لا داعي لأن تعرف من هو صاحب اليوميات التي أصدرها اتحاد الكتاب العرب بدمشق مؤخراً تحت عنوان «مذكراتي عن الثورة والقتال»، فمصمم الغلاف لا يذكر اسم الشيخ الملتحي الذي تتصدر صورته الكتاب، رغم أن التصميم لم يغفل عن منح مكان بارز لجملة: «تحقيق وتحرير وتقديم: د. فاروق اسليم». لكن هذا الخطأ الفني ربما كان أيسر ما وقع في إصدار الكتاب من مشكلات يرجع بعضها إلى اهتراء المؤسسات الثقافية لدى النظام خلال سنوات الثورة، ويعود أكثرها إلى ظروف خاصة بهذه المذكرات، جعلت من نشرها رواية نموذجية من قصص الصراع السوري الذي انفجر عام 2011.
بدأت الحكاية عندما عمد بعض كبار مجاهدي الثورات السورية ضد الفرنسيين إلى توثيق رواياتهم للأحداث التي شاركوا فيها، وكان الشيخ سعدون من أبرز هؤلاء، بحكم تاريخه كقائد للمنطقة الأولى في ثورة الشمال التي ارتبطت باسم الزعيم الوطني إبراهيم هنانو. وبما أنه ممن قاتلوا الانتداب، في أعوام متقطعة، منذ 1919 وحتى 1945، كما وثّق بالتفصيل في مذكراته هذه التي أنهاها في آب 1953 بخط يده. وتم نسخها على الآلة الكاتبة، والاحتفاظ بها في جهات حكومية عديدة كالمتحف الحربي، ومركز الوثائق التاريخية، ولدى السعدون نفسه. الذي لم يكن قريباً من حكم البعث وليس من رجال الاستقلال المفضّلين عند حافظ الأسد، فظلت مذكراته في مهجعها حتى وفاته عام 1980، وما تبعها فوراً من نكبة أصابت العائلة باتهام اثنين من أحفاده بالانتماء إلى الإخوان المسلمين، وزجهما في سجن تدمر الشهير لأكثر من عقد.
من جهة أخرى اهتمت نادين المعوشي، الأكاديمية الفرنسية اللبنانية، بالمذكرات. صوّرتها وزارت العائلة في مدينة سلقين بريف إدلب وحصلت على أوراق إضافية. كتبت عنها بالفرنسية والإنكليزية والعربية، قبل أن يتبلور لديها مشروع تحقيقها ونشرها، بالتعاون مع عمار السمر، الأكاديمي السوري في مركز الوثائق التاريخية. وفي عام 2009، لما حملت الدورة الثانية من مهرجان الزعيم إبراهيم هنانو اسم «يوسف السعدون»، انضم الدكتور فاروق اسليم إلى طاقم العمل، بوصفه ابن المنطقة ومختصاً بالأدب الجاهلي، بهدف ضبط اللغة وتخريج الآيات والأحاديث وأبيات الشعر التي استشهد بها السعدون أحياناً، في حين يتناول زميلاه التحليل والتقديم التاريخيين وترجمة الأعلام وإيضاح الجغرافية.
لم يمض وقت طويل على بدء العمل، وتبادل الوثائق ومشاركتها بين الثلاثة، حتى اشتعلت الاحتجاجات في البلاد وتصاعدت وتحولت إلى حرب. وهكذا انقطعت المعوشي عن زيارة سوريا، ولجأ السمر إلى بلد مجاور، فيما اختطف اسليم لأيام على يد أحد الفصائل الثورية المسلحة، وغادر إدلب، التي كان يشغل منصب مدير فرع جامعة حلب فيها، إلى أحياء هذه المدينة التي بقيت تحت سيطرة النظام.
قدّر الشريكان «الخارجيان»، المختصان في تاريخ سوريا الحديث والمعاصر، المعوشي والسمر، أن الظروف غير مواتية لنشر الكتاب في دمشق
وبدورها انقسمت عائلة السعدون بين أكثرية أيدت الثورة وشاركت فيها بأشكال مختلفة، بينما ترقى أحد أحفاده، وهو مهندس يدعى فادي، من وظائف حزبية ومحلية في سلقين إلى التكليف بمهام محافظ إدلب. وهو منصب سياسي رمزي منذ خروج المحافظة عن سلطة الأسد ووقوعها، على مراحل، تحت حكم «هيئة تحرير الشام» الإسلامية.
