icon
التغطية الحية

من بوابة معرض الكتاب.. الجولاني يطرح خطاباً مذهبياً لاستعادة السيطرة السياسية

2024.09.21 | 07:15 دمشق

آخر تحديث: 21.09.2024 | 07:18 دمشق

الجولاني في معرض الكتاب - إكس
الجولاني في معرض الكتاب - إكس
 تلفزيون سوريا ـ خاص
+A
حجم الخط
-A

في خضم التحولات السياسية وتبدل مواقف الدول تجاه القضية السورية، واستمرار غياب المشروع الوطني الجامع، تعود هيئة تحرير الشام لتطرح فكرة إقامة كيان سني في إدلب، مستغلةً الأحداث والفرص لتقدم نفسها كممثل سياسي وعسكري لأهل السنة في سوريا.

هذه الفكرة ليست وليدة اللحظة؛ إذ طرحها أبو محمد الجولاني في تموز عام 2016 عندما أعلن إلغاء العمل باسم "جبهة النصرة" وتشكيل "جبهة فتح الشام". في ذلك الوقت، دعا الفصائل العسكرية إلى التوحد وإنشاء كيان موحد يمثل أهل السنة ويدافع عنهم عسكرياً وسياسياً.

لم تكن هذه الدعوة عابرة، بل كانت بدايةً لطريق طويل حاولت فيه هيئة تحرير الشام الترويج لهذه الفكرة وتقديم نفسها كممثل شرعي لأهل السنة في سوريا، عبر إعلاميين ومنظّرين مقربين منها.

وبعد سنوات، كرر الجولاني هذه الدعوة، إذ صوّر في كلمة ألقاها أمام "حكومة الإنقاذ" في 15 تموز 2022 المشروع في الشمال السوري على أنه يتجاوز فكرة الثورة ليصبح بناء كيان سنّي يواجه الخطر الوجودي على أهل السنة في سوريا.

وحينئذ، لعب الجولاني على وتر المظلومية لكسب التأييد الشعبي، إذ قال إن أهل السنة في سوريا يتعرضون لخطر وجودي بسبب سياسة النظام في التهجير وتغيير التركيبة الديمغرافية عبر تجنيس الإيرانيين واللبنانيين من الشيعة. وشدّد على أن فكرة الثورة ليست محصورة في الجانب العسكري، بالرغم من أهميته لحماية المنطقة، بل يجب أن تشمل بناء مجتمع وكيان إسلامي يحافظ على هوية الشعب وتراثه.

وبعد أن بدأت الهيئة بتقديم نفسها كفصيل محلي معتدل يقتصر نشاطه على داخل سوريا، وتخليها عن صفة الجهادية العابرة للحدود، شرعت بطرح مشاريعها من خلال الفعاليات التي تقيمها في إدلب، وكان آخرها معرض الكتاب، الذي كان مناسبة لتقديم رؤية حول ضرورة إقامة كيان سني في المنطقة.

وهناك، ظهر الإعلامي المقرب من الهيئة، أحمد موفق زيدان، في ندوة ليعزز هذا الطرح عبر نقاشه حول هوية سوريا المستحيلة التشكّل، والإشارة إلى أن الهويات الوطنية فُرضت عبر اتفاقية سايكس بيكو، وإلى محاولات النظام السوري تدمير الهوية السورية واستبدالها بهوية طائفية، كما حاول زيدان من خلال حديثه إضفاء شرعية على خطاب الكيان السني، معتبراً إياه خطاباً مؤقتاً فرضته الظروف المحيطة من أجل "شد عصب أبناء الشعب السوري للحفاظ على أنفسهم".

التنظيم الضخم لمعرض الكتاب والمبالغة في الاحتفاء بالحدث كانا إشارة واضحة إلى نوايا أعمق، وأن هذا الترويج والجهود ليست لمجرد تنظيم فعالية ثقافية، بل كانت مناسبة لتوجيه رسائل، أولها للخارج من خلال تقديم صورة مختلفة عن الهيئة وإبراز الجانب الإداري والتطور في إدلب، وثانيها للداخل مفادها أن تحرير الشام لم تتأثر بالخلافات الداخلية وبالاحتجاجات الشعبية ضدها. 

غطاء ديني لتحصيل مكسب سياسي

تصرّ تحرير الشام على هذا الطرح، بالرغم من أنه يعزز الانقسام بين المكونات السورية، ويدفع بفكرة التقسيم إلى الواجهة، وربما يكون داعماً غير مباشر للمشاريع الانفصالية في سوريا، التي تتعارض مع جوهر الثورة السورية، التي قامت لرفع الظلم عن كافة الشعب السوري وإقامة دولة تكفل حقوق السوريين بمختلف معتقداتهم وقومياتهم.

