"من مرحلة ما بعد الديمقراطية إلى مرحلة الديمقراطية الجديدة"، كتاب صدر حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة "ترجمان"، وهو من تأليف كلاوس فون بايمه وترجمة سيد فارس ومراجعة يوسف معوض، وجاء في 264 صفحة.
اكتسحت موجات متتالية من الديمقراطية العالمَ منذ القرن التاسع عشر حتى انهيار الاتحاد السوفياتي من دون أن تقارب منطقتنا العربية، وانتشرت موجات من التفاؤل إثر اندلاع انتفاضات "الربيع العربي" عام 2011 بتحول ديمقراطي يضرب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ثم تبدّد هذا التفاؤل سريعًا. ولا تزال الأصوات المطالبة بالديمقراطية تتعالى في أرجاء كثيرة من عالمنا العربي، على الرغم من انقشاع "وهج" انتشار الديمقراطية المعاصرة في بلدان العالم المتطور وكثرة الحديث لدى مفكريها عن "أزمة عميقة" بدأت تنتابها مع استمرار تمتّعها بسطوة كبيرة تتمثل فقط بالمعيار الأدنى للديمقراطية وهو الانتخابات الحرة بالاقتراع، في حين ظهرت مواجهة خفية بين الديمقراطية الليبرالية التي تقلص الإرادة الشعبية أو تبذلها بحرص، والديمقراطية الشعبوية التي تدعو إلى الصوت المباشر بلا واسطة.
وعلى الرغم من الاختلاف بين النظريات الديمقراطية المتعددة فإن بينها مقاييس جامعة لا معنى للديمقراطية بنقصان أحدها، وأهمها وأعلاها قيمةً مقياس "الحرية"، الذي يتحدد في الدول الغربية بـ "مؤشر الديمقراطية"، ووفقًا له يَظهر اليوم تحقُّق بعض معايير الديمقراطية وغياب أخرى في الدول المؤشَّر إليها، ما يدل على أن الاقتراب اللصيق للدول الصناعية غير المتحولة إلى الشيوعية من الديمقراطية انحصر في سنواتها الأولى فحسب، بتوفيرها أولًا تنمية اقتصادية ضخمة للمرة الأولى في تاريخ الرأسمالية، وثانيًا بهزيمةِ مناوئيها، كالحركات الفاشية والنازية، في حرب عالمية، بينما تكرّس هذه الدول اليوم تسوية بين المصالح التجارية والعاملين تقضي بامتناعهم عن أي احتجاج على التفاوتات التي يفرزها بقاء النموذج الرأسمالي مقابل قبول قيود معينة على استعمال "الدولة-الأمة" القوة والسلطة الممنوحتين لها متسلّحة بالقوة الاقتصادية للشركات.
بيد أن المشاركة السياسية الكثيفة التي سادت خلال السنوات الأولى لم تستمر مع استحواذ خيبة الأمل على الأفراد واستنكافهم عن المشاركة الديمقراطية، إثر انحدار "اقتصاد الخدمات" الذي بناه العمال الحرفيون وتراجُع نصيبهم من الدخل وظهور أزمات النفط والتضخم وإلغاء القيود على الأسواق المالية، وهي أمور بنى عليها فرانسيس فوكوياما نظريته القاضية بأنّ الجنس البشري بلغ في الديمقراطية الليبرالية قمة تطوره الاجتماعي.
وتحولت الديمقراطية المطبّقة بدورها هدفًا لسهام انتقادات الحركات الشعبوية والفوضويين، ولمّا كانت لا بد منها لأي حكم، ظهر ميل إلى تطبيقها في ظل نظام حكم فوضوي، وتعرضت الديمقراطية الليبرالية لهجوم عنيف من اليمين السياسي واليسار الماركسي بعد انهيار دوله اليسارية.
وفي الديمقراطية الليبرالية تبرز مشكلة إساءة الممثِّلين استعمال السلطة والقوة اللتين منحهما لهم الشعب، بدءًا من الفساد البسيط إلى قمع الخصوم، ولذا تعيَّن على الديمقراطية، لاستمرار عملها بوصفها نظامًا سياسيًا في المجتمعات المركّبة، اللجوء إلى هذه الخيارات: زيادة الناخبين، والتصدي لمشاركة الأشخاص الضعيفة بسبب سوء فهمهم العلاقة بين أصواتهم والنتائج المترتبة عليها، والسعي الجادّ لتخفيف حدة مشكلات الاقتران الحتمي للديمقراطية الحديثة بالاقتصاد الرأسمالي وخصوصًا بعد اقترانه بالعولمة، وأهمها خفض قيمة العمل لإتاحة الفرصة لسوق عمل عالمية، وأخيرًا التعامل مع الرأي العام الجديد تحت تأثير وسائط التواصل الاجتماعي، وغيرها.
ورغم أننا نشهد اليوم عصرًا أكثر ديمقراطية مقارنة بالنصف الأول من القرن العشرين، حين كان السياسيون يحظون بثقة لا يستحقونها - أما اليوم فهم يحظون بمراعاة واحترام أقل، والحكومات وأسرارها متاحان - فإن الديمقراطية الحديثة لا تزال في حاجة ماسة إلى ثقة المواطنين السياسية للحفاظ على استقرارها على المدى البعيد، خصوصًا مع ما نشهده من ظهور جيل غير سياسي بصورة متزايدة، وأحزاب سياسية فاقدة ثقة أغلبية المواطنين.
