هل يُمكن بناء مقاربات جديدة للمقتلة السورية؟

مناطق النفوذ في سوريا واضحة من حيث الجغرافية السياسية، والسياسات المتبعة، وموازين القوى وتشابك أو فض خطوط الهدّن، لكنها لا تزال حدودا أمنية هشّة وتحتاج كثيرا من العمل سواء لتحويلها إلى حدود سياسية ثابتة ودائمة، أو عودتها للوحة جغرافية سياسية واحدة، وإن بدا هذا الخيار في حسابات الاستحالة والممنوع محلياً ودولياً وإقليمياً، خاصة وأن الشكل الحالي للحدود إنما جاء بعد أعوام من الاشتباكات والتحولات السياسية والهدن ونقاط خفض التصعيد وخرقها، مع مسارات سياسية بطيئة وشبه مشلولة، لم ينجح مُحركوها في تحقيق خطوة حقيقية يُفضي ويُقدم ضمانات لحل سياسي ممكن التحقق، ويكون كفيلاً بوضع حد للمقتلة السورية ومأساتهم. والمعضلة الأخرى التي رافقت "تحريك" الحدود الجغرافية بين هذا الطرف وذاك، إن نسب الفقر المدقع والبطالة والجريمة المنظمة وانتشار الأمراض المزمنة والترويج الضخم للمخدرات وفوضى السلاح أصبح شيئا من روتين الحياة اليومية.

الرابط والقاسم المشترك الوحيد والعميق بين كل السوريين في دول الشتات، ومناطق الانقسام الجغرافي والسياسي، هي حالة الإحباط وفقدان أيّ أمل بغدٍ أفضل

ومع سيولة مشهد تبادل التهم ومحاكمة الأبرياء بتهمة التواصل مع الطرف الآخر، ورغم التشظي السياسي الحاد بين المناطق الجغرافية وحكوماتها المؤقتة والدائمة وهياكل الحكم المختلفة، لكن ثمة تشارك ومفارقة غريبة، فكل السوريين يتشاركون قواسم مشتركة كنتيجة لسنوات الصراع والحرب، من فقر وضعف شبه تام للاقتصاد في شمال شرقي وشمال غربي سويا ومناطق سيطرة نظام الأسد، والحكومة السورية المؤقتة، والاستبداد المزمن للسلطات والتهم المعلبة للمعارضين ونعتهم بالخيانة والعمالة للطرف الآخر، لكن المفارقة أن كل تلك الأطراف التي تتصارع وتتعارك، وتحكم شعبها بتهم التعامل مع الخارج، هم أنفسهم يتناسون كُل تلك التهم في أثناء التبادل التجاري فيما بينهم، فالغاز والمازوت وغيرها من المواد "تُشحن" من مناطق سيطرة الإدارة الذاتية إلى مناطق سيطرة فصائل المعارضة السورية، الأولى تتهم معارضيها بالتبعية لتلك الفصائل وتوصفها بـ"الإرهابية" والثانية تُلاحق الكُرد في عفرين ورأس العين بتهمة التعامل مع الاتحاد الديمقراطي والإدارة الذاتية، والأمر نفسه يُسحب على تعامل شمال غربي سوريا التجاري مع تُجار ونُخب برجوازية تابعة للحكومة السورية في عمليات التبادل التجاري، ثم الاستمرار في سياسات التهم والمحاكمات تحت شعارات برّاقة "باسم الثورة.. باسم الشعب.. الدين ..الوطن" وفي صُلب الموضوع فإن لا أحد يكترث للشعب، ولا يهتم لحالهم أحد، وتجد بسهولة وسائل إعلام و"موظفين" بصفة إعلاميين مهمتهم الوحيدة التبرير و"التشبيح" على كل تلك المظالم والممارسات المجحفة بحق المجتمعات المحلية، لكن الرابط والقاسم المشترك الوحيد والعميق بين كل السوريين في دول الشتات، ومناطق الانقسام الجغرافي والسياسي، هي حالة الإحباط وفقدان أيّ أمل بغدٍ أفضل، ويحتل خيار الهجرة أولويات الجميع، بما تحمله تلك الهجرة من مخاطرة محفوفة بفقدان الحياة في البحر أو البر والغابات، ما الذي يدفع الشباب لدفع مبالغ مالية تُقدر مابين /12-25/ ألف دولار للخلاص مما يُسمونه جحيم العيش في سوريا، مع معرفتهم أن نسبة الوصول إلى أوروبا هي عينها نسبة الموت والفقدان في طرق الهجرة؟ والحقيقة الثابتة أن السوريين باتوا يسبقون مصطلح "ما يُسمى" بكل تسميات الهيئات الدولية من الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والائتلاف السوري، و"نكتة" أصدقاء سوريا؛ فكلهم مسؤولون عن تضخم وتعميق مأساتهم واستمرارها. والذاكرة السورية مُتخمة بحوادث القتل والتفجير والقصف والبراميل، لكن السوريين يُخلون جزءاً كبيراً من ذاكرتهم المتعلقة بالمؤتمرات التي عُقِدت، ولا يسمحون لأنفسهم إبداء أيّ اهتمام بأيّ مؤتمر جديد سيُعقد أو إعادة عمل اللجان الدستورية أو هيئة التفاوض، خاصة مع الكم الكبير من اجترار الألفاظ والوعود وسيولة الاسترسال الفاقد لأيّ معانٍ أو خلق مناخات للاستقرار.

