"لم أصدق الخبر اعتقدت أنه إشاعة، أعدت قراءته نحو عشرين مرة حتى جاء المسؤول عني وأخبرني أن مرسوم التسريح شملني".
هكذا عبر منير عن لحظة تلقيه خبر تسريحه من قوات النظام السوري؛ منير خريج جامعي وتم سوقه للخدمة الإلزامية فور تخرجه، وتم اعتباره كصف ضابط وقضى في الخدمة الإلزامية حين صدور المرسوم ما يقارب الست سنوات ونصف.
خسر منير ست سنوات ونصف من عمره دون أن يستطيع التقدم خطوة واحدة، لم يستطع الحصول على خبرة في مجال دراسته وفي نفس الوقت عاش كل فترة خدمته العسكرية مديناً يعاني الفقر وتحطم أحلامه التي رسمها.
وأصدر رئيس النظام السوري بشار الأسد، السبت الفائت، مرسوماً يقضي بإنهاء الاحتفاظ والاستدعاء "للضباط والطلاب الضباط الاحتياطيين" من عناصر جيشه.
ونص الأمر الإداري، بحسب ما نقلت وكالة أنباء النظام "سانا"، على تسريح الضباط والطلاب الضباط المجندين، إضافة إلى إنهاء الاحتفاظ والاستدعاء لصف الضباط والأفراد الاحتياطيين اعتباراً من مطلع تشرين الأول القادم.
تسريح إلى مستقبل مدمر
اليوم يبلغ منير من العمر 35 عاماً وعليه أن يبدأ حياته من جديد في الوقت الذي استطاع أقرانه ممن تركوا البلاد أن يؤسسوا لحياتهم ومستقبلهم.
كان منير قد التحق بالخدمة العسكرية بعد أن عجز عن تأجيل الخدمة أو مغادرة البلاد، وكان لديه أمل بأن سوريا "ستنتصر على الإرهاب وتقضي على المؤامرة الكونية التي يروج لها النظام منذ 12 عاماً"، على حد تعبيره.
يقول لموقع تلفزيون سوريا"رأيت تآمر الضباط علينا ورأيت تآمر النظام على شعبه، ورأيت كيف كان الضباط يسرقون طعامنا بمساعدة عساكر وشاهدت بعيني كيف تتحدث النقود".
وبحسب منير فإنه اليوم لا يستطيع تقبل نفسه وتقبل الواقع المحيط به، فهو رافض لكل ماتم الترويج له خصوصاً بعدما شاهد كيف تتم سرقة مخصصاتهم من الطعام واللباس عدا عن قيام بعض العساكر بالتخلي عن رواتبهم للضابط المسؤول عنهم مقابل البقاء في منازلهم.
يملك منير شهادة جامعية قد تسعفه وتسنده في حال استطاع السفر إلى خارج سوريا أو في حال استطاع البقاء، ولكن ماذا بالنسبة لطارق وهو شاب كان لديه ورشة حدادة ونتيجة لسحبه للخدمة الإلزامية وعدم قدرته على العمل خلال إجازاته القصيرة اضطر لبيع عدته كاملة.
اليوم طارق لم يعد عسكرياً وبإمكانه العودة لمهنته من جديد ولكنه غير قادر على شراء عدة جديدة ودفع تكاليف تجهيز مكان للعمل، عدا عن وضع الكهرباء الذي لا يسمح بالقيام بأي عمل في هذه البلاد.
يوضح لموقع تلفزيون سوريا"أشعر باختلال توازني، اليوم أنا بدون عمل أستطيع العودة والبدء من جديد ولكن من الصعب عليّ تأسيس عملي الخاص".
وفي تقرير بآذار الماضي، قالت منظمة أوكسفام لمكافحة الفقر، إنه بعد 11 عاماً من بدء الحرب في سوريا، بات السوريون يخشون الموت من الجوع أكثر من خوفهم من الحرب، إذ أصبح ستة من كل عشرة سوريين لا يعلمون من أين ستأتي وجبتهم التالية.
وتحولت مهن كالنجارة والحدادة والدهان إلى "مهن بطالة"، حيث يبحث طارق عن صاحب ورشة حدادة ليعمل لديه ربما كصانع بعدما كان لديه عمال وصانعون يساعدونه في عمله، خصوصاً أن تعويض نهاية الخدمة في قوات النظام الذي سيحصل عليه لا يكفيه لشراء ربع المعدات اللازمة لعودته للعمل بشكل مستقل.
