يعتقد الكثيرون أن قرارات السياسة الخارجية، بما في ذلك قرارات الحرب، تتخذ في سياق معرفة دقيقة لصناع القرار بالبيئة الدولية، وأنهم من خلال التحليل العقلاني يتخذون القرارات الأكثر مواءمة لمصالح بلدانهم.
إلا أن العديد من الأحداث التاريخية تشير إلى أن الكثير من قرارات السياسة الخارجية كانت بعيدة كل البعد عن أن تكون عقلانية. وربما كانت إساءات الإدراك هي المفتاح المساعد لفهم هذه القرارات المتعارضة والعقل، كما يقول "جورج كاشمان" في كتابه "لماذا تنشب الحروب؟"
ممانعة أميركية لحرب مع إيران
خلال السنوات المنصرمة حاولت إسرائيل ومعها بعض دول الخليج العربي – بإلحاح شديد – إقناع أميركا بضرورة ضرب إيران ضربة قاصمة تقوض مقدراتها العسكرية وتحد من جموحها التوسعي. إلا أن أميركا لم تستجب لهذه الضغوط وبقيت مصممة على موقفها الرافض للحلول العسكرية، مراهنة بمزيد من الصبر والتأني على الحلول الدبلوماسية.
هذا ما دفع بعض هذه الدول لاتخاذ بعض المواقف وانتهاج بعض السياسات الاستفزازية بالنسبة لأميركا، كالتقارب مع روسيا والصين.
أما بالنسبة لإسرائيل، فطبيعة علاقتها مع أميركا لا تسمح لها بأن تبحث عن حل لمسألة الأرق الذي تسببه إيران لها بعيداً عن الدائرة الأميركية. لذلك، هي ظلت باستمرار ومن غير ملل تتحين الفرصة لإقناع الأميركيين بذلك، لكنها كانت تفاجأ برفض أميركي قاطع لأي شكل من أشكال الحرب مع إيران.
رفض وصل لمرحلة ردع إسرائيل عن المبالغة في استفزاز إيران، بل هي بذلت جهوداً مضنية للوصول إلى سيناريو فض الاشتباك الذي حصل بعد الاعتداء الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق.
استنفرت الدبلوماسية الأميركية ومعها معظم العواصم الغربية لجعل الفعل ورد الفعل منضبطاً بحيث لا تنزلق الأمور نحو مواجهة مفتوحة.
خطأ حزب الله الذي سهل مهمة نتنياهو
غادر "نتنياهو" إلى واشنطن في زيارة قيل إنها محاولة للحصول على مباركة أميركية لتوجيه ضربة قاسية لحزب الله. وبينما هو في واشنطن تناقلت وسائل الإعلام نبأ مجزرة بحق أطفال أبرياء من أبناء قرية مجدل شمس السورية في الجولان المحتل. تبنى حزب الله العملية، لكنه سرعان ما عاد ونفى مسؤوليته عنها، ولكن أغلب الظن أن الحزب هو من أطلق الصاروخ؛ إما للملعب الذي وقعت فيه المجزرة ظناً منه أنه فارغ، وإما لنقطة عسكرية قريبة من الملعب أخطأها الصاروخ.
بالمجمل، إن كان هناك من اعترض على فكرة توسيع دائرة الحرب لتشمل حزب الله، لم يعد هناك من يعترض على حق إسرائيل بالرد على مرتكبي مجزرة مجدل شمس. ولكن رغم ذلك، استنفرت الدبلوماسية الأميركية ومعها معظم العواصم الغربية لجعل الفعل ورد الفعل منضبطاً بحيث لا تنزلق الأمور نحو مواجهة مفتوحة لا يمكن التنبؤ بمآلاتها. الجميع مهتم بالتركيز على الحرب في أوكرانيا ويريد بعض الهدوء في الشرق الأوسط.