قدّر الشريكان «الخارجيان»، المختصان في تاريخ سوريا الحديث والمعاصر، المعوشي والسمر، أن الظروف غير مواتية لنشر الكتاب في دمشق، لأسباب ستتضح بعد قليل، فيما أصرّ اسليم، الطرف «الوطني» الثالث، على الاستئثار بالعمل والمضيّ فيه وتجاوز «العقبات» بالطرق المتحايلة المألوفة سورياً. وبمقدمة من الحفيد قائمقام المحافظ نشر المذكرات بعدما استغنى عن الحواشي التاريخية المطلوبة، مكتفياً بتشكيل كلمات وإحالة أبيات الشعر إلى مظانها مما يسعفه به تأهيله الأكاديمي الأدبي. أما عن المقاطع الحرجة فقرر: «في موضعين أو ثلاثة من المذكرات أحكام متسرعة ومتعصبة، ورأيت إغفالها» (ص 40)!
بالمقارنة مع النسخة الأصلية لما كتبه السعدون يتبين أن المطبوع حذف منها خمس مرات (الصفحات 53؛ 62؛ 195؛ 263؛ 321)
هكذا. دون إشارة واضحة إلى الحذف في أماكنه، ولا إلى حجمه، ولا إلى طبيعة «الأحكام المتسرعة والمتعصبة» التي دفعت إلى مخالفة المعايير العلمية المعتمدة في نشر أي مخطوط.
بالمقارنة مع النسخة الأصلية لما كتبه السعدون يتبين أن المطبوع حذف منها خمس مرات (الصفحات 53؛ 62؛ 195؛ 263؛ 321) ما يتراوح بين كلمة واحدة وصفحة كاملة، تجمع بينها إدانة الشيخ القاسية لمواقف بعض العلويين الذين والوا الفرنسيين ضد الثورة الوطنية. وعلى الرغم من أن منطلقه فيها ليس طائفياً، بدليل استخدامه العبارات الحادة نفسها تجاه من أيد الفرنسيين من السنّة، وهو مما تركه المحقق (الصفحات 50-52 عن بعض وجوه أنطاكية وإقطاعيي حارم، والصفحات 246-249 عن بعض رؤساء قرى جبل الزاوية، وفي مواضع عديدة). وعلى الرغم، كذلك، من ذكر السعدون للشيخ صالح العلي بصيغة الشراكة في السلاح (ص 128)، وإشادته بما فعله «كثير من زعماء العلويين» من موالاة الثورة والترحيب بقائديها إبراهيم هنانو ونجيب عويد في ديارهم (ص 145)، وبدعم دروز إدلب (ص 234، الحاشية 6) للثوار، والتعاون مع سلطان باشا الأطرش (ص 249)، مما نُشر بطلاقة في الكتاب نفسه.
وتتجلى هذه الخلطة من عدم التخصص ومن مراعاة شروط «سوريا المفيدة»، بوضوح، في ما أورده المحقق في مقدمته (ص 12)، عندما يقرر أن هذه المذكرات لم تحظ قبلاً إلا «ببحوث يسيرة»، لا يذكرها، باستثناء «الاهتمام الكبير» الذي أظهره «الباحث آصف شوكت» بها. وذلك عندما رغب الصهر القوي في التحلي بلقب الدكتور وقرر أن يتابع دراساته العليا في قسم التاريخ الذي يحمل شهادته الجامعية، فكلّف من أعدّ له رسالة الماجستير بعنوان «الثورات السورية 1918-1921 في المنطقتين الساحلية والشمالية الغربية: دراسة تحليلية؛ سياسية وعسكرية»، نال بها الدرجة، ثم طبعها في كتاب يذكره المحقق في قائمة مراجعه القصيرة بين حفنة من دواوين الشعر..