نشر المعهد الهولندي للعلاقات الدولية "كلينجينديل" تقريراً قدّم فيه رؤية استراتيجية جديدة لإدارة الصراع في سوريا، يدعو صانعي السياسة الغربيين إلى بناء إعادة تصور للصراع، بدلاً من مواصلة الجهود في الانتقال السياسي، الذي اقترحته الأمم المتحدة في العام 2015.
وقال المعهد الهولندي إن البحث عن السلام في سوريا يواجه أزمة عميقة، حيث وصل القتال إلى طريق مسدود، ولم تخرج اللجنة الدستورية من مأزقها على الإطلاق، فيما تعاني مقاربة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، غير بيدرسن، "خطوة مقابل خطوة"، من "الأسس المفاهيمية المعيبة، بالإضافة إلى الاستقبال الفاتر لها"، وفي الوقت نفسه، لا تزال سوريا مقسمة إلى ثلاث مناطق، من المحتمل أن تتباعد أكثر وسط تدهور الأوضاع الإنسانية.
وأوضح التقرير أن هذا الواقع على الأرض، هو بمنزلة علامة لإعادة ضبط السياسة الغربية بشأن سوريا، بما يتجاوز التركيز الحالي على العقوبات والمساءلة والمساعدات الإنسانية، داعياً صانعي السياسة الغربيين، بما فيهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا، إلى "بناء استراتيجية جديدة لإدارة الصراع، تشتد الحاجة إليها وفق ثلاث حقائق أساسية"، وهي:
- تم تجميد الصراع إلى حد كبير، ومن وبقاء البلاد مقسمة إلى مناطق سيطرة متنافسة، تدعمها، أو تشرف عليها، قوى خارجية في المستقبل المنظور.
- المسائل المتعلقة بالشرعية الوطنية وتقاسم السلطة ليست قابلة للحل في الوقت الحالي، ولا يجب ألا تكون ذات أولوية في الوقت الحالي.
- من المرجح أن تكون الجهود الدبلوماسية لتحقيق الاستقرار في سوريا ومنع التقسيم أكثر فاعلية عندما تركز على استعادة الاتصال العملي بين مناطق السيطرة الفعلية، من حيث تدفق الأشخاص والسلع والتجارة والمساعدات الإنسانية والاستثمار والتعليم.
ووفق معهد "كلينجينديل" فإنه من الممكن أن تشكل هذه الاستراتيجية من خلال تفعيل مفهوم "البيئة الآمنة والهادئة والمحايدة"، الذي أقرته الأمم المتحدة، وعبر مجموعة واضحة من مبادئ المشاركة، ورسم خرائط مفصلة لأصحاب المصلحة وأطراف النزاع، والتركيز على تدابير عملية لتحسين الظروف اليومية.
وأضاف أن الهدف من هذه الاستراتيجية هو تمكين عودة دائمة على الحياة الطبيعية نسبياً للسوريين، الذين ما زالوا يعيشون في البلاد، وخلق روابط بين الأجزاء التي مزقتها الحرب، والتي يمكن أن تفتح نوافذ الفرص على المدى الطويل لعملية سياسية تعكس نية قرار مجلس الأمن رقم 2254.
"البراغماتية والحوكمة".. أساسان لتنفيذ الاستراتيجية
وقال المعهد الهولندي للعلاقات الدولية إن تنفيذ استراتيجية إدارة الصراع الجديدة في سوريا يمكن أن تستند على أساسين، الأول "وضع ترتيبات براغماتية متقاطعة"، تسهّل التجارة المدنية والسفر وتعزز الاقتصادات المحلية، وتلبي الاحتياجات التعليمية الأساسية، وتحسن الأمن، وتسهل تدفق المساعدات.
