تندرج أزمة الهويّات الثقافية ضمن صراع البقاء والوجود والفوز بالاعتراف بها، وإعادة رتم العلاقة مع الهويّة الجامعة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وتعليميا، وهي ترجمة لإمكانية التحول من العلاقات النافرة إلى الرصينة والمجتمعية، على قاعدة أن تشبث الشعوب بهويّاتها الفرعية لا يمكن القضاء عليها ولا تفكيكها دون تغذية تلك النزعة وتوجيهها صوب الهوية الجامعة؛ لدورها في استمرار النزاع/ أو الاستقرار لمستقبل البلاد، كإطار لتحقيق تضامن هويّاتي مع هويّة الأكثرية، أو لتشكيل سور ثقافي سياسي قوي يمثل تحدياً رهيباً لمستقبل البلاد.
الخوف يقودها للانكماش
وكنتيجة لعوامل السحق والنفي، تميل الهويّات الفرعية إلى الفردانية اليوم وبشكل جماعي، وإذا كان الحل حمل ذلك الشعور الجمعي إلى الهويّة العامة، لكن المشكلة أنه بعد مضي قرابة العقد والنيف على الحدث السوري، ما تزال التوجهات بأغلبيتها تذهب باتجاهات بعيدة عن الخوض في واحدة من أبرز وأدق القضايا التي تخص مستقبل البلاد والعلاقات بين مكوناتها. فقضية الهويّة الثقافية للبلاد، ضمن إطار الهويّة الجامعة للدولة والشعب والمجتمع السوري، ما تزال من القضايا الجديدة القديمة التي لا يتم الخوض فيها، مقابل التركيز على الشق السياسي فقط، وإن كانت الهويّة السياسية هي الأساس واللُب في حلحلة باقي الأنواع والفروع، لكن لا فكاك من الدور المحوري للجانب الثقافي كفاعل أساسي لاستقرار الدولة. فالهويّات الثقافية الفرعية إما أن تتحول لتحدٍ في وجه بناء الهويّة الوطنية، أو مدماك للاستقرار. وتبرز معها اختبار قدرة الدولة على فرض عناصر هويّة ثقافية وطنية جامعة، أو الاستمرار في سياسات محق الهويّات، خاصة وإن عدّم منعها لأنشطة وفعاليات القوميات الخاصة، وهويّتها الثقافية، من شأنه إذكاء الولاءات المحلية وإبراز الهويّات القومية كجزء من الهويّة الوطنية وليست هويّات عابرة للوطنية أو ما دونها، بل الالتفاف حول هويّة جامعة. والعمل بالهويّة الوطنية الجامعة حين لا تأتي على باقي الهويّات تقزيماً وضعفاً، هي أول معطى للعلاقة مع التعددية وبناء العقد الاجتماعي الجديد. وهي عملية معقدة تربط بعمق الأفراد مع الأمة التي تصبح إطاراً هويّاتياً عاماً. وبل تصبح تلك الهويّة أبرز دينامية تمارس فعل الجامع للدولة من جهة، ومن جهة أخرى تؤسس لمحيط اجتماعي فاعل، ومجتمع ذي مرجعيات ثقافية متعددة، فالثقافات الفرعية تؤثر على أنماط السلوك البشري؛ كونها قيمة مركزية لطبيعة التفكير البشري السوي، وبُعداً أساسياً مكوّناً لها. وعبر تلك الثقافات يتكامل نمو أفراد المجتمعات المحلية الخاصة ضمن المجتمع السوري العام، خاصة وأن أشكال الصيرورة البشرية ليست موحدة، بل متنوعة من اجتماعية وسياسية وثقافية.
تضاد الثقافات الأصيلة والدخيلة يقود سوريا للمجهول
يقف المجتمع السوري وفي سياق توجهه صوب الاستقرار المنشود، أمام حمولة كبيرة من الثقافات والأفكار الأصلية، إضافة -بسبب الحرب الحالية- إلى الهجينة والدخيلة، وكلها تمتلك إمكانية بناء روابط ونسجها مع بعضها البعض، وتصبح سوريا أمام تنشئة اجتماعية للهويّة السورية ضمن الظروف التي جاءت بتلك الهويّات، وتغلغلها ضمن المحيط. ما يُشكل مخاطر مخيفة على حياة السوريين المقبلة، فتكون القواعد الاجتماعية أمام مداميك عديدة مؤسسة لتلك الهويّات من متطرفة، عابرة للحدود، ما دون وطنية، غريبة عن النسق الاجتماعي التاريخي للسوريين، مع خمود وتقوقع الهويّات الثقافية التاريخية، أو ذات هويّة ثقافية متعددة تحمل استقرار البلاد، علماً أن سياسة الاختلاف تقلل من خطورة الصدامات الشعبية ويرفع من أهمية الحقوق القانونية والحوارات. وواحدة من أعمق المشكلات أمام الهويّات الثقافية الفرعية، وهي في حالة انتظار إعلان العدالة والمساواة الثقافية على مستوى سوريا، هي غلبة التعريف السلبي للتعددية الثقافية على حساب التعريف التوكيدي الإيجابي، واعتبار إعطاء الهويّات الثقافية الفرعية الفرص والحقوق نفسها التي تُعطى للأكثرية، أمراً مرفوضاً. رغم أنها المساواة، لكن الهوية الثقافية المسيطرة كانت تعمل على قاعدة، ليس من الضروري المساواة في الحقوق نفسها لباقي الثقافات وتماثلها جميعاً في الامتيازات الممنوحة لها، بالمقابل فإن أنصار التعددية الثقافية سيتمسكون باستخدام مجموعة ضخمة من الأوضاع القانونية الخاصة للجميع، انطلاقاً من مبدأ أن الجماعات تحافظ على قومياتها وهويتها الثقافية في لحظة واحدة، ورفضاً لخصوصية جميع القوانين لفئة واحدة تحت ستار المواطنة للجميع. فاجتمعت الهويّات الدخيلة والغريبة عن المجتمع مع النسق التاريخي للعسف والقمع في سوريا، لتتحول الأخيرة إلى ساحة مفتوحة أمام شبح صراع الثقافات، مع اشتداد نبرة التطرف، والانتقام، واستمرار سياسيات الإنكار والإلغاء، وديمومة عدم استيعاب القوميات الثقافية ونسف مبدأ التعددية الثقافية.
