انقبض قلب أوليغ فور رؤيته لمذكّرة استدعاء الاحتياط، بعد ساعاتٍ قليلة من إعلان التعبئة الجزئية في روسيا يوم الأربعاء 21 أيلول الماضي، وسرعان ما ألقى الشاب ابن الـ29 عاماً نفسه في اليوم التالي داخل سيارة يقودها باتجاه الحدود مع كازخستان، تاركاً خلفه زوجته التي ستلد بعد أسبوع واحد فقط، لينتهي به الأمر عالقاً في طابور طويل مع عشرات الآلاف من الشبان والرجال الذين يحاولون الفرار، وكان هذا حال الحدود مع جورجيا ومنغوليا كذلك.
في الجانب الآخر من البلاد، انتظر شاب يبلغ من العمر 25 عاماً، ريثما ينتهي ضابط التجنيد في إحدى بلدات سيبيريا من خطبته الحماسية حول الحرب في أوكرانيا، ليرديه قتيلاً بعدة رصاصات بعدها، وفي الأثناء كان رجل آخر يحرق نفسه في مدينة رايازان اعتراضاً على إرسالهم للقتال خارج الحدود، بينما نظّم آخرون احتجاجات ضد قرار التعبئة، فرّقتها السلطات بالقوّة.
يبدو من المغري اعتبار مظاهر الجنون والهستيريا التي أصابت الشبان والرجال من جيلي الثمانينيات والتسعينيات، من ضمن أعراض "توسّع الحدود" التي يقودها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الرجل الذي احتفل بالغناء والهتاف وهو مقبل على العقد الـ70 من عمره، بعد ضم 4 أقاليم أوكرانية إلى روسيا في 30 من أيلول الماضي، لكن الأمر لا يتعلق ببوتين وحده، ويتجاوز حدود صراع الأجيال.
يوجز هذا التقرير تاريخاً يمتد إلى أكثر من 1000 عام، انكمشت وتوسعت خلاله الخريطة الروسية عدة مرات، منذ ولادة هذه الدولة لأول مرة.. على الأراضي الأوكرانية.
التأسيس: أول توسع
في القرن التاسع الميلادي بدأ الفايكنج القادمين من شمال أوروبا تجارةً بالتعاون مع الإمبراطورية البيزنطية، وبازدهار الأعمال أسِّست على الطريق عدة مراكز تجارية على شكل إمارات، وأنشأ أمير من الفايكنج يدعى روريك إمارة خاصة به كان اسمها "نوفوغورود"، ستحكم أسرته لاحقاً الإمارة الروسية لأكثر من 8 قرون.
وبعد نحو عقدين فقط على تأسيس "نوفوغورود"، قام وريث العرش أوليغ بالتوسع عام 882، وضم إمارتين مجاورتين هما "سمولينسك" و"كييف" (في أوكرانيا حالياً)، وأعلن قيام إمارة "كييف روس"، والتي تعتبر الآن البذرة الأولى لنشوء الدولة الروسية.
المغول: دمار العاصمة الأولى
وعلى مدار أكثر من 400 عام لاحقاً، غرقت إمارة "كييف روس" بصراعات مع جيرانها للتوسع ومد النفوذ، فضلاً عن العديد من الحروب الأهلية بين ورثة العرش، حتى أخضعها المغول في القرن 13، وبات الأمراء الروس مرغمين على أخذ تصريحات من المغول تأذن لهم بحكم بلادهم، فضلاً عن دفع الجزية، واستمر الأمر على هذه الحالة حتى القرن 16.
أكثر ما يميز هذه الفترة، هو صعود إمارة "موسكو" وازدهارها وتوسعها، حتى أصبحت العاصمة الجديدة عام 1325، وأخذت على عاتقها توحيد الأراضي الروسية، التي بات يتنازعها الغزاة من كل الجهات، وفي عام 1386 دمّر المغول موسكو لأول مرة بعد معارك مع أميرها الذي حاول قيادة تحالف لمواجهة المغول.
روسيا القيصرية: إيفان الرهيب
بعد سقوط القسطنطينية على يد العثمانيين عام 1453، اعتبرت إمارة "موسكو" نفسها وريثة للإمبراطورية البيزنطية، والوصية على المسيحيين الشرقيين، وفي عام 1547 توّج أحد ورثة العرش، والمعروف باسم "إيفان الرهيب" قيصراً لكل روسيا، متمثلاً لقب أباطرة الرومان، الذين كانوا يلقبون بـ"القياصرة"،
واستئنف "إيفان الرهيب" التوسع الروسي بعد قرون من الخضوع، واحتل أراضي كانت تحت سيطرة المغول، وطبق نظاما شديد القسوة وصل إلى درجة قتل ابنه، الذي كان من المفترض أن يرث العرش، وانتهى حكم أسرة روريك على يد ورثة "إيفان الرهيب"، لكن ليس قبل احتلال روسيا من قبل بولندا والسويد ودمار العاصمة موسكو، في الربع الأول من القرن 17.
القرم.. ودمار العاصمة الثاني
على مدار قرون تجنب الروس الصدام مع العثمانيين نظراً لقوة السلطنة، لكن حاجة الروس لموانئ دافئة لا تتجمد في الشتاء، جعلهم يطمعون في شبه جزيرة القرم على الدوام، والتي كانت أراضيَ عثمانية في تلك الفترة.
