البث المباشر
أعادت تركيا فتح المعابر الحدودية مع الشمال السوري في تموز الفائت أمام مرضى السرطان بعد توقف دخولهم لتلقي الجرعات والعلاج بعد زلزال الخامس من شباط 2023 المدمر، استجابة لحملة المناصرة الواسعة التي أطلقتها منظمات وناشطون، وعادت تحويلات مرضى السرطان إلى سابق عهدها، إلا أن رحلة العلاج داخل تركيا مليئة بالمصاعب والتكاليف والبيرقراطية، وهو حمل ملقى على كاهل أجساد منهكة في بلد غريب، في حين تسعى جميعات إنسانية لمد يد العون قدر المستطاع.
يبلغ عدد المصابين بالسرطان في الشمال السوري نحو 3100 حالة، 65 في المئة منهم من الأطفال والنساء، بحسب مديرية صحة إدلب، وبلغ عدد المصابين بالسرطان الذين تلقوا العلاج داخل تركيا 1977 مريضاً في العام الفائت 2023، بمعدل 200 مريض شهرياً وسطياً.
أمام مريض السرطان رحلة شاقة تبدأ من الفحوصات داخل سوريا ثم تقديم طلب التحويل للجانب التركي ليدخل ويتلقى العلاج وينتظر الموافقة من الجانب التركي بحسب معاييره وتقييمه للحالة، وهذا ينطبق على باقي المرضى من الحالات الساخنة والتي لا يمكن علاجها في الداخل السوري. بعد وصول مريض السرطان لتركيا تبدأ المرحلة الثانية الممزوجة بالإرهاق والألم، فتركيا تقدم جرعات العلاج الكيماوي أو الإشعاعي مجاناً لكن احتياجات يومية ترهق المرضى أكثر لأن عليهم تأمين الإقامة والدواء والترجمة والمواصلات والتنقلات الكثيرة ويضاف إلى ما سبق البيرقراطية الشديدة في المستشفيات.
يقول الدكتور بشير السماعيل مدير مكتب التنسيق الطبي في معبر باب الهوى إن إجراءات دخول مرضى السرطان إلى تركيا ميسرة حالياً، بعد أن توقفت لأشهر العام الفائت وزادت صعوبة في فترات محددة من السنوات الماضية، أما الآن فمريض السرطان يدخل إلى تركيا لتلقي العلاج بعد أسبوع من تشخصيه.
ويشرح الدكتور المسؤول في حديث لموقع تلفزيون سوريا آليات وخطوات تحويل مريض السرطان من إدلب إلى تركيا، حيث يتقدم المريض لمكتب التنسيق الطبي بطلب التحويل إلى تركيا وترسل الحالات التي لا يمكن علاجها في الداخل السوري إلى الجانب التركي وبعد الموافقة يمنح المريض "وثيقة علاج سياحية" مدتها 3 أشهر تخوله لدخول المستشفيات وتلقي الجرعات مجاناً.
آلية "وثيقة العلاج السياحية".. مزيد من الصعوبات
بدأت آلية "وثيقة العلاج السياحية" في آب 2021، وقبل ذلك كان المريض المحال إلى تركيا يحصل على وثيقة "الحماية المؤقتة – الكيملك" نفسها التي يحملها اللاجئون السوريون في تركيا والتي تمنحهم حق العلاج والدواء المجاني، وليس لها زمن محدد ولا حاجة لتجديدها.
يعدد مدير المكتب الطبي في معبر باب الهوى العقبات التي تواجه المرضى بشكل عام وهي مرتبطة بالتغير الدوري لقوانين ومعايير الجانب التركي، إذ يشهد المريض أول الصعوبات بمدة سفره التي تبلغ 6 ساعات، أو رفض طلب دخول المريض من دون تبيين الأسباب، وأكبرها عدم سماح الجانب التركي بدخول مرافق مع المريض الذي يزيد عمره على 10 سنوات، ثم يجب على المريض تأمين إقامته وثمن دوائه وتنقلاته بين المدن والمستشفيات التركية، وهذه المصاعب الأخيرة تساعد فيها جمعيات ومنظمات سورية داخل تركيا.