الهويّة الثقافية سوسيولوجياً
في الاستخدام السوسيولوجي السياسي للهويّات الثقافية، يفترض حماية السلوك الاجتماعي، وأنماط العلاقات الاجتماعية، وجماعات العمل والرأي الدافعة صوب الهوية الثقافية الجامعة، وتغذية شعور الانتماء إلى سوريا واحترام خصوصية الهويّات الفرعية معاً، خاصة وأن ذلك الشعور يجب أن يتولد عبر أنشطة وفعاليات وتطبيقات تحتويها المدارس والجامعات، والمنشورات الحكومية، اللغة، مشاركة الدولة في الفعاليات والممارسات الثقافية للقوميات المغايرة، ونظرة الدولة للهويّات الفرعية أنها عامل استقرار مجتمعي، لتغذية ذلك الشعور بالانتماء ويتقاسمه أعضاء المجتمع الواحد، وهو ما سيسهم في إرساء العلاقة بين مظاهر الهويّات المتعددة، وتراجع حدية التعاملات بين تلك الهويّات يعتبر علاقة مميزة في تغذية علاقة الشعور الوطني مع الهويّات الفرعية.
التحديث الواجب حصوله يجب أن يتوافق مع مسلمة أن بقاء كل تلك الثقافات وحمايتها هي التي تصل بالهوية الوطنية إلى الاستقرار، أو هي التي تضع كل العراقيل أمامها في مسعاها لذلك الاستقرار، فهي متماسكة حول منظومة قيم تصبح شرسة وحادة الطباع كلما شعرت بالخطر القادم، وتحمل صفات التسامح والثقة بالآخرين أما كل خطوة من شأنها تعزيز دورها في الدولة والمجتمع.
الهويّات المتعددة نواة حضارة نوعية
ويمكن للكم الكبير من الثقافات التقليدية في سوريا أن تشكل تكتلاً حضارياً وفقاً لمنسوب الموروث التاريخي، وأن تكشف المظاهر الثقافية مقاومة وتماسكاً مذهلين، أو تفكيكاً وتشظياً مخيفاً وهي تتطلب بعدين متلازمين لتطوير الهويّات الثقافية في سوريا:
البعد الأول: كسر تابوهات القيم التقليدية للدولة من سلطة أبوية، والأخطر ثقل المؤسسات الدينية والعسكرية والاستعاضة عنها بقيم احترام السلطة الحكومية والإدارية وعلمانية ودستورية تلك الهويّات.
البعد الثاني: تحقيق كفاية اقتصادية حيث لا استقرار للهويات الثقافية والسياسية الفرعية وحتى الجامعة مع درجات الفقر والحاجة. ووفقاً لذلك ومع تحديد موقع الهويّات الفرعية وفقاً للبعدين السابقين يمكن وضع تصنيف للهويات الثقافية إلى أربع درجات:
-هويّة تقليدية يتجه أصحابها صوب التقوقع حول الدين والقيم العائلية ويرفض الانخراط أو الانسجام مع الآخر المختلف. -هويّة قيم ذات نزعة فردية تعترف بالسلطة خوفاً وليس حباً أو تأييداً. – هويّة رفض وامتعاض للواقع الحالي ولا يشعرون بالانتماء، متعصبون وغير موافقين على عدم المساواة بين أفراد المجتمع ولا يثقون بغيرهم. -هوية تعارض القطيعة ومتسامحة تطالب بحقوقها ترفض القمع وترغب العيش في الديمقراطية. وهذه أفضل التصنيفات لكنها الأكثر صعوبة في ظل الصراع الهويّاتي الحالي، لأن مسألة الهويّات الثقافية في قلب المعضلة السورية حساسة وصعبة بشكل خاص مع انعدام أي حل سياسي حالي وهي تحتاج إلى إعادة التفكير بها من جديد. فالمطلوب تحقيق توازن واضح بين الثقافات القائمة على أسس هويّاتية واحترام القيم التقليدية. وتلك الهويّات ذات تقاليد تاريخية سوسيولوجيا وسمات ثقافية، استمرت لعقود طويلة ومارست تأثيراً صارماً على كل أشكال الأداء السياسي والاجتماعي للمجتمعات والشعوب في سوريا.