لم يهدأ النشاط السياسي الكردي السوري بضعفه وقوته، وانحساره وتمدده، منذ نشأة الدولة السورية عام1920، لذا لا يمكن القول إن التاريخ السياسي للكرد السوريين بدأ مع حركة سياسية حديثة، ولم يشهد التاريخ السوري أن ساوم الكُرد على انتمائهم القومي الكردي بخط متلازم مع الانتماء الوطني السوري، فالمزاج والكتّلة البشرية الأكبر من النخب والعوام والأحزاب كانت تؤكد على الحقوق القومية للكرد ضمن الإطار السوري العام.
وبعد قرنٍ من التقسيمات والعمل السياسي القومي، ظهر في الفضاء السياسي الكردي العام من يقول إن نداء القوميات يجب أن يخبوا وأن العمل على "أخوة الشعوب والأمة الديمقراطية" هي المسار السياسي الأنجع. وفي الوقت الذي يجب أن يتقاسم "الأمميون" لغة سياسية وإطاراً مرجعياً مشتركاً للتعبير والتطبيق عن مزاعمهم، والحفاظ على سردية الأمة الجديدة "الأمة الديمقراطية" عبر تمثيلها بشكل علني وأن تقطع المكونات بداخلها أي انتماء إلى أيّ أمة أخرى، نجد أنها لا تزال تحبوا وأن القومية الكردية متضررة منها. علماً أن الانتماء إلى الأمة الكردية للكرد السوريين حالة شبيه بانتماء العرب السوريين إلى الأمة العربية.
في سوريا حيث التنوع الهويّاتي، ألغيت تاريخياً كل القوميات والهويات الفرعية وتحديداً غير العربية من كرد وآشوريين وتركمان...إلخ
في فلسفة الهويّات القومية، يُشكل الانتماء القومي سمة متأصلة في الشعوب عامة، وبشكل أكبر لدى أبناء القوميات التي بقيت دون دولة أو حقوق. وتربط النُخب الملتزمة بقضايا القومية لشعوبهم، فكرة وتأصيل التوجه والانتماء القومي لها بأدق وأبسط مناحي حياتهم، وتوأمة المطلب القومي مع أبسط الحقوق الطبيعية ومستلزماتها. فالشعوب تتمايز فيما بينها موضوعياً وطبيعياً بأساسيات الهويّة القومية: كاللغة، الوجود التاريخي في رقعة جغرافية، الثقافة، التراث...إلخ، كما يشترك التاريخ والفلكلور والأدب مع ضرورة وجود الأحزاب السياسية لترسيخ مفهوم الانتماء إلى الأمة القومية عبر مسارات تاريخية قديمة استمرت حتّى اليوم. وكلها شكل تأثيرا نافذا في الأفكار والانتماءات القومية، خلافاً للسرديات الوضعية حول انتهاء عصر القوميات وأفول نجم الأحزاب السياسية القومية؛ فحملات تشويه القوميات ومحاولة إزالة فكرة الانتماء إلى الأمة القومية، جُبهت بالكتلة البشرية المدافعة عن قومياتها، فأجهضت قسما كبيرا من ذلك المخطط.
وفي سوريا حيث التنوع الهويّاتي، ألغيت تاريخياً كل القوميات والهويات الفرعية وتحديداً غير العربية من كرد وآشوريين وتركمان...إلخ. بدلاً من تغذية انتماء القوميات المختلفة إلى مجتمع وطني تتفوق عضوية الهويّة الجامعة على أشكال الانتماء الأخرى، كلزومية تحول الهويّة السورية إلى "المستودع" الوحيد للسيادة والكرامة ومصدر رئيسي للسلطة السياسية والشرعية، وعدم تفرد جماعة ثقافية بتاريخ ولغة وهوية سورية على حساب البقية وأن تنتهي مهزلة الأولوية والتفرد.
ويشكل الكُرد في سوريا جماعة قومية واضحة المعالم ذات مطالب وثوابت قومية غير قابلة للتغيير، وهي في أساسها وصلبها جزء من الكتل الاجتماعية المتعددة في سوريا والتي تؤكد على التعددية الإثنية والعرقية والقومية، لإنها تشكل ركيزة موضوعية لوجود هذه الجماعات، مع مراعاة أن تغيرات تطرأ على نوعية التعبير عن تلك الهويات القومية في أزمنة تشهد مزيدا من الضغوطات والإنكار والطمس. لكن الأس الاجتماعي للكرد وقضيتهم أنهم ينحدرون من أصل مشترك ويتم التعبير عنها ضمن الزمرة الواحدة، ومن ثم يتم التعبير عنها بشكل صارخ، فالقومية هي عائلة كبيرة من الأقارب البعيدين الذين لا يعرفون بعضهم البعض بشكل مباشر، تربطهم هوية بدهية وأصيلة وجملة عواطف تربط الفرد بالجماعة ويشعر بممارساتها وهذه الرابطة قائمة على العاطفة، الشعور، الدم، اللغة، التاريخ، المظلومية، تشكل كلها هويّة واحدة. وماذا لو تعرضت هذه الروابط للتهديد ومحاولة المحو والإنكار؟ فإن رابطة التآزر والدفاع والتضامن تكبر وتتطور لتصل إلى درجة الانحلال والتضحية، وحينذاك فإن الرابط ينتقل من مجرد عواطف وجدانية أو مصالح مشتركة إلى مضمون وردة فعل مغلقة صعبة التفسير، تعزى إلى وجود قوة دافعة، تسمى بالقوة العامة لحماية النسق القومي.
