تشهد مدينة حلب ركوداً غير مسبوق في صناعة الألبسة الجاهزة والصناعات النسيجية والأقمشة، إذ أجبرت الظروف الأمنية والاقتصادية المتردية، والواقع الذي تعيشه الصناعة الأكثر شهرة في المدينة، أعداداً كبيرة من أصحاب ورش الخياطة على الإغلاق، وبات الآلاف من الصناع المهرة والعاملين في القطاع من دون عمل، ما دفع معظمهم للتفكير بالسفر والخروج من حلب التي تعيش أسوأ حالاتها.
كانت مهنة الخياطة بجميع تفرعاتها (رجالي ونسائي وولادي)، بالإضافة إلى التطريز والصناعات النسيجية تحوز على قسم كبير من اليد العاملة في حلب قبل انطلاق الثورة السورية، وكانت الورش تتوزع على معظم أحياء المدينة، عدا المصانع والورش الكبيرة التي كانت متركزة في عدد من المناطق الصناعية، كالشيخ نجار والعرقوب والشقيف والقاطرجي، وكانت أسواق المدينة القديمة (الجلوم وساحة الحطب والسويقة والزهراوي) تستقبل كميات ضخمة من منتجات تلك الورش ليتم شحنها تباعاً إلى أسواق باقي المحافظات السورية، ويتم تصدير القسم الأكبر من الألبسة والمنتجات النسيجية إلى العراق ودول الخليج ودول عربية وأجنبية أخرى، وبخاصة الألبسة القطنية المصنعة محلياً وبجودة عالية.
انتقال الورش إلى حلب الغربية والعراق
وبعد انطلاق الثورة وسيطرة المعارضة السورية على أكثر من نصف المدينة في عام 2012، تغيرت خريطة توزع ورش صناعة الألبسة الجاهزة (ورش الخياطة) ومصانع النسيج، وانتقل معظمها إلى الأحياء الغربية ومناطق سيطرة "وحدات حماية الشعب" بحلب وفي منطقة عفرين شمالاً، وبعض الورش أغلقت أبوابها كلياً، بينما بقيت أعداد قليلة منها في مناطق المعارضة بحلب وبريفها (كمنطقة منبج)، وبقيت الصناعة محافظة إلى حد ما على تماسكها طوال السنوات الماضية وكان إنتاجها قليلاً نسبياً مقارنة بإنتاجها السابق، ويتم تصريفه في السوق المحلية وجزء صغير كان يصدر إلى بلدان مجاورة كالعراق، لكن ومع مطلع العام 2023 شهد القطاع انهياراً شبه كامل مع الهبوط الكبير في قيمة الليرة السورية، وضعف القدرة الشرائية لدى الناس، وارتفاع أسعار المواد الخام، وبسبب الضرائب والإتاوات التي يدفعها الصناعيون وأًصحاب الورش لقوات النظام والحواجز الأمنية.
يرى بسام صباغ (مالك ورشة تصنيع ألبسة قطنية بحي الأشرفية) بحلب، أن مهنة الخياطة وقطاع الألبسة الجاهزة بالعموم شهدا تدهوراً ملحوظاً خلال الأشهر القليلة الماضية، كما زادت أوضاع العاملين في هذا القطاع سوءاً، فضلاً عن ازدياد الصعوبات التي تواجه الشركات والورش الصغيرة والمتوسطة المصنعة للألبسة، سواء كان إنتاجها مخصصا للأسواق المحلية أو للتصدير.
وأرجع صباغ خلال حديثه لموقع تلفزيون سوريا، أسباب التدهور إلى "ارتفاع تكاليف الإنتاج، من أسعار الأقمشة والمواد الكيميائية في الطباعة والخيوط، وغياب المواد الخام المحلية كالقطن، وصعوبة استيراد الخيوط التي كان يأتي معظمها من تركيا، وهذا يتسبب في تقليل هامش الربح للشركات والورش المصنعة ويعرضها لضغوط مالية كبيرة"، وبحسب صباغ "وعدت الحكومة بعد السيطرة على الأحياء الشرقية في حلب نهاية العام 2016، بأن تعمل على إعادة إنعاش القطاع النسيجي في حلب والذي سيكون له دور في إنعاش قطاع الألبسة الجاهزة، ولكن الوعود لم تطبق، وبقي القطاع ينزف إلى وقتنا الراهن، ما ينذر بانهيار هذه الصناعة العريقة".
في شهر تشرين الأول/أكتوبر من عام 2019، افتتح وفد وزاري من حكومة دمشق في مدينة حلب، الدورة الـ57 من "مهرجان القطن"، بعرض فيلم قصير عن تاريخ المهرجان القطن وعروض فنية، وكلمات لمسؤولي النظام عن "تعافي القطاع". وكان مهرجان القطن قد توقف في عام 2011 بعدما كان يقام في حلب في تشرين الأول/أكتوبر من كل عام. وبدت النسخة 57 من المهرجان محاولة من النظام السوري للقول إن القطاع عاد إلى الحياة، وهي مزاعم غير واقعية، فالمشكلة أن استعادة النظام لـ"مهرجان القطن" في حلب، حدثت في ظل غياب شبه كامل للقطن في حلب، ما اضطر النظام حينها لاستيراد شاحنات قطن من مناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية (قسد) في الحسكة، لاستخدامها الدعائي في كرنفال مهرجان القطن بحلب. وتجدر الإشارة إلى أن فعاليات المهرجان قد ألغيت في الأعوام التالية لأن القطاع شبه مدمر والإنتاج قليل جداً.
