"قرن من الشعبوية: التاريخ والنظرية والنقد" كتابٌ صدر حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة "ترجمان"، وهو من تأليف بيير روزانفالون وترجمة محمد الرحموني ومراجعة جان جبور.
وينطلق الكتاب الذي جاء في 295 صفحة، من حرص مؤلفه على أن تُؤخذ الشعبوية على محمل الجد؛ فهي ليست ابتداعًا دكتاتوريًا، بل هي جزء من تاريخ الديمقراطية بوصفها مشروعًا دشّنته الحداثة؛ لذلك فإن لها نظرية وتاريخًا. نظريًا، ترتكز الشعبوية على جملة من المبادئ السياسية والاقتصادية والثقافية المترابطة والمتضافرة، تتلخص جملتها في القطيعة مع المفاهيم السوسيولوجية الشائعة عن الشعب، ومن ثم اعتباره كتلة واحدة في مواجهة الحكام المستبدين؛ وفي القطيعة مع الديمقراطية التمثيلية واستبدالها بالديمقراطية الآنية والمباشرة (الاستفتاء) وبزعيم يجسّد الشعب (الرجل الأُمة)؛ وفي سياسة حمائية تحمي الاقتصاد والمجتمع من شرور العولمة الاقتصادية ومن المهاجرين.
أما تاريخيًا، فقد شكّلت أميركا اللاتينية منذ النصف الأول من القرن العشرين "بؤرة" الشعبوية ومخبرها، رغم أن الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وفرنسا قد عرفت "ممارسات" شعبوية قبل ذلك بكثير. ولمّا كانت الشعبوية محاولة لتجاوز أعطاب الديمقراطية، فقد أخضعها المؤلف للتشريح والنقد مبيّنًا خطورتها وعبثية المبادئ التي تحملها، واقترح حلولًا بديلة أكثر واقعية ونجاعة تتلخص في ما سمّاه "الديمقراطية المطّردة".
تشريح الشعبوية
تحاول الحركات الشعبوية أن تجعلِ من عملية استحضار الشعب الواحد الذي جرى تغييبه أمرًا ملموسًا. إنه المرجعية التي لم تكن في ما سبق سوى "مدلول مُلتَبس" أو ربما هو "مدلول بلا دلالة"، حسب إرنستو لاكلو. إنّ هذه الطريقة في "بناء الشعب" تطرح الكثير من الأسئلة، ولها الفضل في التقليص من حدةّ الشرخ بين الشعب باعتباره جسمًا مدنيًّا والشعب المجتمع، أو على الأقل التقليص من حدة التوتر بينهما.
يتطابق هذان الشعبان مع عملية جمع الحكومات ومختلف أنواع النخب والأوليغارشيا في صنف واحد، كأن تُعتَبر مثلًا كلّها طائفةً. وبهذا فإنّ عملية تنشيط الديمقراطية وتحسين ظروف العيش يرتبطان في المنظور الشعبوي بالعزل المتزامن لهذه المجموعة الصغيرة المتكتلة والمعادية للشعب، وبذلك يتداخل النضال الاجتماعي والمواجهة السياسية، وهذا سرّ قوة هذه الرؤية الشعبوية.
التصوّر الشعبوي للديمقراطية له ثلاث خصائص؛ إذ يسعى في المقام الأول لإعطاء الأولوية للديمقراطية المباشرة، وذلك بالدعوة خاصة إلى تكثيف الاستفتاءات التي تكون بمبادرة شعبية. وفي المقام الثاني يدافع عن مشروعٍ لإرساء ديمقراطية استقطابية منتقدًا الطابع غير الديمقراطي للهيئات غير المنتخبة وللمحاكم الدستورية. وأخيرًا يشيد بالتعبير الشعبي الآني والعفوي.
الشعبوية تعلي من شأن الشعب الواحد وتعزز هذا الإعلاء بعدائها للنخب وللأوليغارشيات، من هنا نفهم رفض الشعبويين للحزب بصفته شكلًا تنظيميًا؛ إذ يجري تشبيهه بالأجهزة المنفصلة عن الواقع وبماكينات بيع الكلام. من هنا نفهم اختيار الشعبويين نوعًا مختلفًا من التنظُّم السياسي هو الحراك. وعلاوة على ادعائهم أنهم يضخون دماء جديدة في الحياة العامة، فإنّ الحركات الشعبوية تتميز من الأحزاب تميزًا بنيويًّا؛ ففي حين يكون القصد من تأسيس الأحزاب أن تكون تعبيرًا منظّمًا عن مجموعات مخصوصة اجتماعيًّا أو مناطقيًّا أو أيديولوجيًّا، فإنّ الحراك يزعم أنّه يجمّع كلّ المجتمع.
