قليلة هي المواد البحثية المحكمة أو الصحفية المرسلة التي تتحدث عن مراجعة قامت بها هيئات أم مؤسسات أحزاب، في المواقع الإلكترونية العربية، سواء أكانت مواقع صحفية أم مواقع تعود لمراكز أبحاث. ففي جوجلة سريعة عبر الإنترنت وجدت أربعة مواد عربية فقط عن الموضوع، الأولى مقالة عن المراجعة في الفكر السياسي الفلسطيني والثانية مقال صحفي من ليبيا والثالثة دعوة لمحاضرة عن المراجعة السياسية في بيروت لبنان، ومادة عن المراجعة تعود لجامعة مصرية.. وما عدا ذلك من مقالات أو أبحاث فهي قليلة جداً وصعبة الاكتشاف..
هذه الندرة في تناول مسألة المراجعة ليست بالأمر المستغرب أو الصادم، فليست الفكرة أصيلة في تفكيرنا ولا في سلوكنا، فنحن العرب كمجتمع لا ننظر إلى الوراء إلا لتمجيد أفراد وأحداث بعينها، أو لمحاسبة أفراد نلقي عليهم اللوم، لو وقعت كارثة أم مصيبة عامة، وكذلك فنحن العرب كأفراد لم نعتد على مراجعة ما فعلناه إلا إذا دفعنا الآخرون لفعل ذلك قسرا، أو في حال وقعت لنا كارثة شخصية لا سمح الله.
ليست المراجعة في زعمي محاكمة ولا إدانة لأشخاص ولا لأحزاب ولا لجماعات، ولا هي دعوة للانتقام لأسباب شخصية أو إيديولوجية، بل هي كشف لمواقف سابقة صائبة، أو خاطئة، في حينذاك، وفي السياق العام للأحداث، لذا فالمراجعة قراءة للخيارات السياسية من زاوية فهمها وفقاً لمجريات الأحداث في زمانها، وليس فهماً لها وفقاً لزمننا الآن، فالمراجعة عموماً هي خُلق يَنمُّ عن تواضع ومسؤولية ورغبة في التقدم نحو الأفضل، وأما المراجعة السياسية فقد تكشف لنا عن مواقف وخيارات وتوجهات كانت صائبة وأخرى لم تكن كذلك.
فالمراجعة بهذا المعنى محاولة كشف ومعرفة لما جرى، وهي في سياق الثورة السورية، حق للشعب السوري الذي دفع الثمن الباهظ وما يزال، ودين له علينا.
مبررات دعوة المراجعة بالنسبة لمسار الثورة والمرحلة الراهنة
وصل الشعب السوري في طريقه للحرية والاستقلال إلى نهاية المرحلة الأولى التي يمكن أن نضع لها أكثر من تاريخ. تاريخ أول محتمل هو إعلان الجولاني عن دولته في إدلب، الإعلان الذي لم تهتم به وسائل الإعلام.
تاريخ محتمل ثان يمكن أن نضعه لنهاية المرحلة، هي القمة العربية التي أعادت النظام الأسدي لاحتلال مقعد سوريا في مجلس الجامعة العربية.
في كلتا الحالتين انتهت المرحلة الأولى للثورة مع أدواتها دون الوصول إلى المحطة المنشودة، محطة الحرية والكرامة والعدالة، ولم تنتهِ رغبة الشعب في الوصول إلى المحطة، إنما لا بد من أخذ استراحة لالتقاط الأنفاس والبحث عن عربة جديدة لإكمال الطريق.
عربة لن تكون تلك التي نالت منها الأعطال، التي أخذت الشعب إلى محطة أخرى بل محطات ليس من بينها محطة الحرية والعدالة والكرامة. والأهم عربة يقودها سائق حقيقي تكون وجهته ذاتها وجهة الشعب السوري، أي محطة الحرية والعدالة والكرامة.
وبناء على ما تقدم فمراجعة للمرحلة الأولى من الثورة السورية واجبة للأسباب التالية:
أولا- هي حق للشعب الذي قدم تضحيات هائلة، لا مثيل لها في تاريخه، على شكل كشف حساب يقدم لهذا الشعب.
ثانيا- هي واجب علينا إن أردنا الاستمرار في طريق الحرية والكرامة والعدالة، كيلا نكرر الأخطاء عينها.
ثالثا- هي خدمة نقدمها للأجيال القادمة إن أرادت إعلان ثورتها، كيلا تقع في عين الأخطاء التي ارتكبناها.
عقلنة المسار وقوننته
عندما يمتد الزمن بفرد أو مجتمع مصمم على إنجاز عمل جذري مصيري فغالبا ما يميل الإنسان أو المجتمع للتعب وللإرهاق، لذلك يعمد الناس لتقسيم هذا العمل إلى مراحل، فالشعور بالتراكم والقِدم والتكرار يفقد الإنسان حماسه.. لذا فنحن نحتاج لوقت مستقطع نرتاح فيه ونراجع ما قمنا به وما أنجزناه وما خسرناه. بعد ذلك نعمد لوضع خطة للمرحلة الثانية من العمل.
فمن الصعب والخطير إكمال مسيرة حفّت بها عوائق موضوعية وأخطاء ذاتية، لزمن يزيد عن العقد، دون أن نجري وقفة لمراجعة المسيرة وتقييم لها ومعرفة سبب تعثرها وإجراء اللازم من إصلاح واستبدال لإكمال الطريق.
فلا يمكن إكمال مسيرة تستغرق زمناً طويلاً دون أن تواجهنا مشكلة نفسية وأخرى تقنية:
من الناحية النفسية فالتراكم الذي يسبب الضغط المستمر يؤدي إلى انفجار الذات الحاملة وربما انحراف عن الطريق باتجاه مسالك ودروب فرعية جانبية، من الناحية التقنية فاختلاف الظروف والتحديات يقتضي عقلاً استبدال الأدوات والأساليب. لذا يصبح من المنطقي والواقعي تماما اللجوء إلى تجزئة المهمة - مسيرة الثورة، وتحديد ماهية العمل وأدواته في كل مرحلة من المراحل- أو على الأقل في المرحلة التالية- الأمر الذي يمنحنا طاقة متجددة وأفكارا جديدة.
هل الدعوة للمراجعة دليل على إخفاق مسار ما؟
ليس بالضرورة، وإن كان الأمر بالنسبة لنا كسوريين معارضين وثائرين يصبح ملحاً مع الأزمة التي انتهت إليها الثورة والحرب واللجوء، ومحاولة تصفية القضية السورية، ومعها تصفية الشعب السوري، ومحاولات تقسيم سوريا، وإعادة تعويم النظام الذي تسبب بأكبر مأساة في تاريخ الشرق الأوسط، كأنما مكافأة له على دوره في مشروع "الفوضى الخلاقة" الذي بدأ الحديث عنه منذ ولاية بوش الابن..
المراجعة تصبح أكثر من ضرورة، عندما يتعلق بها مصير شعب ووطن. لكن حتى لو نجحنا في تحقيق أهداف الثورة وأقمنا دولة العدالة والحرية والكرامة، لتوجب علينا إجراء مراجعة معمقة للمسار من أوله إلى آخره، لاكتشاف مكامن الإبداع والتقليد والإخفاق والنجاح واستخلاص الدروس التي ستتعلمها الأجيال القادمة، التي لو قررت القيام بثورة أو إصلاح في المستقبل، سيكون لديها خبرة ودروس من ثورة الأباء فلا تقع في الأخطاء عينها وتتجنب المطبات التي وقعوا فيها.