وحول أسباب تمسّك الهيئة بهذه الفكرة، يقول مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة في "مركز الحوار السوري"، أحمد قربي، إن السبب الرئيسي لذلك هو أن كل فصيل أو تنظيم لا بد له من أيديولوجية قادرة على التحشيد، على سبيل المثال: نرى أن "حزب الله" يسخّر أيديولوجيته بحسب السياق؛ فعندما يتعلق الأمر بلبنان، يكون التبرير "المقاومة لتحرير الأراضي المحتلة"، وعندما يتعلق الأمر بفلسطين، يكون التبرير "تحرير القدس"، وعندما يكون الأمر مرتبطاً بمساندة نظام الأسد، يكون التبرير التصدي للتكفيريين أو "أحفاد يزيد" بتعبير خامنئي.

وفي حالة هيئة تحرير الشام، في بداية دخولها سوريا باسم "جبهة النصرة"، كانت تستند إلى فكرة "الدفاع عن أهل الشام". وعندما فقدت هذه الفكرة بريقها، تحولت إلى فكرة "تحكيم الشريعة"، وحالياً بعد فقدان هذه الفكرة بريقها، كان لا بد لها من فكرة جديدة قادرة على التحشيد، وربما وجدتها في فكرة "الكيان السني"، بحسب قربي.

وأضاف قربي في حديث لموقع تلفزيون سوريا: "اليوم، بعد تراجع العمليات العسكرية وتولي تركيا مهمة حماية المنطقة من خلال التوافق مع روسيا، باتت تُطرح تساؤلات عن دور هيئة تحرير الشام، خاصةً أن حضورها الأكبر بات يرتبط بالحكم أكثر من الحرب".

ويرى قربي أن هذه الفكرة أتت لتعطي مبرراً لتحرير الشام بأنها بهذا القالب هي الجهة الأفضل والأنسب لحكم هذا الكيان وحمايته، وبالتالي تبرير وجودها وتعزيز شرعيتها.

ويتوقع محدثنا أن لدى تحرير الشام، خاصة بعض الشخصيات المنظرة، اعتقاداً بأن عدم استخدام العصبية "الطائفية" سيضعف حضورها وشرعيتها، خصوصاً أن عدم استخدام هذه العصبية من قبل الإخوان المسلمين، بحسب بعض الباحثين الغربيين في أحداث الثمانينيات من القرن الماضي، هو أحد أسباب فشلهم. خصوصاً وأن حافظ الأسد لعب على الوتر الطائفي وشد عصب الطائفة العلوية، على عكس الإخوان الذين لم يستطيعوا حشد الأكثرية "السنية". وبالتالي، قد يكون طرح هذه الفكرة سببه وجود رغبة لدى الجولاني في شد عصب السنة لتعزيز شرعية كيانه واعتبار أن وجوده حامٍ لهم.

أهداف تحرير الشام من الكيان السني

يجمع العديد من المراقبين على أن تحرير الشام توظّف الدين لتعزيز نفوذها عبر خلق تماسك طائفي يدعم أجندتها السياسية، كما تحاول استعادة الدعم الشعبي وتعزيز موقفها كممثل للإسلام في مواجهة الأيديولوجيات الأخرى، مثل العلمانية والليبرالية.

وفي هذا الإطار، يقول الكاتب حسن النيفي إن مصطلح الكيان السني يُراد منه الحشد للاصطفاف الطائفي بغية دعم التوجّه السياسي، فمن المعروف أن الجماعات المتطرفة تعتمد مشاريع سياسية عابرة للوطنية، معتمدةً على استغلال الشعور الديني لدى عامة المسلمين.

وفي إدلب، اعتبر النيفي في حديث لموقع تلفزيون سوريا أن تحرير الشام تحاول الترويج لهذا المصطلح بهدف استثمار العاطفة الدينية لكسب المزيد من الحاضنة الشعبية، خاصةً بعد الأزمة العاصفة التي مرّت بها، سواء على المستوى الداخلي والصراع بين أجنحة وتيارات، أو على مستوى المطالب الشعبية التي تنادي برحيل الجولاني ورفع سطوته.

وبحسب النيفي، فإن الهيئة تريد من وراء ذلك:  

  •  توظيف العبارات الدينية من أجل الشحن الأيديولوجي، وبالتالي إبعاد الناس عن اللجوء إلى المطالب والاحتجاجات.  
  •  استعادة الحاضنة الشعبية التي بدأت تتلاشى في الآونة الأخيرة.  
  •  الإيحاء إلى معظم السكان المسلمين بأن هيئة تحرير الشام هي الحامل الحقيقي للمشروع الإسلامي في مواجهة المشاريع الأخرى، العلمانية أو الليبرالية أو سواها.