ومع ذلك، فإنّ هذا الخطاب الاتهامي لا يكفي لسدّ الخلل التمثيلي الذي يسم الديمقراطيات المعاصرة. ومن هنا برز دور القائد ليجعل هذا الخطاب منسجمًا وذا دلالة. جسّدت الشعبوية الأميركية اللاتينية منذ أواسط القرن العشرين هذا البعد المكوِّن للشعبويات الراهنة أيّما تجسيد. والأمر ليس مستغربًا فقد ظهرت هذه الشعبوية في بلدان قليلة التصنيع، ولم تكن مجتمعاتها مهيكلة في طبقات ولا هي عرفت أشكالًا من الإقطاعيات الزراعية والأوليغارشية، ولذلك فإنّ التعارض بين الشعب والنخبة هو أكثر التعارضات وضوحًا لدى عدد كبير من المواطنين، وفي هذا السياق برزت موضوعة الرجل الأمة.
تاريخ الشعبوية
هل للشعبوية تاريخ؟ إذا كانت الإجابة عن هذا السؤال العام جدًّا بنعم؛ وجب في الحال التوضيح أن هناك ثلاث طرائق مختلفة لفهم هذا التاريخ. يمكننا البدء بالتأريخ لكلمة "شعبوية"، فقد ظهرت في ثلاثة سياقات مختلفة لا رابط بينها؛ ولا علاقة لها إلا قليلًا بما تعنيه الكلمة اليوم. يتعلق الأمر بدايةً بالشعبوية الروسية في الفترة 1870 1880-التي تجسدت في حركة من المثقفين والشبّان المتحدرين من الطبقات الميسورة والأرستقراطية، نقدت مشاريع تحديث البلاد على الطريقة الغربية، وأطلقت مشروعًا "للالتحام بالشعب" كما يقول أعضاؤها. كان أتباع هذه الحركة يرون في تقاليد المجتمع الزراعي والتجمعات القروية الأساس الذي قد ينطلقون منه لبناء مجتمع جديد، كانوا يعتقدون أنّ الفلاحين في روسيا سيشكلون قوة تجديد مماثلة لتلك التي كان الغرب ينتظرها آنذاك من البروليتاريا. تعلّق الأمر بما يمكننا تسميته "شعبوية النخبة" التي لم تحشد قطّ الجماهير الشعبية ذاتها، ولكن هذه الحركة تركت أثرًا لافتًا؛ إذ إنّ بعض أقطاب الفوضوية والماركسية الروسية قد خطوا خطواتهم الأولى في رحابها.
بعد عقد من الزمن ظهر في أميركا "حزب الشعب" الذي لُقّب مؤيدوه بالشعبويين، وقد عمد الحزب إلى تحشيد صغار الفلاحين في السهول الكبرى ضدّ شركات سكك الحديد والبنوك التي كانوا مدينين لها.
وظهرت الكلمة في فرنسا في عام 1929 في سياق مختلف لا علاقة له بالسياقين التاريخيين المذكورين، وقد شكّل "بيان الرواية الشعبوية الذي نُشر آنذاك موقفًا أدبيًّا خالصًا ذا توجُّه طبيعاني؛ إذ دعا الروائيون الفرنسيون إلى الإكثار من اتخاذ الأوساط الشعبية مادة لأعمالهم على طريقة المذهب الطبيعاني.
لم تتفاعل هذه المراحل التاريخية الثلاث المتوازية في ما بينها، وعلى عكس ما يوحي به بعض المصادر الضعيفة، لا تتوافر للمراحل المذكورة خصائص تُعتبر بمقتضاها تأسيسًا للظواهر الشعبوية المعاصرة.
هناك طريقة ثانية للتأريخ للشعبوية تساعد على فهم الشعبوية المعاصرة بعمق وأهمية كبيرين، يتعلق الأمر بتاريخ الفترات أو الأنظمة الشعبوية التي، وإن لم تتبنَ التسمية مباشرة، فإنها تعزز فهمنا لديناميكية المكونات الأساسية للشعبوية وتعكس انشغالاتنا الراهنة. اصطفينا من هذا التاريخ ثلاث فترات؛ الأولى تاريخ الإمبراطورية الفرنسية الثانية، ويمثل الفترة الثانية المخبر الأميركي اللاتيني في منتصف القرن التاسع عشر، والثالثة تمثّل الفترة 1890-1914، ويفيدنا الوقوف على هذه الفترة التاريخية في رصد ظروف الظهور القوي للأطروحات الشعبوية في زمن العولمة الأولى في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. كما يفيدنا في تسليط الضوء على شروط إعادة تعريف المشهد السياسي بعيدًا من التقسيم التقليدي يمين/ يسار، وفهم طريقة إيقاف موجة الشعبوية في ذلك العصر.