وأشار التقرير إلى أن توسيع التجارة بين مناطق سيطرة المعارضة في شمال غربي سوريا، وشمال شرقها الذي تسيطر عليه "قوات سوريا الديمقراطية"، ومناطق سيطرة النظام، "من شأنه أن يحفز اقتصادات كل منطقة، ويقطع شوطا لمواجهة تحديات الأمن الغذائي الكبيرة".
وكمثال على ذلك، قال التقرير إن تحديات الأمن الغذائي الكبيرة تتطلب خطوات من قبيل الاتفاق على إضفاء طابع رسمي على التجارة والتوسع فيها، عن طريق ترخيص التجار لممارسة الأعمال التجارية عبر مناطق السيطرة المختلفة وتركيا، وإزالة الاعتماد على التهريب والوسطاء، بالإضافة إلى التفاوض للحفاظ على مرافق للتخزين، والتنسيق الأمني لضمان سير العمليات، والاتفاق على نظام جمارك وضرائب مبسّط وشفاف وقابل للتطبيق، يقدم الفوائد لجميع الأطراف.
أما الأساس الثاني، فقد أوضح التقرير أنه يقوم على "تحسين الحوكمة" في مناطق السيطرة المختلفة، دون أن يقتصر على العلاقات بين مناطق السيطرة، بل معالجة القضايا الرئيسية داخلها.
ولفت التقرير الهولندي إلى أن "الترتيبات المتقاطعة للقضايا الرئيسية ستمتد إلى إدارات المناطق المحلية، بسبب متطلباتها الفنية والمتعلقة بالحوكمة، بما يستلزم من القوى المسيطرة تحسين قدراتها وتنظيمها، بما يمكّنها من استخدام ذلك لاستكشاف المكان الذي يظهر فيه جدول أعمال دعم إداري أوسع.
وطرح التقرير مثالاً على ذلك، أداء المديريات الفنية والمجالس المحلية للحكومة المؤقتة في مناطق عمليات الجيش التركي شمالي سوريا، (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام)، حيث يعاني أداء المؤسسات هناك من ضعف بسبب نقص الخبرة والقدرة، فضلاً عن التدخل الإداري للموظفين الأتراك، الذين يتقاضون رواتب مضاعفة مقابل عملهم في سوريا.
وأكد التقرير أن بناء القدرات المدعوم دولياً، على أساس مبادئ الحوكمة الخاضعة للمساءلة، يوفر نقطة دخول للتفاوض بشأن الاستبدال التدريجي للمسؤولين الأتراك بنظرائهم السوريين، ويعزز قدرة وشرعية مؤسسات الحكم المحلي.
الحاجة إلى نقلة نوعية
وقال تقرير المعهد الهولندي إن استراتيجية إدارة الصراع الناجحة القائمة تحتاج ترويجاً اجتماعياً واسعاً، وموافقة الجهات الفاعلة الرئيسية في الصراع المحلي، وموافقة أصحاب المصلحة في الداخل والخارج (اللاجئون)، والأخذ في عين الاعتبار المصالح المحلية والشعبية والمصالح الدولية.
وأضاف أن المجتمع المدني السوري، سواء داخل البلاد أو خارجها، في وضع جيد لبدء خطاب منطقي من دولة ومجتمع منقسمين، ويجد طريقة لتفكيك أنماط "الصديق والعدو" قدر الإمكان بين افراد الشعب السوري، موضحاً أنه للمساعدة في تعميم البيئة الآمنة والهادئة والمحايدة داخل سوريا، يجب تمكين منظمات المجتمع المدني من جميع الجهات الفاعلة والمنظمات المجتمعية المؤثرة، لإنشاء منتديات حوار، ومناقشة الاحتياجات المحلية، وإعداد مبادرات لإدخال الأفكار في المفاوضات الرسمية.
ووفق التقرير، فإنه بغض النظر عن التحديات يجب الاعتراف بالتقسيم الفعلي لسوريا، وقبوله في الوقت الحالي كشرط أساسي لتصميم سياسات البيئة الآمنة والهادئة والمحايدة، والتفاوض بشأنها وتنفيذها، بما يمنع مناطق السيطرة المختلفة من الانجراف إلى الأبد.