ورشة الخياطة التي يملكها صباغ في حي الأشرفية كانت تؤمن مصدر دخل لنحو 50 عاملاً، ولأن إنتاج الموسم الصيفي بقي معظمه مكدساً في المستودعات بسبب ضعف القدرة الشرائية في السوق المحلية وصعوبة التصدير إلى الأسواق الخارجية، في أربيل والعراق وعدم استقرار أسعار الكلفة والشحن وطرق دفع ثمن البضائع بينهم وبين التجار، جميعها كانت سبباً في استغناء صباغ عن خدمات نصف عدد العمال، أي 25 عاملاً أصبحوا بلا عمل.
عبد الله بستاني (40 عاما) أحد الصناع المهرة بحلب، وذلك في مجال خياطة "المانطو" النسائي، وكانت ورش الخياطة تتسابق كي يعمل لديها بسبب خبرته وتصميماته الإبداعية، لكنه اليوم يفكر بالخروج من حلب إلى تركيا، ومنها نحو أوروبا بعدما تقطعت به السبل ولم تعد الأجور تكفي لسد احتياجات عائلته، فالأجور تتراوح بين 150/200 ألف ليرة سورية أسبوعياً (يعادل 16/17 دولاراً أميركياً) بعدما كان يحصل في عام 2010 على راتب 7 آلاف ليرة سورية أسبوعياً، أي ما يعادل 140 دولارا أميركيا في ذلك الوقت.
حلب.. العمال وأصحاب الورش يبحثون عن طريق للهجرة
ويضيف بستاني خلال حديثه لموقع تلفزيون سوريا أن"المهنة اليوم تحتضر بسبب الركود وتكديس المنتجات، والضرائب التي تفرضها حواجز الأمن والجيش على عمليات نقل البضائع والمواد الخام داخل وخارج المدينة، ليس العمال وحدهم المتضررون، فهناك زيادة مستمرة في أعداد أصحاب الورش الذين يبيعون معداتهم ويحاولون الخروج من المدينة نحو تركيا، أو أربيل شمال العراق". ويشير بستاني إلى أن " المعدات في ورش الخياطة التي تغلق أبوابها تباع اليوم بأسعار قليلة جداً، وقسم منها يهرب الى مناطق قسد والمعارضة شمال غربي سوريا (سعر ماكينة الدرزة مثلاً لا يتجاوز المليون ليرة سورية)".
وحول انخفاض الأجور، ومطالب العاملين في ورش الخياطة بتحسين رواتبهم الأسبوعية أو الشهرية، قال صاحب ورشة في حي الشعار (طلب عدم ذكر هويته) لموقع تلفزيون سوريا "إن أصحاب الورش متضررون بشكل كبير، واستمرار بعضهم بالعمل حتى اليوم لا يعني بالضرورة أنهم يجنون أرباحاً طائلة، أنا كصاحب ورشة أتمنى أن أعطي العامل 500 ألف ليرة أسبوعياً، وهو بالفعل يستحق، وهذا المبلغ بالكاد يكفي ليغطي مصاريف المعيشة، لكن واقع الحال لا يسمح بصرف رواتب عالية، فالبرغم من كوني صاحب ورشة فلا تتعدى أرباحي الأسبوعية راتب عامل من العمال إذا ما خصمت الأجور والتكاليف من طاقة وضرائب وتكاليف الإنتاج عامة.
شراء الألبسة الجاهزة بات حلماً لغالبية الحلبيين بسبب الارتفاع المهول في أسعارها، وربما بات شراؤها بالنسبة لأبناء الطبقة المتوسطة أيضاً في أوقات محددة (بين فصول السنة) فأسعار الألبسة ارتفعت عن العام الماضي ضعفين وثلاثة أضعاف، حتى وصل الجاكيت الشتوي بين 800 ألف والمليون ليرة سورية، والقميص الرجالي بين 150 و250 ألف ليرة سورية، والبدلة الرسمية يتراوح سعرها بين مليونين و3 ملايين، وطبعا الألبسة الرجالي هي الأرخص بالمقارنة مع النسائية والأطفال، فكسوة طفل للشتاء تزيد على مليون ليرة سورية، وهي أرقام لا تقوى عليها جيوب غالبية أهالي المدينة.
يعاني أهالي حلب كما باقي السوريين في باقي المحافظات من تحول في عاداتهم الاستهلاكية مع تراجع قدرتهم على شراء الملابس الجديدة وارتفاع الأسعار الباهظ، مع قلة الدخل للعمالة والموظفين الحكوميين نتيجة الاقتصاد المنهار، فالملابس وفق المنظور الاقتصادي المستجد تعتبر ثانوية أمام متطلبات المعيشة الأساسية من طعام وشراب وخدمات لا يمكن الاستغناء عنها، وفي المقابل يواصل قطاع خياطة الألبسة الجاهزة النزيف في ظل الانهيار الحاصل في الأسواق المحلية، وصعوبة تصريف الإنتاج نحو الخارج، ويسود اعتقاد بأن تختفي مهنة الخياطة بحلب في حال استمر الانهيار وغادر البلاد من تبقى من صناعيين وحرفيين.