يترقب سكان شمال غربي سوريا منذ نحو أسبوعين، نتائج الصراع الدائر بين "هيئة تحرير الشام" من جهة، وفصائل في الجيش الوطني السوري من جهة أخرى، وما ستؤول إليه محاولات الهيئة الحثيثة لبسط سيطرتها على منطقة شمال شرقي حلب، والتحكم بالموارد الاقتصادية وإدارة دفة الحياة المدنية، ما يعني بشكل أو بآخر إقصاء المؤسسات المحسوبة على المعارضة السورية، سواء العسكرية أو المدنية، كالجيش الوطني والحكومة المؤقتة والائتلاف.
وفي غضون ذلك، أجرى مسؤولون في المعارضة السورية لقاءً مع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، لبحث آخر تطورات الأوضاع في سوريا، ومعاناة السوريين في البلاد، ووضع اللاجئين في تركيا وباقي دول العالم، وتعثر العملية السياسية بجنيف وسبل تفعيلها، إضافة إلى بحث الأوضاع في الشمال السوري.
وقال الائتلاف الوطني، إن وفداً برئاسة هادي البحرة رئيس الائتلاف، ورئيس هيئة التفاوض السورية بدر جاموس، ورئيس الحكومة السورية المؤقتة عبد الرحمن مصطفى زار وزارة الخارجية التركية في أنقرة، بناءً على دعوة رسمية.
قام وفد برئاسة هادي البحرة رئيس الائتلاف الوطني السوري، وكلًا من رئيس هيئة التفاوض السورية بدر جاموس، ورئيس الحكومة السورية المؤقته عبد الرحمن مصطفى بزيارة وزارة الخارجية التركية في أنقرة، بناء على دعوة رسمية، حيث استقبلهم سعادة وزير الخارجية التركية هكان فيدان، كما تم بحث آخر… pic.twitter.com/BE5cqmK3g4
— Hadi Albahra (@hadialbahra) October 3, 2023
وبحسب بيان نشرته المعارضة، فقد ركز الائتلاف والحكومة المؤقتة على ضرورة النهوض بالأوضاع الاقتصادية بالشمال السوري، و"رفع قدرات الحكومة المؤقتة لتقديم الخدمات الأساسية، وتهيئة البيئة الآمنة لتحقيق الاستقرار اللازم لتشجيع الاستثمار وخلق فرص العمل".
تمدد "تحرير الشام" على الطاولة
ما لم تذكره مؤسسات المعارضة السورية في بياناتها حول فحوى الزيارة، وصِف بأنه الأهم على الإطلاق، إذ أفادت مصادر من الائتلاف الوطني لموقع تلفزيون سوريا، بأن رؤساء الائتلاف والحكومة المؤقتة وهيئة التفاوض أجروا في الوقت نفسه لقاءً - لم يُعلن عنه - مع رئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم قالن، ناقش ملف تمدد هيئة تحرير الشام في مناطق نفوذ الجيش الوطني.
مسؤول في المعارضة السورية، مطّلع على مجريات اللقاء، قال في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، إن الجانب التركي أكد أنه لا يسمح بأي تغييرات على الأرض في شمالي سوريا، وتحديداً ما يخص توغل هيئة تحرير الشام في شمالي حلب.
وأضاف المسؤول أن "وجهة نظر الجانب التركي بأنهم يمنعون أي تحركات رسمية للهيئة في شمالي حلب، إذ تقتصر تلك التحركات على الأدوات وعناصر من الهيئة يعملون تحت غطاء المجموعات المحلية المدعومة منها مستغلة الخلافات بين الفصائل في الجيش الوطني".
ووفقاً للمسؤول، فإن اللقاء لم يتطرق للتفاصيل الصغيرة الخاصة بالمواجهة الأخيرة بين الجيش الوطني وتحرير الشام، كالخلاف على معبر الحمران، إنما ركّز على "الخط العريض" المتمثل بتوغل الهيئة من إدلب نحو شمالي حلب.
"استراتيجية جديدة"
ناقش الاجتماع مع المسؤولين الأتراك إمكانية توسعة صلاحيات الحكومة المؤقتة بما يخص عمل المجالس المحلية والجيش الوطني السوري، ومن المقرر عقد اجتماعات تشاورية في المرحلة القادمة بين المؤسسات المدنية والائتلاف والحكومة المؤقتة وهيئة التفاوض، لإيجاد آلية عمل واحدة بإشراف تركي، تمهيداً لتشكيل إدارة مركزية ضمن نفوذ الجيش الوطني.