من جانبه، يتوقع الباحث أحمد قربي أن يكون هذا الطرح مرتبطاً بالسياق القائم حالياً، إذ إن سوريا مقسمة بحكم الأمر الواقع، وكل منطقة تحاول بناء نموذج قد يستمر في المستقبل. وجزء من بناء الشرعية يقوم على طرح أفكار بديلة يمكن بالفعل أن تمثل حاضنة أو أيديولوجية فكرية لشرعنة هذه الكيانات، بشكل مشابه لما يحدث في شمال شرقي سوريا التي تطرح فكرة "روج آفا"، وكذلك بالنسبة إلى نظام الأسد الذي طرح فكرة "سوريا المفيدة" و"المجتمع المتجانس". وبدورها، تطرح تحرير الشام فكرة "الكيان السني".

الكيان السني في إدلب من وجهة نظر شرعية 

أصدر المجلس الإسلامي السوري بياناً حذّر فيه من خطورة استخدام مصطلح "الكيان السني" في سوريا، وخاصةً في إدلب، واعتبر أن هذا المفهوم ينطوي على ظلم كبير للمسلمين، ويساهم في تأسيس كيانات على أسس طائفية، مثل الكيان الكردي أو العلوي أو الدرزي، مما يهدد وحدة البلاد واستقرارها.

وعن أسباب رفض المجلس الإسلامي لهذا المصطلح، قال المتحدث باسم المجلس، مطيع البطين، إن الثورة السورية قامت لأهداف واضحة، وأن السوريين أصدروا خلال السنوات وثائق تؤكد على وحدة الأراضي السورية.

وأضاف: "التأسيس لهذه المصطلحات على أساس قومي أو طائفي يدخل البلاد في مرحلة خطيرة جداً، خصوصاً في ظل رواج العديد من المصطلحات كالتي أطلقها المرشد الإيراني الأعلى مؤخراً، مثل 'جبهة يزيدية وجبهة حسينية'، و'سوريا المفيدة'، وكذلك مساعي حزب العمال الكردستاني إلى الانفصال شمال شرقي سوريا".

وأشار البطين في حديث لتلفزيون سوريا إلى أن هناك محاولات لفرض أمر واقع، مشدداً على أن المجلس الإسلامي ضد فرض هذا الواقع وتقسيم سوريا، فضلاً عن رفضه القاطع للتقسيم الذي يقوم على أسس إثنية أو طائفية، والذي يؤسس لمرحلة صراع أعمق.

ووفق البطين، فإن الهوية تشمل جميع السوريين ولا يحافظ عليها لون واحد من ألوان المجتمع. وبدلاً من أن يخلق كل فريق هوية، يجب الحديث عن هوية جامعة، مضيفاً أنه لا يمكن أن ينجو السوريون "ما لم يكن هناك خطاب لرجال كبار يتجاوزون كل ألوان الهوية الخطرة".

وحمّل البطين النظام وإيران مسؤولية العدوان على الهوية السورية، مشدداً على أن السوريين مطالبون بالاجتماع بكل مكوناتهم وألوانهم، وطرح خطاب جامع تكون فيه شراكة حقيقية وعيش كريم للجميع، ويتم فيه الابتعاد عن كل ألوان المحاصصة.

من جانبه، قال الشرعي المقرب من هيئة تحرير الشام، أيمن هاروش، إن مصطلح "الكيان السني" يُقصد به وجود مشروع سياسي يقوم عليه أناس هويتهم سنية ويتخذ من الإسلام مبدأً له، ولا يُراد منه التقسيم، وجاء نتيجةً لضياع هوية أهل السنة وعدم إقامة أي مشروع يدعو إلى قيام حكومة هويتها سنية منذ سقوط الخلافة العثمانية.

وفي معرض دفاعه عن الفكرة، قال هاروش في حديث لتلفزيون سوريا: "نحن نؤمن بهذا المشروع، ونؤمن بأن الطرح يجب أن يكون واضحاً ولا داعي لاستخدام مصطلحات لإرضاء الآخرين، وهذا المشروع لا يمثل خطراً على باقي الطوائف ولا هو تقسيم".

وأردف: "نحن نرى أن هويتنا وطبيعة الثورة بالنسبة لنا سنية، وكلمة 'هوية سورية' هي تقرير لتقسيم سايكس بيكو ولا تحمل المفهوم الديني الذي نؤمن به. وعندما نقول 'هوية سنية' فهي تشمل كل سُنّة العالم"، مشيراً إلى أن كل الطوائف في سوريا لديها مرجعيات في العالم تدافع عنها، إلا السُّنّة "لأنها لا تتبنى الخطاب الديني وتتبنى الخطاب الوطني".