واستناداً إلى الواقع على الأرض، وإلحاح الوضع الإنساني في جميع أنحاء سوريا، اعتبر التقرير أن الاستراتيجية الجديدة يمكن أن تصبح "أداة دبلوماسية متعددة الاستخدامات لإدارة نزاع أكثر فاعلية"، يُبعد السوريين عن حافة الفقر والعنف واليأس، ويمكّنهم من البدء في إعادة بناء نوع من الحياة الطبيعية.
تفعيل مفهوم "البيئة الآمنة والهادئة والمحايدة"
وعن تفعيل "البيئة الآمنة والهادئة والمحايدة" في سوريا، قال التقرير إنها تتطلب تفعيلاً تدريجياً، وتحديد العناصر المكونة لها، مع ترك مجال للمناقشة، فيما لخص مفهومها على الشكل الآتي:
البيئة الآمنة: يجب أن يكون الناس في مأمن من الأذى الجسدي والتهديدات غير المبررة من الجهات العسكرية والاستخباراتية والأمنية، ويمكن قياس التقدم في البيئة الآمنة من خلال مراقبة الهجمات العسكرية والعمليات الأمنية وتقارير الضحايا وانتهاكات حقوق الإنسان.
البيئة الهادئة: وهي حالة يتم فيها استيفاء الشروط الأساسية للسلامة، وضمان الأمن الغذائي، والوصول إلى المأوى المناسب، والرعاية الصحية، إلى درجة تسمح للناس بالاستقرار وعيش حياة طبيعية.
ويمكن قياس التقدم فيها من خلال تحليل البيانات المتعلقة بالأمن الغذائي والإسكان والصحة، فضلاً عن البيانات المتعلقة ببناء المنازل وعودة اللاجئين والنازحين داخلياً.
البيئة المحايدة: تشير إلى المعاملة المحايدة للأشخاص من قبل السلطات، أو أي أصحاب سيطرة آخرين، لهم دور في توفير ومنح الوصول إلى الاحتياجات الأساسية؟
ويمكن قياسها من خلال تحليل الوصول إلى الموارد وتوزيعها، والمساعدات الإنسانية في المقام الأول.
"خطوة مقابل خطوة" بازار بلا معايير واضحة
وعن مقاربة "خطوة مقابل خطوة"، قال تقرير المعهد الهولندي إن المبعوث الأممي كان يحاول "كسر الجمود الدبلوماسي"، من خلال استكشاف كيفية بناء عملية سياسية أوسع نطاقاً خارج اللجنة الدستورية، على أساس مجموعة من التنازلات المتبادلة بين الولايات المتحدة وروسيا.
وذكر أنه حتى الآن لم يتم توضيح المقاربة بشكل واضح، على الرغم من وصفها بأنها "بازار"، في إشارة إلى عدم وجود معايير واضحة تحدد طبيعة ونطاق أي تنازلات وفقها، موضحاً أنه على الرغم من أن المبادرة اكتسبت القليل من الزخم، بما في ذلك رفض هيئة التفاوض السورية لها، إلا أنه من المرجح أن يستمر العمل وفقها إذا لم يتم تقديم أي بدائل.
وأشار تقرير معهد "كلينجينديل" إلى أن الغزو الروسي لأوكرانيا "أساء لاحتمالات الدبلوماسية لمقاربة خطوة مقابل خطوة"، التي تعتمد بشكل كبير على الثقة والتفاهم بين موسكو وواشنط، وهو أمر نادر الحدوث حالياً، فيما يؤكد مسار اللجنة الدستورية على إحدى نقاط الضعف لدى الأمم المتحدة، وهي عدم قدرتها على ابتكار آلية فعالة وعملية لإدارة الصراع السوري.
للاطلاع على التقرير كاملاً هنا