ما إن شعر الروس بضعف السلطنة العثمانية، حتى شنوا حملة لاحتلال القرم فشلت عام 1737 لضعف وصول الإمدادات، لكن الروس لم يستطيعوا البقاء في مكان واحد، فذهبوا إلى الجهة الأخرى واجتاحوا بولندا عام 1769.
وفي عام 1774 أرغم الروس العثمانيين على الاعتراف باستقلال القرم، بعد أن دمروا أسطول السلطنة، واحتلوا الجزيرة.
واستمر تفوق الروس حتى عام 1812، حين غزاهم نابليون بونابارت، ووصل الجيش الفرنسي إلى موسكو ليجدها محروقة، لأن الروس لم يريدوا ترك عاصمتهم ليستفيد منها الغزاة، ثم فشلت الحملة الفرنسية بسبب الظروف الجوية القاسية في روسيا، التي حطمت أكبر جيش في أوروبا بشكل شبه تام.
التعبئة العامة.. الحرب ضد السلطنة
وخلال أقل من عقدين فقط، عاد الروس لمحاولة التوسع، فاحتلوا أراضي عثمانية جديدة من أبرزها بلغاريا، وأرغموا السلطنة على التخلي عن جزء كبير من الساحل الشرقي للبحر الأسود، وحاولوا احتلال رومانيا والقوقاز لكنهم فشلوا.
أعلن الروس التعبئة العامة، وشكل العثمانيون تحالفاً مع مصر وتونس، وتورطت إنجلترا وفرنسا بالحرب ضد روسيا، وانتهت الحرب بحصار الجيش الروسي في القرم وتدميره من قبل الحلفاء، في معركة سيفاستوبول، عام 1855.
خلال 21 سنة أعاد الروس بناء جيشهم، وتغيرت المصالح والتحالفات الدولية، وعاد الجيش الروسي لاحتلال القرم عام 1877، وأرغم الروس العثمانيين على التنازل عن معظم أراضيهم في أوروبا.
بعد هذا الانتصار، تمادى الروس في أطماعهم لتصل إلى الشرق الأقصى، وحاولوا ضم إقليم منشوريا في الصين، لكن اليابان نافستها عليه، ووجهت ضربة موجعة للجيش الروسي عام 1905، جعلته يكف عن القتال حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى.
نهاية القيصرية.. الأرض السوفييتية المحروقة
في الحرب العالمية الأولى حاول الروس احتلال ألمانيا، في حملتين متتاليتين، كانت نهايتهما دمار الجيش الروسي بالكامل، وإعلان التعبئة العامة لتجنيد الفلاحين، ما أدى إلى نشوب ثورة ضد القيصر شارك فيها الجيش، لتنتهي بذلك روسيا القيصرية.
وبوصول الحزب الشيوعي إلى السلطة في روسيا، تخلى عن أراضٍ لصالح ألمانيا، وانسحب من الحرب العالمية الأولى، وشكل الاتحاد السوفييتي، لكن الصراع مع الألمان اندلع من جديد عام 1941، في الحرب العالمية الثانية.
ضرب زعيم ألمانيا النازي أدولف هتلر روسيا السوفييتية بعنف، فاختار الجيش الروسي الانسحاب على القتال أمام الجيش الألماني، لكنه أحرق في طريقه المدن ودمر السكك الحديدية كي لا يستفيد منها الألمان، وعلى أبواب موسكو، عندما كاد هتلر يطوي صفحة روسيا للأبد، حطم الصقيع الروسي الجيش الألماني، من دون طلقة واحدة، ويستعيد الجيش الروسي المبادرة، ويتقدم باتجاه برلين، العاصمة الألمانية نفسها، ويساهم بإنهاء الحرب العالمية الثانية وخطر النازية.
روسيا تتوسع.. بحجم دولة جديدة
بنهاية الحرب العالمية الثانية، بدأت الحرب الباردة، بين الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو من جهة، وأميركا وحلف الناتو من جهة أخرى، وأدار الطرفان حروبا بالوكالة، حتى سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991، واستقلال دوله عن روسيا.
حتى عام 2004 كان حلف الناتو قد أحاط بروسيا، فالدول التي شكلت سابقاً حلف وارسو، باتت اليوم إما أعضاء في حلف الناتو، أو في الاتحاد الأوروبي، وفي عام 2014، تحرك الجيش الروسي لاحتلال شبه جزيرة القرم التابعة لأوكرانيا، بعد ملاحظة مؤشرات على رغبة كييف في الانضمام إلى حلف الناتو.
في شباط الماضي، شن بوتين حرباً جديدة على أوكرانيا، دمرت البلاد وهجرت شعبها، وبضمه لأراضٍ أوكرانية بشكل رسمي إلى روسيا أول أمس، وسّع بوتين حدود بلاده بنحو 108 آلاف كيلومتر مربع (هذه المساحة أكبر من دولة مثل البرتغال مثلاً)، وبكل بساطة، دعا بوتين أوكرانيا لإيقاف الحرب التي أشعلتها عام 2014، بحسب تصوره.