الوضع بات بحاجة لمقاربات جديدة، خاصة لدى الفئات التي لا تزال تؤمن بالتغيير وإمكانية حصوله، الوضع يحتاج تحركات عميقة جدية على المستوى الشعبي خاصة والرسمي، والمشكلة الأولى هي في الانقسامات الموجودة، وكيفية التعامل مع شمال شرقي سوريا، وكيف سينظر الكُرد لفصائل المعارضة السورية، واستحالة العلاقة بين الطرفين مع حكومة الإنقاذ و"جبهة النصرة"، فلا قواسم مشتركة بينهم، والموقف من السوريين على المستوى الشعبي في مناطق سيطرة السلطة السورية، وهل يُمكن إيجاد قواسم مشتركة بين كل هؤلاء أم لا؟ خاصة وأن المناطق التي تُعرف بــ "الموالاة" هي نفسها تعيش أزماتها المالية والاقتصادية والخوف العميق على حيواتهم ومستقبل أبنائهم، لكن ثمة خوف خاص بهم من "المعارضين" ومستقبلهم بالعيش معاً في سوريا، من جيل الشباب خاصة، سواء من الضخ الإيديولوجي أو المواقف السياسية وغيرها، وغياب أيّ تواصل معهم، وهو الأمر عينه ما يعيشه السُكان في شمال شرقي سوريا. لذلك فإن المقاربة الجديدة للوضع السوري لا بد أن يأخذ بالحسبان كل ذلك الضغط الهائل وطبيعة المشكلات المتولدة عن إطالة أمد الأزمة السورية.

إن الأدبيات السياسية لتلك الأطراف والتي كانت تُمجد نفسها وسياساتها، وتصنع من ذواتها عمالقة وذوي أفكار ومقاصد في الإدارة والأمن والاقتصاد، كُلها فشلت. بل اتضح زيف ادعائها وخرافة مشاريعها ووعودها الفاقدة للأس المعرفي والواقعي والعملي

 ومع فشل مقاربة "المصالحات الوطنية" في درعا وغيرها، وفشل فصائل المعارضة السورية من تقديم لوحة أمنية وسياسية يُمكن القول إنها البديل المنتظر أو خلق شعور الأمان والانتماء لدى السوريين والاستناد إليهم كنواة لجيش سوري وطني مستقبلي، وفشل الإدارة الذاتية في تقديم نموذج يُحتذى به، ومع فشل مجموعة هياكل الحكم المحلية في غرب الفرات من تقديم نموذج حكم جيد يُمكن البناء عليه، وخاصة عجزه أمام عملية ترحيل السوريين من تركيا إلى تلك المناطق. أمام ذلك المشهد المركب والمعقد والفاقد للأمل، لا مبالغة في القول إن الأدبيات السياسية لتلك الأطراف والتي كانت تُمجد نفسها وسياساتها، وتصنع من ذواتها عمالقة وذوي أفكار ومقاصد في الإدارة والأمن والاقتصاد، كُلها فشلت. بل اتضح زيف ادعائها وخرافة مشاريعها ووعودها الفاقدة للأس المعرفي والواقعي والعملي، وما أنتجته من كوارث ومشكلات مجتمعية بدأت نتائجها بالظهور رويداً رويداً سواء على صعيد فقدان الشباب أو التعليم أو وضع المرأة، والتدمير المتواصل للزراعة والمناخ وفشل أيّ استشراف للمستقبل.

 أمام كل ذلك الفشل، جاءت لحظات عصيبة وحملت تفكير السوريين لما لا طاقة لعقولهم به، وهي قضية تطبيع بعض الدول العربية ذات الشأن والوزن في الملف السوري مع دمشق، وغياب الحديث عن مصير السوريين المعارضين في الداخل والخارج خاصة قضايا الأملاك والهويّة والعودة الآمنة ومستقبل سوريا السياسي والاجتماعي، لكن مع فشل ذلك التطبيع واستفحال العجز الاقتصادي وما الانحدار بسرعة خيالية لليرة السورية أمام الدولار سوى مؤشر واضح على ذلك، كُل ذلك ينبئ بانفجار مجتمعي وشيك. لذلك فإن الفرصة التاريخية تسنح من جديد لإمكانية إنقاذ الرمق الأخير وتوازنات اللحظة الحرجة، وهو ما يبدو غائباً حتّى الآن، وستستمر القوى المسيطرة بالنظر للآخر ومبادراته على أنها لحظة ضعف وحاجة، وتتناسى حجم الضعف والهوان الذي تعيشه، وأذاقته للمجتمعات المحلية الواقعة تحت سيطرتها.