رد مهين جداً وضع نظام الملالي في مأزق خطير
متكئاً على التخوف الأميركي – الغربي، أبدى حزب الله تعنتاً في أثناء المفاوضات، وجعل من قصف الضاحية الجنوبية خطاً أحمر يقابله قصف "تل أبيب". إلا أنه في اليوم التالي، قام سلاح الجو الإسرائيلي بتوجيه ضربة صاروخية في الضاحية الجنوبية، قال إنه استهدف من خلالها فؤاد شكر، الرجل الثاني في الحزب. وتسمية "الرجل الثاني" أطلقها الإسرائيليون في رسالة يبدو أنها متعمدة تقول لحسن نصر الله: التالي هو أنت.
لم تمضِ ساعات، وقبل أن يعلن حزب الله عن مقتل شكر رسمياً، تناقلت وسائل الإعلام نبأ مقتل إسماعيل هنية في طهران التي كان يزورها لحضور حفل تنصيب رئيسها الجديد. بغض النظر عما قيل ويقال، فاستهداف هنية في طهران وضع نظام الملالي في مأزق يصعب تجاوزه. وإذا أردنا أن نعرف خطورة المأزق علينا أن نتذكر قضية جمال خاشقجي وما سببته من توتر بين السعودية وتركيا، رغم أنه قُتل داخل السفارة السعودية التي تعد في الأعراف الدولية جزءاً من الأراضي السعودية.
يعتقد الإيرانيون، كما يعتقد الكثير من المراقبين، أن نتنياهو خلال زيارته لواشنطن قد تلمس تلاشي الضغوط الأميركية بسبب الفوضى في البيت الأبيض.
رد مؤكد ورد متوقع
لا تمتلك إيران ترف تجاوز الإهانة، فهي مطالبة أمام جمهورها وأمام حلفائها أن تفعل ما يحفظ به ماء وجهها. ولكن ماذا تفعل؟ يتوقع أغلب المراقبين أن إيران ستوعز لأذرعها بإهانة إسرائيل، أو أنها ستقوم بالرد من خلال قواتها كما حصل بعد قصف إسرائيل لقنصليتها في دمشق. وهي إن اختارت هذا الخيار سوف تنتظر الوسطاء من أجل صياغة السيناريو المناسب الذي يضمن عدم الرد الإسرائيلي، لأن اندفاعة "نتنياهو" هذه المرة تجعل صانع القرار في طهران يتوقع أن الرد الإسرائيلي على أي اعتداء، سواء كان من قبل القوات الإيرانية أم كان من قبل الأذرع، سوف يكون في قلب إيران.
يعتقد الإيرانيون، كما يعتقد الكثير من المراقبين، أن نتنياهو خلال زيارته لواشنطن قد تلمس تلاشي الضغوط الأميركية بسبب الفوضى في البيت الأبيض. كما لاحظ صعود تيار المحافظين الجدد الذين يشعرون بحنق شديد تجاه سياسة قادتهم المسالمة التي أفقدت أميركا هيبتها. يقال إن هذا التيار، الذي يتزعمه "جون بولتون"، يدفع بكل قوة نحو توجيه ضربة لإيران تعيد لأميركا هيبتها المفقودة، على اعتبار أن إيران خصماً يمكن هزيمته، بينما روسيا والصين لهما حسابات أخرى.
يبدو أن حسابات "نتنياهو" أصبحت على الشكل التالي: سأندفع وسأضرب بكل قوة، وفي حال أصبحت الأمور صعبة فإن الولايات المتحدة رغم كل التردد والتحفظ لن يكون لها سوى خيار دعم إسرائيل. يحاول نتنياهو جذب الولايات المتحدة إلى الصراع بين إسرائيل وإيران، فهل هو يسيء الإدراك، أم أن إيران ستكتشف أنها كانت تسيء الإدراك عندما بالغت في مراهنتها على التخوف الأميركي من الحرب، أم أن هذا المقال قد أساء الإدراك في تقديره لمسار الصراع؟