ووفق وصف المسؤول، هناك بوادر للعمل على استراتيجية بالتعاون بين مختلف فيالق الجيش الوطني لمنع تقدم هيئة تحرير الشام نحو ريف حلب الشمالي، ومنع تجدد الصدامات بين التشكيلات العسكرية.
وتلقى مسؤولو المعارضة وعودا من الجانب التركي بالدعم الدبلوماسي في مسارات الحل السياسي، وتحسين العلاقات مع الدول، وبذل الجهود بما يصب في تطبيق القرار الأممي 2254، إضافة إلى الدعم في مجال الخدمات والإدارة في الشمال السوري.
ومن المخطط إيجاد صيغة تعاون أكثر فاعلية بين الجانب التركي ووزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة والجيش الوطني السوري، لفرض حالة تنظيمية ومنح صلاحيات جديدة لوزارة الدفاع، ودمج المجموعات العسكرية الصغيرة بالتشكيلات الرئيسية.
وعند سؤال المسؤول عن التشكيك المحتمل بجدية الأطراف ولا سيما الجانب التركي في منع تمدد تحرير الشام في شمالي حلب، خاصة أن الواقع الميداني لم يشهد بوادر فعلية تدل على ذلك، أجاب بالقول: "الاستراتيجية الرسمية التركية بهذا الخصوص نأخذها من وزير الخارجية ورئيس جهاز الاستخبارات، ولمسنا من الطرفين رفضاً لأي تمدد جديد لصالح الهيئة، وهذا الموقف يمثّل رأس الهرم".
حراك من بوابة "التركمان"
أكدت مصادر منفصلة في الجيش الوطني السوري، أن قائد الفيلق الثاني في الجيش، فهيم عيسى، قاد حراكاً تجاه صناع القرار التركي، لوضعهم في صورة الأحداث الأخيرة، مع التركيز على "خطر هيئة تحرير الشام على المكون التركماني في المنطقة".
ويبدو أن الهيئة تتخوف من الآثار المحتملة لهذا الحراك، لذلك أوعزت لحلفائها في المنطقة بنفي التهم الموجهة لهم باستهداف المكون التركماني، إذ قال قائد تجمع الشهباء الموالي للهيئة، حسين عساف، إن "أجمل ما في الوطن تنوع أطيافه، عربي تركماني كردي وغيره، والأجمل وحدتهم في حب وطنهم وتقديمه على كل شيء، فإقصاء أي مكون هو إقصاء للوطن" وفق قوله.
من جهته نشر تجمع الشهباء، بياناً، ذكر فيه أن البعض يحاول تصوير الأحداث الأخيرة، على أنها "خلاف بين مكونات الشعب السوري لإثارة الفتنة الداخلية"، مضيفاً "أننا كمجتمع سوري كنا وما زلنا إخوة في الوطن وهذا الخطاب الفئوي دخيل علينا".
وقبل نحو شهرين، استقبل دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية (MHP)، الحليف الرئيسي لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا (AK Parti)، فهيم عيسى، قائد الفيلق الثاني في الجيش الوطني.
وأطلع عيسى زعيم الحركة القومية، بهتشلي، على أحدث التطورات في سوريا، وتحدث عن "قضايا الأمن في المناطق السورية التي تم تحريرها من الإرهاب بدعم من القوات المسلحة التركية".
وفي غضون ذلك، قال بهتشلي إنه يتابع عن كثب النضال الذي تقوم به المعارضة السورية وأرسل تحياته إلى "القبائل التركمانية والمجتمعات الشقيقة الأخرى التي تحارب من أجل وطنها في سوريا".
في حين قال عيسى إنهم زاروا زعيم الحركة القومية لـ "التعبير عن إعجابهم واحترامهم لبيه توركمان بي (مصطلح تقديري لكبار شيوخ وزعماء العشائر التركمانية)". وقال: "إنه مصدر ثقة بالنسبة لنا".
وأضاف عيسى أنه يجب أن يطمئن المجتمع التركي في جميع أرجاء العالم بأنهم في الجيش الوطني يخوضون نضالاً يتناسب مع روح الأتراك في سوريا في "مناطق تركمانية عاشوا فيها لأكثر من 1000 عام"، مشيراً إلى أن التركمان في سوريا مرتبطون "بالقلب" مع بهتشلي والرئيس رجب طيب أردوغان.
