icon
التغطية الحية

من دير الزور إلى الأراضي الهولندية.. هل نجا الستيني أبو راشد؟

2024.07.29 | 14:04 دمشق

آخر تحديث: 29.07.2024 | 14:57 دمشق

بابا
من دير الزور إلى الأراضي الهولندية.. هل نجا الستيني أبو راشد؟
+A
حجم الخط
-A

ينحدر أبو راشد، 65 عاماً، من دير الزور وتحديداً من مدينة موحسن. كان يعمل موظفاً في دائرة حكومية قبل اندلاع الثورة. التقيت به في مخيم للاجئين في هولندا، ليروي لي تفاصيل رحلة الموت العسيرة التي خاضها، مؤكداً أنه لم يرد يوماً الابتعاد عن سوريا، لكن الظروف الصعبة أجبرته على الابتعاد كثيراً منذ أن غادر نحو الأراضي الحدودية التركية صيف 2015.

يقول بلهجته الفراتية المحبّبة: "ألبسني المهرّب "شورتاً" قصيراً وبرنيطة ووضع لي سماعات من طراز حديث، لكي أنجح في الطيران من المرة الأولى من أثينا تجاه روما، بعد رحلة برية صعبة من تركيا. بدوت سائحاً إسبانياً أو إيطالياً بعمر التقاعد، شعري أبيض وشكلي مألوف، أعرف أنني وسيم واللباس العصري يليق بي".

يتحدث العم أبو راشد بعض الإنجليزية، وحاصل على شهادة البكالوريا. تطغى الطرافة على حديثه رغم مأساوية قصته، يقول لـ "تلفزيون سوريا": "بالفعل نجحت في المحاولة الأولى وكان من المفترض أن أسافر من روما إلى هولندا في اليوم ذاته، لكن بعد هبوط الطائرة في إيطاليا حاولت الاتصال بالمهرّب مراراً لأعرف الخطوة التالية، لكنه لم يجب، كان عليّ أن أخرج من المطار وأؤمن مبيتاً".

بالفعل، خرج العم أبو راشد من المطار باحثاً عن ملجأ يؤويه في تلك الليلة المشؤومة، ليلتقي بصاحب فندق باكستاني طلب منه 80 يورو لينام تلك الليلة، بعد أن أمره بترديد عبارة "لا إله إلا الله محمد رسول الله". لم يكن لدى العم سوى 50 يورو، ما دعاه لتأجيل الدفع إلى حين تسجيل الخروج في اليوم التالي، وافق صاحب الفندق.

يستغل المهرّبون عادةً رغبة اللاجئين بالهروب من اليونان خوفاً من تأخّرهم أو احتجازهم فيها، فضلاً عن التكاليف الصعبة التي ترهقهم في حال تأخر السفر. تُقدّر أعداد اللاجئين السوريين العالقين في اليونان بالآلاف، ويعيشون ظروفاً مأساوية بعد نفاد أموالهم وعدم قدرتهم على إكمال رحلة اللجوء. فإما يضطرون إلى تقديم اللجوء في اليونان، وما تحمله هذه الخطوة من انتظار وترقّب، أو يجبرون على العيش بشكل غير قانوني بمفردهم وتحمل نفقات مرتفعة ريثما ينجحون في العبور إلى بلاد اللجوء المبتغاة.

أما تجار الأزمات في بلدان العبور "إيطاليا واليونان" فيعرفون أن لديهم فرصة ذهبية لنهب اللاجئين الواصلين مستغلين مخاوفهم بعد رحلة مضنية، لذا فإن أي حوالات مالية أو تأمين سكن أو ما شابه يتم تقديمها بأسعار فلكية، وفي كثير من الأحيان بشروط تستغل ضعفهم ويأسهم. ويستخدم هؤلاء التجار الوضع الهش للاجئين لتحقيق أرباح غير مشروعة، معززين بذلك دورة الاستغلال التي تبدأ منذ اليوم الأول لتسلّل الحدود.

طلب غريب لنوم ليلة

ركب أبو راشد حافلة عامة وغادر مطار روما دون أن يعرف مقصده. يروي كيف وجد نفسه في تلك الليلة وجهاً لوجه مع الكلاب وسيارات الشرطة التي تتجول في كل مكان بعد منتصف الليل، يقول: "أخاف من الكلاب، لكن في تلك الليلة كنت خائفاً من الشرطة أكثر"، ويردف مبتسماً: "كنت أخشى أن يتم إلقاء القبض عليّ وإجباري على تقديم اللجوء في إيطاليا، لذا وافقت دون تردد على عرض صاحب النزل الباكستاني. كان هدفي الأول أن أتوارى عن الأنظار، والثاني أن أنام، ثم لم لا أوافق؟ الرجل مسلم وتبادلنا الشهادتين، يريد 80 يورو ليقبل استضافتي في هذا الظرف، لم لا أوافق؟ فقد كان الأمر بمثابة فرصة للنجاة".