إنّ عرضًا تاريخيًّا إجماليًّا وشاملًا للشعبوية من شأنه أن يرسم مقاربة ثالثة يمكننا نعتها بالمقاربة الاجتماعية المفهومية. إنها مقاربة ترمي إلى تعميق فهمنا للحاضر بالنظر في الماضي باعتباره سجلًا للإمكانات المهدورة ومخبرًا للتجارب الحاثّة على التفكير في الإخفاقات والانتكاسات والتخبطات. إنّ الأمر يتعلق بالتاريخ الطويل للديمقراطية باعتبارها مفهومًا إشكاليًّا، ولا يتعلق بتاريخ مثالٍ نموذجي ندرس ظهوره وتطوّره منتظرين اكتماله يومًا ما.
في هذا السياق نعرّف الشعبوية بأنّها الحدّ الأقصى للمشروع الديمقراطي، يُضاف إلى شكلين آخرين؛ هما الديمقراطيات الدنيا (أي الديمقراطية التي اختُزلت في حقوق الإنسان وانتخاب القادة)، والديمقراطيات الجوهرانية (التي تتحدد بإرساء سلطة اجتماعية مهمتها تحقيق الخير).
في نقد الشعبوية
تكمن المشكلة في حصر الديمقراطية في الانتخابات مع ما يفرضه ذلك من اختزال الشعب في إطار ما تفرزه عملية احتساب الأصوات ذات الطابع المؤقت، ومع ما يترتب على ذلك من إنهاك للنظام القضائي، وهذا هو تنشيط الاستقطاب الملازم للشعبوية. وإن ما يميّز الأنظمة الشعبوية هو الحزم في إرساء هذه الديمقراطية الاستقطابية وفق طرائق مختلفة؛ منها: اعتماد آليات للزعزعة المباشرة للمؤسسات، واستراتيجيات تؤول إلى إفقادها تدريجيًا دورَها الحيوي.
إن ما يميز مختلف الأنظمة الشعبوية كذلك هو تسييس مرافق الدولة؛ إذ يُطرد الموظفون المناوئون للسلطة القائمة بطرائق شتى، ويحلّ موظفون موالون محلَّهم. وعلى هذا الأساس، فإنّ تسييس الوظيفة العمومية وفرْضَ الطابع الاستقطابي على المؤسسات أمران مترابطان لا هدف لهما سوى وضع جميع السلطات بين أيدي السلطة التنفيذية حتى تتحكم في السلطة التشريعية. إضافةً إلى فرض هذه الأنظمة الطابعَ الاستقطابي على بنى الدولة، فقد عمدت إلى ترتيب عملية السيطرة على الإعلام بطرائق شتى، وقد أدّى هذا الوضع إلى هيمنة صحافة السلطة على الفضاء العام وازدياد تأثيرها في الرأي العام، رغم عدم وجود رقابة بالمعنى القانوني للكلمة.
لا يكتفي الزعماء الشعبويون بالدفاع عن آرائهم ومشاريعهم، بل يقدمون أنفسهم على أنهم الحماة المتحمسون للحقيقة التي يدنّسها معارضوهم بأكاذيبهم. وبهذا يُدرَج صراع المصالح ضمن ما يوصف بأنه الصراع الحاسم حقًّا، صراع الحقيقة والكذب الذي يرسم حدًّا فاصلًا بين وجهات النظر. وبهذه الطريقة، تتوارى الوقائع والحجج خلف ما يُعتبر عقيدة تنتظم وفقها الأحكام، وهو ما يصعّب أيَ تفاعل عقلاني بين وجهات النظر المختلفة، وبهذه الكيفية تنمو تدريجيًا ظاهرة التشدّد الجذري للصراعات الاستقطابية في زمن الشعبويات.
وبصرف النظر عن الوقائع، فإنّ ادعاء هذه الأنظمة أنها تجسّد الخير هو مجرد قناع تختبئ وراءه لتسويغ أفعالها وتنكّبها عن دولة القانون، وهي بذلك تنقض ما يشكِّل جوهر الديمقراطية باعتبارها نمطًا من الاجتماع السياسي المنفتح والتعددي.