صدمات نفسية تصيب المسرحين من قوات النظام
دخول الحمام ليس كخروجه، وكذلك فإن الدخول إلى قوات النظام السوري ليس كالخروج منها وخاصة في سنين الحرب التي عصفت بالبلاد. مجد ممرض كان يعمل في القطاع الصحي، تم سحبه لخدمة الاحتياط ولافتقاره للواسطة والنقود، لم يستطع وضع نفسه في قسم الخدمات الطبية، وجاء تعيينه في قسم الكشف عن المتفجرات والقنابل طيلة ثمان سنوات من خدمته العسكرية. دخل خلالها السجن لعدة مرات بسبب اصطدامه مع المسؤولين عنه وعدم "رضوخه للذل الذي تعرض له" كما يقول.
تسرح مجد منذ سنتين تقريباً ولكنه خضع بعدها لعلاج نفسي ليتعافى من آثار الضرب والتعذيب الذي تعرض له خلال خدمته الطويلة وبعد تماثله للشفاء عاد لمزاولة مهنته كالسابق في محاولة للاندماج من جديد في المجتمع.
يقول لموقع تلفزيون سوريا"عدت للعمل آملاً بأن الحال سيتغير للأفضل ولكن الجيش أفضل مما أعيشه اليوم من ذل ومحسوبيات وأجر زهيد".
مجد اصطدم بالواقع الصحي في سوريا الذي يرسخ المحسوبيات والواسطة والمافيوية وهو الذي اعتقد أنه نجا بحياته لدى تسريحه من جيش النظام.
كثيرون مثل مجد عانوا بعد خروجهم من الجيش من صدمات نفسية نتيجة الواقع الذي عاشوه ونتيجة الواقع الحالي وعدم قدرتهم على التأقلم مع الواقع الحالي، فعليهم محاولة البحث عن عمل يؤمن لهم جواً مقبولاً من الاستقرار النفسي وفي نفس الوقت يعينهم مادياً وهو ما لم يحصل. فمجد يعمل في مشفى حكومي ومشفى خاص ويحاول إيجاد عمل ثالث ليعيل أسرته ويؤسس حياة خاصة به ولكن الضغوط عليه دفعته لترك عمله.
التسريح من قوات الأسد خسارة للبعض
استطاع عدد من المسحوبين إلى الخدمة العسكرية استخدامها كورقة رابحة تغير من واقعهم وتنقلهم من حال لآخر، ولم يتوانوا للحظة عن المشاركة بعمليات التعفيش والسرقة والخطف والاتجار بالسلاح والتهريب وغيرها من الوسائل التي تدر عليهم أموالاً بسهولة ودون مجهود يذكر. وهذه الفئة من عساكر وضباط استغلت موقعها وأماكن وجودها لمحاولة كسب المال وتكديسه.
سامي أحد العساكر الذين شاركوا بعمليات اقتحام المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، والتي تعرضت للقصف وتهجير سكانها، وقام ورفاقه بسرقة ماقدروا عليه بمساعدة ودعم من ضباط مسؤولين عنهم واقتسام الغنائم في نهاية المعركة، واستطاع بذلك أن يفتح متجراً في قريته لبيع الأغراض المنزلية المستعملة والتي هي مسروقات لسوريين اضطروا لترك بيوتهم وأرزاقهم، وكان سامي يمد هذا المتجر بكل ما تقع عليه يداه من ثلاجات أو أفران غاز أو عفش منزل كامل وحتى ملابس مستعملة، وفي غيابه عن قريته يدير شقيقه المتجر ويبيع هذه المسروقات، واستطاع بذلك أن يجمع ثروة كبيرة نتيجة لذلك.
إتاوات حواجز النظام
ولكن لا يقوم كل العساكر بالتعفيش فيبحثون عن سبل أخرى للاستفادة من هذه الحرب، فيقومون باستخدام واسطة لتعيينهم على أحد الحواجز العسكرية الممتدة على الطريق الدولي بين اللاذقية ودمشق أو الطريق الذي يصل لدرعا أو الواصل للمناطق الشرقية، فكل سيارة محملة بالبضائع تدفع مبلغاً محدداً وفي نهاية النهار يقتسم العساكر مع الضابط المسؤول عن الحاجز هذه المبالغ.
لذلك يأتي قرار التسريح الحالي نقمة على بعض العساكر والضباط الذين شملهم المرسوم السابق فقد انقطع مصدر رزقهم الوحيد من تعب الناس وجهدهم.
ويذكر أنه منذ عامين قامت حكومة النظام السوري بتوظيف عدد من المسرحين من الخدمة الإلزامية حسب مستواهم العلمي في قطاعات مختلفة من الدولة في محاولة لضبط الغضب الشعبي وتخفيف احتقان الشارع، عدا عن إعادة من كان موظفاً لوظيفته السابقة وبنفس الموقع الوظيفي، وكان رئيس النظام بشار الأسد قد أصدر الشهر الفائت مرسوماً يقضي بتسريح عدد من الأطباء والمهندسين الذين يخدمون إجباريا كضباط، وأصدر هذا الأسبوع مرسوماً يقضي بتسريح عدد من العساكر وصف الضباط وفق شروط العمر وسنين الخدمة.