قبل عشرة أيام تناقلت حسابات جهادية في سوريا نبأ تنفيذ «أبو عبيدة الحلبي» عملية انغماسية منفردة تخطى فيها خط التماس على جبهة الساحل إلى داخل مناطق النظام بهدف تفجير نقطة عسكرية. لكن التوفيق لم يحالفه فاكتفى بالاشتباك الذي أدى إلى قتل ثلاثة عناصر، أحدهم ضابط، إلى أن لقي مصرعه الذي توثقه صورة معبّرة تُظهر جثة شاب جهادي وحولها بعض عسكريّي النظام وعلى رأسهم اللواء عدنان إبراهيم، قائد الفرقة الثانية.
منذ صباح يوم الجمعة ذاك، في 20 أيار الجاري، ولأيام لاحقة، تصاعدت وتيرة الحماسة لما فعله أبو عبيدة في ظل جمود الجبهات أو تجميدها. فقد اخترق هذا «الليث» التحصينات و«كتب بدمه» ما يتغنى به الآخرون على مواقع التواصل، معلناً أنه «لم يرضخ للاتفاقيات». واستذكر بعض عارفيه أنه «رابط» على هذه الجبهة حتى هاجمت «هيئة تحرير الشام» مقرّه وأخرجت من فيه من سوريين ومهاجرين، تحت تهديد السلاح، تنفيذاً لاتفاقياتها الغامضة المفترضة مع دول وأجهزة مخابرات.
طغت الرمزية العالية للحدث على الاهتمام بالمعلومات التي بدت نافلة. مثل معرفة اسم الشاب، أحمد بن عبد الله العبيد الجربا، من مدينة «السفيرة» بمحافظة حلب. وأنه ينتمي إلى جماعة «حراس الدين»
ورغم ذلك ثبت أبو عبيدة «على هذا الطريق» و«لم يركن إلى الدنيا»، بعبارة مفتاحية في أوساط السلفية الجهادية وسواها. فقدّم كل ما لديه بشكل فردي بعدما تعذر عليه الجهاد الجماعي. «أغار» الشاب في قلب صفوف العدو، و«نكّل» بجنود «النظام النصيري»، فشفى صدور المؤمنين وأغاظ الكفار في زمن «انحراف الموازين».
طغت الرمزية العالية للحدث على الاهتمام بالمعلومات التي بدت نافلة. مثل معرفة اسم الشاب، أحمد بن عبد الله العبيد الجربا، من مدينة «السفيرة» بمحافظة حلب. وأنه ينتمي إلى جماعة «حراس الدين»، الفرع السوري لتنظيم القاعدة، أو منتم سابق لها على الأقل، طالما أن الجماعة لم تتبن العملية رسمياً. وربما فضّلت عدم الإفصاح لتجنب الصدام مع «الهيئة» التي تصرّ على الإمساك بقرار الحرب والسلم في المناطق التي تحت سيطرتها، وتحذر من عواقب «فوضى» إشعال الجبهات بناء على الحماسة الجهادية. أما المعلومة التي لقيت أكبر قدر من التجاهل فهي أن المجاهد «الفرد» لم يكن فرداً في حقيقة الأمر. فقد أفاد مطّلعون أن العملية نفذها انغماسيان؛ ثانيهما أبو الطيب الشامي الذي نجا وعاد.
إذ إن أي تنسيق وتعاون، ولو على هذا المستوى الضيق، يخدش تراجيدية المشهد الذي يجب أن يحتله رجل واحد، «مُسعِر حرب» أو «بطل من هذا الزمان». وبما أن كل الأزمنة الراهنة «رديئة» وفق معايشيها، وقد تسرّب «الزمن الجميل» في غياهب ماضٍ ما؛ فليس أمام «الكريم الحر» إلا الخيارات الاستشهادية أو نظيرها، طالما أنه «ليس له عمر» في عالم معقد ومتشابك تخترق صفاءَ توزيع قيمه موازين القوى والمؤامرات والتفاهمات والمعابر والشركات والسجون وحكومة الإنقاذ وارتفاع سعر الدولار وانكماش ربطة الخبز.
إذا كان الشغف بالبطولة الفردية ميلاً إنسانياً بعيد الغور فإنه ينتشر بين شعوب أكثر من سواها، ويرتفع في أوقات الأزمات فوق غيرها. ولعل ما نلاحظه اليوم من تقدير ما فعله أبو عبيدة مؤشر على ما ارتكس إليه جمهور الثورة بعد أحد عشر عاماً مضنياً. فقد تعقدت القصة التي كانت بسيطة في 2011، وأصبحت البلاد موضع تدخل «لاعبين» دوليين، بخمسة جيوش وأربع حكومات ومئات الفصائل، وفشلت محاولات شاقة لتوحيد قوى الثورة رغم أنها أعلنت عن «جيوش» و«جبهات» وغرف عمليات، وازداد غموض المستقبل سنة بعد سنة. وبعد ذلك كله أي خيار أفضل من القفز من المركب والبحث عن الخلاص الفردي، لجوءاً إلى المنفى أو «هجرة إلى الله» يثخن فيها المرء في أعدائه بدل أن يجلد نفسه تبكيتاً؟
في الفيديو الذي سجّله الانغماسي، متضمناً وصيته في أقل من دقيقتين، يبدو شكله شبيهاً بعبد الباسط الساروت، «أيقونة» الثورة كما قيل، الذي رحل بطريقة تكاد أن تكون مماثلة. أما ما فعله أبو عبيدة فيحفر عميقاً في الوعي الجمعي. ففي ظروف مختلفة كلياً كتب أحد أبرز الشعراء العرب في عصرنا، محمود درويش، إحدى أشهر قصائده «مديح الظل العالي». وفيها تتكرر جملة «كم كنت وحدك» التي لطالما أثارت تفاعل الجمهور مع الشاعر الذي يقول: «حطّوك في حجرٍ... وقالوا لا تسلّم/ ورموك في بئرٍ... وقالوا لا تسلّم». فالمحيط «صحراء من كل الجهات»، والقادة «عربٌ أطاعوا رومهم»، والنتيجة أنه «لا برّ إلا ساعداك» للنجاة في هذه اللجّة من «بحرٍ لرايات الحمام، لظلنا، لسلاحنا الفردي».
تنقلب الأيديولوجيات إلى درجة مدهشة، ويعبّر عنها بشر لا يبدون متشابهين، غير أن شيئاً في المركز يطل من ثنايا الأفكار المتناحرة، يقدّر البطولة المخذولة ويشجعها على خاتمتها الملحمية
لم يتغير الكثير إذاً. لا في أربعين عاماً تفصل القصيدة عن العملية الانغماسية، ولا بين حصار «منظمة التحرير الفلسطينية» في بيروت وبين التضييق على «حراس الدين» في محور تلة رشّو في ريف اللاذقية السورية، ولا حتى بين القصيدة العالية لدرويش وبين الكلمات البسيطة لوصية الجهادي. هو العجز نفسُه عن إدارة القضايا، التخبط ذاتُه بين الحلول «الاستسلامية» وبين «النزق الثوري» للعمل الفدائي، التفارق عينه بين معاهدات «السلام» وبين «منكم السيف ومنا دمنا». تنقلب الأيديولوجيات إلى درجة مدهشة، ويعبّر عنها بشر لا يبدون متشابهين، غير أن شيئاً في المركز يطل من ثنايا الأفكار المتناحرة، يقدّر البطولة المخذولة ويشجعها على خاتمتها الملحمية.