قلّما أنبهر بالدول التي تحقق تقدماً اقتصادياً ونهضة تنموية شاملة. بدلاً من ذلك، أجد في قصص نجاح الأفراد والمجموعات إلهاماً أكثر على قدرة الاقتصاد والمجتمع على التطور والنمو.
لا تجذبني تجارب تركيا والصين والهند وكوريا وهولندا والنرويج في الصعود والتنمية، بقدر ما أنجذب لقراءة مبادرات فردية أو جماعية أحدثت تغييرات اقتصادية كبيرة في المجتمع سواء في بلدان متقدمة أو فقيرة.
في مدن وبلدات ريف حلب الشمالي، والخارجة عن سيطرة النظام يتمتع السكان هناك بهامش كبير من الحرية والحركة ويحظى بتنوع ديمغرافي من كل المحافظات السورية وكفاءات لا حصر لها، تتمتع مدينة الباب بحاضنة صناعية، وعفرين بالزراعة، واعزاز بالتجارة، وجرابلس بالمياه.
لا شك أن هناك مشكلات وتعقيدات كثيرة في المنطقة ولكن الأمل في ذلك النموذج المحلي الذي سيتبناه السكان للنهوض في المنطقة، والمبادرات الخلّاقة من قبل كل شرائح المجتمع من صناعيين ومزارعين وتجار ومعلمين وحرفيين ومدنيين، نحو حل المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها المجتمع المحلي.
قد يُنظر إلى هذا الرأي على أنه خروح عن المألوف، وفي غير محله، وقد يثير اعتراضاً من بعض القرّاء، الذين يرون أن الأولوية الأساسية الآن تكمن في تلبية الاحتياجات الإنسانية مثل الطعام والشراب والأمان والصحة كما يوضّح هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية.
مع ذلك، يظل الهاجس الأكبر انقطاع المساعدات الإنسانية، واستمرار جمود المشهد السياسي في سوريا لسنوات أخرى؟ هل ننتظر حلولاً أخرى من المجتمع الدولي؟ أم قيام الساعة؟ فما عسانا نفعل إذا أرسل بريد إلكتروني إلى المنظمّات "دبروا أنفسكم"؟ وقد علمت أن الموارد الاقتصادية زائلة إلا المورد البشري، وأن القيمة الحقيقة في مراكمة الثروة تكمن في العمل وحده، وأن المجتمعات لم تزهر وتنمو بما تحت الأرض، بل بعرق وسواعد أبنائها وأفكارهم.
فلا آسف على ندرة الموارد الطبيعية في ريف حلب وعدم الوصول إليها! بل على فقدان الشغف والرؤية والخطط والمبادرات لإيجاد الحلول، من المجتمع المحلي أولاً وآخراً.
سيبدأ الحل من رحم المعاناة، من فكرة ومبادرة يقوم بها مجموعة من الأفراد. أما المال سيأتي حالما تتوافر تلك الفكرة والقدرة على إدارتها بفعالية عالية.
في عام 2008 أدت الأزمة المالية العالمية إلى تسريح عدد كبير من الموظفين في الولايات المتحدة، فارتفعت معدلات البطالة بشكل ملحوظ. استطاعت مجموعة من الأفراد تحدي الصعوبات وأسسوا منصة "كيك ستارتر" للتمويل الجماعي تهدف لجمع أموال من الجمهور تسمح للمبتكرين والأفراد تمويل أفكارهم وتوظيف أنفسهم في مشاريعهم الخاصة، وجدت هذه المنصة طريقها نحو العالمية، وأصبحت إحدى بدائل التمويل التقليدي، وساعد هذا النموذج في إطلاق عدد لا يُحصى من المشاريع والأعمال حتى اليوم، واضطّرت الحكومات لإقرار تشريعات وقوانين لتنظيم هذه الصناعة المستحدثة بعد ظهور مئات المنصّات.
على المجتمع المحلي في ريف حلب أن يبدأ التفكير منذ الغد بمبادرات تستهدف تحسين الحياة وحل المشكلات التي يعاني منها السكان.
كانت تلك الفكرة من أكبر اقتصاد في العالم، والفكرة التالية من بنغلاديش حيث استطاع محمد يونس إحداث ثورة في التمويل الأصغر عبر بنك "غرامين"، إذ ساعد في تحسين الحياة الاقتصادية لملايين الأشخاص خصوصاً النساء في المناطق الريفية، من خلال تقديم قروض متناهية الصغر للفقراء دون الحاجة لضمانات مسبقة، وقد أصبحت هذه الفكرة نموذجاً يحتذى به في مجال التمويل الأصغر على مستوى العالم.
