلبها بأوقاف الجامع الأموي. وهناك عدد لا بأس به من لوحات الخط العربي القديمة بعضها لأشهر الخطاطين، وسجلات مكتوبة بخط اليد. كما كان هناك بعض السجاد القديم المتضرر بشدة بالحشرات والقوارض، وساعات ثابتة قديمة الطراز أغلبها مُحطم، ومقتنيات معدنية وخشبية وخزفية أخرى. وهذه الموجودات ذات قيمة أثرية وعلمية كبيرة وتحوي معلومات اقتصادية واجتماعية تتعلق بالجامع وبمدينة دمشق ومجتمعها.
ومما يزيد الطين بلة عدم ترقيم هذه الآثار في سجلات رسمية لمعرفة عددها وإذا ما كان فُقد منها شيء. فكيف سنعرف ما جرى لها في ظل الفوضى والإهمال والفساد المستشري؟
بعد الفرز وضعت اللجنة المخطوطات في صناديق كرتونية، ريثما يتم تجهيز قاعة خاصة مع أدواتها لتبدأ العمل، لكنها فوجئت بنقل الصناديق إلى خارج المتحف وتكديسها في غرفة غير مناسبة. وطلبت إدارة الجامع من اللجنة أن تختار، على عجل، مقتنيات لإعادة افتتاح المتحف. وعبثاً حاولوا إقناعهم أن حالتها الفنية لا تسمح ويجب الاهتمام أولاً بتسجيلها وعلاجها وترميمها. أُوقف عمل اللجنة، وأُعيد افتتاح المتحف بمعروضات مصابة، وتُركت بقية المخطوطات في الكراتين لسنوات بعد أن كان ذلك مقرراً لأسابيع. وكل ذلك ليظهر "الرئيس المؤمن بشار الأسد" يفتتح المتحف نفسه الذي افتتحه أبوه، وليعود مرة أخرى في بدايات الثورة عام 2012 لزيارته، ويظهر في صور نشرتها صحفه متفقداً نسخاً قديمة من المصحف ظهرت مصفوفة على طاولة خشبية وتحتها سجادة، ولا تظهر في أرجاء القاعة أي خزانة عرض من المتعارف عليها لهذه الغايات.