ومع غياب مفهوم الهويّة السورية أولاً، يصر كرد سوريا على خصوصية انتمائهم إلى الأمة الكردية ضمن سوريا جامعة، رافضين التفصيل الغريب للتعريف الهويّاتي للسوريين المعرف بـــ"عربي سوري" و"سوري كردي". فالكرد كغيرهم من الأقوام، وجدوا منذ فجر التاريخ وتطوروا عن النسخ الأخرى من أقوامهم وأسلافهم وتاليا شكلوا تطورا تاريخيا لمفهوم وجودهم عبر هويتهم وأمتهم وعلاقاتهم مع الأوساط التي تحيط بهم ويحطيون بها، ومن ضمن الأنساق التي تطورت لديهم هو الحق في الهوية السياسية والاستقلال الذاتي بالتشاور مع الشركاء الأخرين، وتأثرهم بنظريات الدولة -الأمة وحافظوا على تراثهم القومي والوطني السوري بشكل تمكن الروابط القومية والوطنية للكرد.
إن تاريخ الشعب الكردي في سوريا ليست قصة بدائية أو لحظية أو حدث عابر برز مع بدايات الأحداث في سوريا، بل عملية مستمرة تطورت بفعل تطور العقل السياسي
مؤكدين أن هويتهم القومية هي حقيقة ثابتة يتوجب قبولها كما هيّ دون المساس بها. فالفكر والمطلب القومي الكردي في سوريا انتقل من جيل لآخر عبر سلسلة من الحقائق والمثبتات، كشعور الظلم والإقصاء والحقائق التاريخية والحقوق الثقافية واللغوية، والثبات على الطرح العام للقضية...إلخ وبالرغم من التغيرات التي أصابت آلية التعبير أو أولويات الطرح، لكن الخصائص الجوهرية للفكر القومي الكردي بقيت ثابتة ومتماسكة اجتماعيا. وإن كانت الأحزاب عادة تلعب دوراً ريادياً في تغذية التوجهات القومية أو عكسها فإن المجتمع الكردي كان يحمل بذور الطرح القومي على صعيد الخيارات الفردية أيضا، بما فيها البعيدين عن العمل الحزبي، وكانت ذرائعية الحفاظ على الوجود القومي تدفع الأهالي للحفاظ على لغتهم وحمايتها بالرغم من كل أشكال الضغط والمعوقات والتعريب، ولعبت التنشئة المنزلية دوراً محورياً للحفاظ على اللغة الكردية للطفل، وهي المختلفة عن لغة المدرسة.
إن تاريخ الشعب الكردي في سوريا ليست قصة بدائية أو لحظية أو حدث عابر برز مع بدايات الأحداث في سوريا، بل عملية مستمرة تطورت بفعل تطور العقل السياسي وجاهدت مرتين، الأولى: في وجه كل المشاريع المجحفة والهادفة لاقتلاعهم من جذورهم، والثانية: في وجه تململ وضعف بعض الأحزاب الكردية التي تطالب كرد سوريا بالتخلي عن مفهوم المطلب القومي في سوريا. وبقيت المطاليب مستمرة عبر التاريخ ولم تطرح خلال نضالها في سوريا أي مشروع انفصالي ولم تعش عوالم راديكالية، وإن كانت تعرضت للقمع شأنها شأن جميع القوميات على طول وعرض البلاد التي يعيشون فيها، لكنها بقيت وفية لخصائصها السياسية -الثقافية، ووحدها الطروحات التي تدعوا لاستبدال هذا الانتماء بعضوية أممية جديدة و"أفول عهد القوميات"! وفرضها عنوة على المجتمع الكردي هي التي ألحقت الضرر بالانتماء القومي للكرد السوريين. خاصة وأن الإتيان بنظرية سياسية جديدة عَصبُها الأممية عوضا عن القومية هي محاولة لاختراق صميم الجدل النظري/العملي- الممارساتي حول القومية، لكنها لم تنجح.
وصحيح أنه من غير الضروري للأمة حتى توجد أن يتمتع كل أفرادها بوعي كامل بوجودها، لكن غياب الاتساق والانتماء والاتفاق السياسي والأطر الشعبية وشعور الظلم الجمعي لقطاعات وشرائح اجتماعية، كفيل بنسف أي مشروع جديد. فالتمييز والانقسام الاجتماعي-الثقافي بين الكرد في سوريا الذين يجدون أنفسهم جزءا من أمتهم الكردية التاريخية، في مقابل مجموعة أخرى لديها طرح بديل عن الهويّة والأمة الكردية، يوضح غياب الانسجام السياسي، ويجعل من أبناء القومية الكردية مشتتين وتائهين، والتحليل الاجتماعي -السياسي للإخفاق الشعبي والنخبوي الكردي بالاتفاق على مشروع سياسي واحد للانتماء، جعل من مفهوم أن الكرد في سوريا جزء من الأمة الكردية مفهوما مشتتاً بالمعنى السياسي والاجتماعي والثقافي وأوصل السياسة الكردية إلى فشل الوصف السياسي المتفق عليه للمواضيع وبنية المطلب الكردي في سوريا.