ومع أن الظروف كانت صعبة، فإنني شعرت بنوع من الطمأنينة وأنا أسير خلف صاحب النزل الذي أشار إليّ أن أتبعه إلى غرفة في الطابق الثاني. الغرفة كانت متواضعة لكنها نظيفة ومرتبة، وقد أتاحت لي الفرصة لألتقط أنفاسي بعد ليلة متوترة. استلقيت على السرير، أغمضت عيني، وسرعان ما غلبني النوم مع أن أصوات السيارات وهدير الشرطة لم تفارق أذني. كان النوم متقطعاً، لكنه كان كفيلاً بأن يجدد نشاطي ويعيد ترتيب أفكاري لمواجهة ما يأتي من تحديات.

كيف بدأت رحلته؟

في موحسن، حيث كانت الحياة تسير بوتيرة معتادة وسط عائلته وأصدقائه، كان أبو راشد مركز عائلته وكبيرهم، يعود له الكل بكل صغيرة وكبيرة. لكن مع اندلاع الثورة السورية، بات يشعر أنه فقد الحكمة وصار يتخذ قرارات خاطئة، فهو نادم على كل لحظة أخرّ فيها رحلته إلى أوروبا.

اضطر أبو راشد في 2015 لمغادرة دير الزور، لكنه رفض الابتعاد كثيراً عن سوريا، متمسكاً بخيط الأمل في العودة. اختار مدينة أورفا التركية، القريبة من الحدود، ليكون على مقربة من الوطن. حاول أن يشحذ روح الأمل دوماً بين أفراد أسرته، مؤكداً لهم أن العودة إلى ديارهم قريبة. ولكن الشهور السبعة التي قضاها في المخيم الحدودي لم تجلب سوى الخيبات، مما دفعه في نهاية المطاف لاستئجار منزل في تركيا حيث استقر لسنوات.

لم تكن الحياة في تركيا كما تمناها أبو راشد لأسرته. تزايدت الصعوبات وتفاقمت الظروف القاهرة، مما دفعه لاتخاذ قرار مصيري بالهجرة نحو أوروبا. وبعد انتظار متعب وشاق خلال إجراءات اللجوء في هولندا، اختلطت عليه المعاني، ولم يعد يدرك أي العبارات أدق: النجاة غرقاً أم الغرق في العبور.

الندم كرفاهية

حكاية أبو راشد هي واحدة من العديد من القصص التي تشهد على المعاناة الإنسانية لملايين السوريين الذين وجدوا أنفسهم دون أرض ينتمون لها. فما الذي يجبر شخصاً مسناً على خوض رحلة كهذه؟!

يجيب أبو راشد أنه نادم، ولكنه لا يملك حتى رفاهية الندم، فهو الآن بحالة صحية سيئة. أصيب منذ أيام بضيق شديد في التنفس، شكّ الأطباء أنه يعاني من انسداد شرياني، لكن لحسن الحظ لم يكن الأمر كذلك، كان فقط تعباً عارضاً وربما كان شعوراً عميقاً بالوحدة والحنين انعكس على صحته. فهو يعيش في الكامب منذ نحو سنتين، ولم تحضر عائلته بعد، وربما تتأخر إجراءات لم الشمل كثيراً بعد قرارات جديدة أصدرتها إدارة الهجرة الهولندية، تقضي بزيادة أمد الانتظار سواء للحصول على الإقامة أو لم الشمل، من ستة أشهر إلى ما يقرب من السنتين لكل إجراء، ما يعني أن بدء حياة جديدة قد يستغرق نحو 4 سنوات. وقد تم تطبيق القرارات بأثر رجعي. أبو راشد غير متأكد إن كانت ستسعفه صحته لحين قدوم العائلة.

فيما يؤكد شبان من المخيم ذاته أن الحياة باتت مرهقة جداً مع الانتظار، زوجاتهم طلبن الطلاق وبالفعل تم تسجيل أكثر من حالة طلاق بين عدد من السوريين. يشير آخر إلى أن دائرة الهجرة تستقبل طلب إلغاء لمّ الشمل للزوجات اللاتي تطلقن بكل رحابة صدر، ولا تسأل المنظمة المسؤولة عن المعاملة عن سبب تقديم الإلغاء، بل تضعه على "السيستم" فوراً وتجري معالجته في اليوم ذاته.