تداعيات طرح تحرير الشام لفكرة الكيان السني

ينذر إصرار تحرير الشام على طرح هذه الفكرة بتكريس حالة التجزئة، وتقديم مبررات إضافية لقصف إدلب، علاوةً على تأثير ذلك على موقف المجتمع الدولي تجاه القضية السورية، وزيادة حالة الشرخ بين شمال غربي البلاد وباقي الجغرافية السورية.

وبحسب الباحث أحمد قربي، فإن خطورة هذا الطرح تكمن في إيجاد مبررات فكرية وأيديولوجية لتكريس حالة التجزئة، وتحويل الأمر الواقع الحالي إلى تقسيم مبني على إرادة ورغبة وأيديولوجية فكرية حامية لمشروع التقسيم.

يضاف إلى ذلك أن طرح فكرة "الكيان السني" قد يسهم في استباحة المنطقة، لا سيما أن درس تنظيم الدولة "داعش" ما زال حاضراً، وأظهر أن وجود حاضنة شعبية مؤلفة من بضعة ملايين لا يعني نجاح الفكرة واستمرارها. وبالتالي قد يكون مصيرها الفشل والفناء طالما أنها تستعدي كل دول الإقليم والعالم.

وأشار قربي إلى أن المجتمع الدولي والدول الفاعلة تعد رافضة لمشاريع التقسيم، على الأقل نظرياً، من خلال تأكيدها أن الحل في سوريا سياسي عبر تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، والذي يؤكد أن سوريا يجب أن تكون لكل السوريين وفق مبدأ المواطنة ودون تمييز على أساس العرق أو الدين أو الطائفة.

كما يتوقع قربي أن يزيد طرح هذه الفكرة من الانقسامات داخل قوى الثورة والمعارضة السورية، وهذا الأمر بدأت نتائجه تظهر فوراً، فقد أعرب المجلس الإسلامي عن رفضه لفكرة "الكيان السني"، وكذلك الأمر بالنسبة لمؤسسات المعارضة الرسمية. إلى جانب ذلك، قد يؤدي التمسك بهذه الفكرة إلى انتقال التقسيم إلى الشارع المعارض، خصوصاً أن الفكرة غير مُسلّم بها على مستوى الناس المقيمين في شمال غربي سوريا، الأمر الذي قد يفاقم من عوامل الانقسام بين إدلب وبقية المناطق، خاصة أن الرأي العام لا يميز بين وجود تحرير الشام في إدلب وبين المدنيين المقيمين فيها.

من جانبه، قال الكاتب حسن النيفي إن فكرة الكيان السني تنطوي على خطورة بالغة، فهي تدعو إلى بناء دولة على أساس ديني وطائفي، وهذا نقيض جذري لمفهوم دولة المواطنة التي تدعو إليها وتطالب بها جماهير الثورة السورية.

كما يؤسس هذا الطرح لانقسامات كبيرة داخل المجتمع، ويؤسس لحروب وصدامات بينية من شأنها أن تجعل من سوريا مسرحاً لحروب دامية لا تنتهي، وسيسهم الاستمرار به في تشويه الوجه الحقيقي للثورة، وفقاً للنيفي. 

ورأى النيفي أيضاً أن ذلك سيمنح المجتمع الدولي مبرراً جديداً للعزوف عن القضية السورية، "إذ ليس من المعقول أن يساند مشاريع لجماعات إرهابية، وبهذا لن تكون الخاسرة هي هيئة تحرير الشام فحسب باعتبارها جماعة إرهابية، بل ستخسر ثورة السوريين بشكل عام، لأن الطرح السابق يتضمن نفياً كلياً لجميع مفاهيم الدولة الحديثة، بما في ذلك حقوق الإنسان التي باتت المعيار لمرجعيات بناء الدول".

كذلك، سيكون هذا الطرح باعثاً لتطاحن كبير بين الجماعات السورية المعارضة، إذ سيسهم في عودة الصراع الأيديولوجي بين الأطراف السياسية، وذلك على حساب المشروع الوطني الذي يفترض الخروج من عباءات الأيديولوجيا، بحسب النيفي.

في الختام، يمكن القول إن طرح فكرة إقامة كيان سني في إدلب يثير مخاوف جدية حول تعزيز الانقسام في سوريا وتفاقم الوضع المعقّد أصلاً في البلاد، كما أن الترويج لمثل هذا الكيان لا يخدم الثورة السورية أو طموحات السوريين في بناء دولة جامعة لكل مكوناتها، بل يعمّق الشروخ القائمة ويدفع باتجاه مشاريع انفصالية تتعارض مع جوهر القضية التي ناضل من أجلها الشعب السوري.