"تشكيك وعدم جدية"
تلقى المواقف المعلنة عن رفض الجانب التركي لتمدد هيئة تحرير الشام في شمالي حلب تشكيكاً من قبل شريحة من المجتمع في المنطقة، إذ إن تركيا قادرة ببساطة على وضع حد لهذه المسألة لو أرادت، خاصة أنها تتجاهل العلاقة الوثيقة بين فصائل محسوبة على الجيش الوطني، مع هيئة تحرير الشام.
بالمقابل يرى آخرون أن عدم تجانس فصائل الجيش الوطني شكّل بيئة خصبة للهيئة، بمعزل عن موقف الجانب التركي، الذي نشر دبابات وآليات عسكرية في بعض الطرق شمالي حلب لمنع مرور أرتال تحرير الشام، في حين لم تشارك فصائل في الجيش الوطني بمقاومة الهيئة والمجموعات الموالية لها، وعوّلت بشكل مبالغ فيه على تركيا.
وقال قيادي في الجيش الوطني السوري لموقع تلفزيون سوريا: "كرأي وقرار من الجانب التركي، دائماً يُعلمنا أنه مع تمكين الجيش الوطني، لكن هناك بعض المسائل التي تؤدي إلى الميل نحو الطرف الآخر، والآن عادت تركيا لممارسة الضغط على الهيئة لتقليل عدد أفرادها في المنطقة تمهيداً لخروجها منها، لكن مستقبل هذا الملف غير معلوم، إذ لم يعد هناك أي موقف راسخ، وكل شيء قابل للتغيير بأي لحظة، لكن التوجه العام الذي لمسناه من تركيا يشير إلى رفض تمدد الهيئة".
الرؤية المتوقعة لتركيا
قال محمد السكري - مساعد باحث في مركز عمران للدراسات- إنّ تحركات الجانب التركي الأخيرة توحي بوجود نظرة جديدة تجاه التعامل مع الملف السوري بكليته ليتسق مع توجه الإدارة الحالية، خاصةً على المستويين الأمني والحوكمي.
ووفق تقدير "السكري"، فإن عودة رفع سقف اللقاءات على مستوى الخارجية التركية مع المعارضة السورية الرسمية يؤكد وجود اهتمام للتعامل مع التحديات التي خلقتها السياسات القديمة، لا سيما في ظل استياء الناس وصعوبة توفير أرضية لبرنامج العودة الطوعية، فضلاً عن ضعف أداء الفواعل المحلية الذي غالباً ما يعود لأسباب مركبة قوامها ذاتي مرتبط بالصراع على النفوذ والسلطة والاقتتال الأيديولوجي وتقاسم المصالح، وربما هذا توصيف عمّا يجري داخل أروقة الجيش الوطني الذي يعاني من أزمة التماهي مع عقلية "مركزة المؤسسة" وضبط أدوات العنف بدلاً من استخدامها في الاقتتال الذي مهد لتدخل "هيئة أحرار الشام" للمنطقة بدواعي ضبط الأمن.
ورأى "السكري" في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، أن الجانب التركي حريص على عدم تمدد الهيئة أكثر من ذلك في مناطق المعارضة (شمالي حلب) خوفاً من تعزيز "سوداوية" المنطقة لدى المجتمع الدولي، خاصةً وأن هناك توجساً أميركياً-أوروبياً بشأن تصنيفات الهيئة وارتباطها بمجموعات تمثل مشروعاً عابراً للحدود؛ ما يقوض مساعي أنقرة لخلق منطقة منضبطة بصفتها نموذجاً تركياً.
ومن الوارد وجود توجه لتحسين السياسات التركية في الملف السوري، لكن هذا يحتاج إلى مزيد من التواصل والمساحات للمجتمع المحلي، وإعادة النظر بـ آلية الانتخاب في المجالس وتمكين الفواعل المحلية أو حتّى طبيعة الجهاز البيروقراطي في المعارضة كالحكومة المؤقتة التي تحتاج إلى مزيد من الدعم والإصلاح.
ولعل الدافع التركي وراء تلك البوادر يأتي بعد الاقتناع بصعوبة لإيجاد مساحة لرفع مستوى التواصل التقني مع النظام السوري، كذلك الحاجة للتعامل مع ملف "العودة الطوعية" الذي يتطلب توفير بيئة حكومية وأمنية مناسبة.