على المجتمع المحلي في ريف حلب أن يبدأ التفكير منذ الغد بمبادرات تستهدف تحسين الحياة وحل المشكلات التي يعاني منها السكان.
وابتداءً من مسألة تحويل الأموال حيث تفتقر المنطقة إلى البنية التحتية المالية الرسمية والتنظيمية والتي تعوق أعمال التجارة والصناعة بشكل كبير، يمكن إنشاء أنظمة تقنية غير معقدة تعتمد على آلية الدفع عبر الهاتف المحمول بحيث تسمح للمستخدمين تحويل واستقبال الأموال بسهولة مثل نظام "M-Pesa" في كينيا. أو يمكن الاعتماد على العملات الرقمية وتكنولوجيا البلوكتشين التي توفّر وسائل للتحويل المالي الآمن والفعّال من دون الحاجة للبنوك التقليدية، ويمكن تأسيس شركات محلية متخصصة في التحويل المالي ترتبط بأنظمة التحويل الدولية "ويسترن يونيون" و"موني غرام".
وفي مجال التمويل أيضاً، يمكن إنشاء تعاونيات ائتمان محلية، أو صناديق مجتمعية، تعمل على جمع المدخرات من الأفراد أو جمع التمويل من الجمهور وتقديم قروض صغيرة للأعضاء بما في ذلك الصناعيين والرياديين لتقديم منتجات وابتكار خدمات تحل مشكلات محلية في المنطقة.
وفي مجال الطاقة، حيث تعاني ريف حلب من ارتفاع تكاليف الطاقة والوصول المحدود للموارد، يمكن العمل على إنشاء محطات شمسية في المنازل توفّر الطاقة للأسر وتعزز الاكتفاء الذاتي، ونقل الفائض للشبكة الرئيسية، كما يمكن العمل على مشاريع الطاقة الحيوية من النفايات لإنتاج الغاز الحيوي واستخدامه في توليد الطاقة. وتشكيل تعاونيات بين مجموعة من المصانع أو البلدات لإدارة مشاريع الطاقة الكبرى وتوفيرها بتكاليف معقولة، بما يضمن خفض تكاليف الإنتاج.
كل هذه المبادرات تتطلب إرادة وتعاون المجتمع المحلي لتحقيق التغيير المنشود، بعيداً عن انتظار الحلول المعلّبة والقوالب الجاهزة من الخارج.
أما في قطاع الزراعة فيمكن العمل على مبادرات تساعد المزارعين على تحسين الوصول للأسواق، ودعم سلاسل التوريد المحلية لتقليل التكاليف وتحسين الإمدادات الغذائية، والاعتماد على تقنيات زراعية متطورة تتلاءم وظروف المناخ المحلية، وتضمن استخدام التكنولوجيا لتقليل الهدر، وتشكيل آليات ضغط محلية لرفض استيراد بعض المحاصيل الزراعية أو المواد الغذائية المتوافرة محلياً.
وفي إطار تقليل الانبعاثات ونسبة التلوث في الهواء والحوادث في الطرقات من جراء الانتشار الكبير للسيارات والدراجات النارية، يمكن العمل على مبادرات متنوعة مثل: يوم في الأسبوع من دون دراجات أو سيارات، ونشر ثقافة الدراجات الهوائية داخل المدن، وإجراء فحص دوري لإصلاح الأعطال وتقليل نسب الانبعاث والتلوث، والضغط لفرض قوانين صارمة على منح شهادات القيادة والالتزام بمعايير القيادة في الطرقات.
ويمكن تطبيق مبادرات للحفاظ على جمالية البلدة والمدينة، من خلال تنظيف الشوارع والمنصّفات، وإزالة القمامة بشكل دوري من قبل أهالي الأحياء، وزراعة الأشجار والورود، وإجراء ضغوط من الأهالي على المقاولين لتحديد هوية حضرية للمدينة ومعايير تصميم معينة للبناء.
كل هذه المبادرات تتطلب إرادة وتعاون المجتمع المحلي لتحقيق التغيير المنشود، بعيداً عن انتظار الحلول المعلّبة والقوالب الجاهزة من الخارج، أو الاكتفاء بالتذمر من الظروف وإلقاء اللوم على كل شيء.
عسى أن يأتي أحمد الشقيري يوماً ما إلى ريف حلب ليروي قصة أهلها في نفض غبار النزاع والنهوض والمبادرات التي انتشرت لتطوير المنطقة. عسى أن يكون ذلك اليوم قريباً.