يساعد مصطلح "ما بعد الديمقراطية" على وصف مواقف الإحباط وخيبة الأمل التي أعقبت اللحظة الديمقراطية وواقعها المعاصر المأزوم، فقد صارت الشركات الكبرى في الدول القومية ذات قدرة تفوق كثيرًا قدرة الحكم، وانحسرت الهويات الاجتماعية الخاصة بالطبقة والدين التي شكّلت هويات الحزب الرئيسة في ديمقراطيات القرن العشرين، ما نقلنا إلى تحدي فكرة الحكم على الإطلاق: انهيار احترام الحكومة، والنظرة إلى السياسيين على أنهم يشبهون التجار الذين يسعون إلى تلبية ما يريده "عملاؤهم" على نحو يحقق لهم البقاء والاستمرار في تجارتهم.
بناءً عليه، تنحو "ما بعد الديمقراطية" منحى الحركات الشعبوية (غير المنضوية في الأحزاب القائمة)، وهو الشك والارتياب في السياسة، وهما يتموضعان معًا في مواجهة الديمقراطية، ما تسبّب في الفترة 2008-2018 في "الصعود العالمي للشعبوية" التي تطلب في معظمها ثقة الشعب المطلقة بالقائد وتميل إلى اعتبار ذاتها التجلي المتكامل والنهائي للديمقراطية، على نحوٍ يحوّلها إلى عدو واضح للديمقراطية.
أما الدول الضعيفة الواقعة ديمقراطيًّا في المنطقة الرمادية، فتعاني ثلاثة أنواع من الخلل: ضعف الاقتصاد، وهشاشة العلاقات الاجتماعية، والافتقار إلى مؤسسات فعالة ومستجيبة. وقد حُدد علاج مواطن الخلل هذه بقيام "دولة قوية" ثم إقامة الديمقراطية، ثم التنمية الاقتصادية. ومن المأمول أن تسهم أطروحات ما بعد الديمقراطية والديمقراطية الجديدة في مكافحة جرائم ترتكبها الدولة ضد الديمقراطية، وهي الأفعال الحكومية المدبّرة بقصد التلاعب بالعملية الديمقراطية وتقويض السيادة الشعبية.
يتناول الفصل الأول من الكتاب الجدل الدائر حول ما بعد الديمقراطية في الدوائر الأكاديمية الغربية انطلاقًا من اللبس بين مفهومين للديمقراطية هما "دستور النظام السياسي" و"ممارسة الإدارة"، مع الإشارة إلى النزعة التشاؤمية التي تسم أنصار "ما بعد الديمقراطية"، والاختلافات الشائعة بينهم لترويجها، وكيف استمرت النظم الديمقراطية الجديدة، رغم هفوات كثيرة وقعت، باستعمال مصطلح "ما بعد الديمقراطية".
ويقارب الفصل الثاني نقد السياسة في وسائل الإعلام القديمة التي اعتُبرت مقياسًا للديمقراطية لكنها بدأت مع العولمة تعاونًا وثيقًا مع الشركات الاقتصادية الكبرى بهدف الربحية، التي تحولت بديلًا من سلطة الصحافة الرابعة، وهي الإضاءة على المشكلات المجتمعية ومرتكبيها، وكيف نشأت فكرة "المواطنة الغاضبة الساخطة" بوصفها ثقافة احتجاج جديدة في الميديا الحديثة.
ويتطرق الفصل الثالث إلى الحديث عن الشعبوية وأفكارها وتعريفات المفكرين لها، والفشل في تحديد مفهوم خاص بها، كما يذكر قيامها على أكتاف نخبة مميزة قوّضت المشروع المساواتي الذي دعا إليه اليسار القديم، وشكلت تيارًا طبع ملامح "ما بعد الديمقراطية"، مستعرضًا الحركات والأحزاب الشعبوية، والتباين بين ممارساتها وممارسات الأحزاب الديمقراطية، ذاكرًا مساهماتها وإخفاقاتها، والأواصر التي تربط بين الشعبوية وسياسات ما بعد الديمقراطية.
أما الفصل الرابع، فقد تناول أطروحات إصلاح النظام الديمقراطي، كالإصلاح المالي والفدرالي والبرلماني والحزبي والمؤسسي والقانوني والضريبي والانتخابي والقضائي والفدرالي والتعليمي، والمقترحات التي قدمت لإصلاحه والتعامل مع انتقادات كتّاب ومفكرين معروفين.
وأخيرًا، يناقش الفصل الخامس معالم التحول من سياسات ما بعد الديمقراطية إلى الديمقراطية الجديدة، ويسلّط أضواء كاشفة على بعض النظريات المسلّطة على إصلاح الديمقراطيات، كنظريات العدالة الكلاسيكية، ونظرية "العدالة المثالية"، والنظريات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والنفعية، ونظريات العقد، والنظريات الكاثوليكية، والنظرية المضادة للعدالة التوزيعية، والنظرية المعيارية في السياسة، ونظرية الدولة والسيادة، ونظرية الاختيار العقلاني، ونظرية الألعاب، ونظرية "المجتمع المدني"، ونظرية "الديمقراطية التداولية"، ونظرية "المثالية الجديدة"، وغيرها.
يقارب هذا الكتاب أزمات النظام الديمقراطي، ومعالم التحول إلى سياسات ما بعد الديمقراطية، ويعرض طروحات إصلاح الديمقراطية الليبرالية، كتعديل القانون الانتخابي، وانتخاب الشعب قادته التنفيذيين، وتحديد مدة شغل المنصب بالنسبة إلى نواب البرلمان والوزراء، وإلغاء النظام الحزبي في الجماعات الحزبية البرلمانية، ومكافحة الفساد، وغير ذلك كثير، وهو ربما يساهم في إقالة عثرات النظام الديمقراطي خصوصًا في الدول الضعيفة.
لا بد في النهاية من تحفيز العلماء لتقديم بحوث إثنوغرافية متعمقة تعين مادة الكتاب، بقصد تشخيص مآزق التحول الديمقراطي ومشكلاته.