ومدة وثيقة العلاج التي تمنحها تركيا للمرضى المحالين من الداخل السوري مشكلة أخرى، فمدتها البالغة 3 أشهر تجبر المريض على العودة إلى سوريا، ويطلق عليه في هذه الحالة "مريض إجازة"، ولاستكمال علاجه عليه التقديم مجددا بطلب للدخول إلى تركيا، وقبل شهر بات قرار عودة مرضى الإجازة لتركيا بيد لجنة طبية من الجانب التركي، وينتج عن هذه العملية عراقيل وصعوبات وسوء فهم لبعض الحالات. ويضرب الدكتور السماعيل مثالاً على ذلك عندما يدخل مريض مصاب بسرطان في القدم إلى تركيا فيعاينه بداية طبيب عظمية وبعد شهر يجري له عملاً جراحياً ثم يعود المريض إلى سوريا ويبقى شهراً قبل أن يعود إلى تركيا لبدء تلقي الجرعات، لكن الطبيب التركي يكتب له بعد تخريجه من العمل الجراحي بأن المريض أجرى عملية جراحية وعليه مراجعة طبيب العظمية من دون أن يذكر أن المراجعة غايتها استكمال علاج الورم، وفي مثل هذه الحالة على سبيل المثال ترفض اللجنة التركية إدخال المريض إلى تركيا مجدداً لأنها تظن أنه مريض عظمية وليس مريض سرطان.
بالإضافة إلى ما سبق، قال السماعيل إن المرضى يجب أن يتلقوا دواء مزمناً غير مرضى السرطان ويحملون "الكيملك" لأنهم بدؤوا بالدخول وتلقي العلاج قبل البدء بوثيقة العلاج السياحية، وهؤلاء يرفض الآن الجانب التركي دخولهم من دون تبيان السبب.
وتختلف آلية دخول المرضى بين معبر باب الهوى في إدلب والمعابر في ريف حلب الشمالي الذي يضم عدداً من المستشفيات التركية الحكومية المدعومة من الاتحاد الأوروبي، حيث تقيم لجنة من أطباء أتراك المرضى في مستشفى الراعي وتحدد من هم بحاجة للتحويل إلى تركيا، إلا أن مدة الموافقة على دخول المقبولين تطول من شهر إلى شهرين وهذه أضعاف مدة الموافقة من باب الهوى، وبحسب السماعيل نسبة المرضى السوريين الذين يدخلون من ريف حلب الشمالي 10 بالمئة فقط من إجمالي المرضى المحالين في شمال غربي سوريا.
معضلة غياب المرافق
يقدر السماعيل أن 90 بالمئة من المرضى المحالين إلى تركيا هم بحاجة لوجود مرافق معهم، ولا يسمح الجانب التركي إلا بدخول مرافق واحد مع الأطفال دون العشر سنوات، في حين تكمن المعاناة عند الأطفال بين 10 و 17 عاماً بعدم السماح لهم بإدخال أي مرافق بالرغم من اعتبارهم قصراً وفق القانون التركي، وبحاجة لموافقة ذويهم لبعض الإجراءات الطبية أو تلقي علاج ما، ما يتسبب بطول فترة العلاج وتعقيدها.
وتتداول منصات التواصل الاجتماعي وصفحات المنظمات والناشطين المهتمين بهذه القضية مقاطع مصورة ترصد معاناة أطفال مرضى السرطان الذين توقف علاجهم بسبب أزمة "معضلة غياب المرافق" كمقطع نشره فريق ملهم التطوعي في شهر كانون الثاني /يناير من العام الحالي يتحدث فيه والد أحد مرضى السرطان عن أزمة المرافق وتوقف علاج ابنه لشهرين بسبب هذه المشكلة.
كما شارك الناشط دلامة علي في الشهر السابع من العام الفائت مقطعاً يسلط فيه الضوء على قصة الطفل عمر الذي لا يستطيع إكمال علاجه بسبب أزمة المرافق وإغلاق المعابر ما دفعه لمطالبة الرئيس التركي بالتدخل لحل هذه المشكلة.
الإقامة والترجمة ومصاريف التنقل والدواء
يتلقى مريض السرطان في تركيا الجرعات مجانا لكن يترتب عليه مصاريف ليست بالقليلة، مثل ثمن المبيت والإقامة والطعام والمواصلات والتنقل بين الولايات والمدن وثمن الدواء والاستطباب وأجور المرافق والترجمة. هذه التكاليف عند معظم المرضى مستحيلة الدفع، حيث يقبع 90 بالمئة من سكان الشمال السوري تحت خط الفقر، وهذا الواقع المأساوي دفع جمعيات ومنظمات لتأمين أكبر قدر من هذه الاحتياجات.
بعد الاعتصام المفتوح وحملة المناصرة للضغط على تركيا والسماح بدخول مرضى السرطان ووصول أول دفعة منهم في تموز 2023، كان عمار عنتر منسق برنامج الحالات الإنسانية ومتطوعون من الفريق في مدينة أضنة لاستقبال المرضى وتوزيع مساعدات مالية عليهم، لكن عندما لاحظ أن هذه الأجساد المنهكة لا يكفيها مبلغ نقدي ولديها احتياجات كثيرة، فبعضهم كان ينام في حديقة أو مسجد، وآخرون لا يعرفون كيف يتوجهون ولا يتحدثون التركية، ومن هنا كانت فكرة إنشاء دار لمرضى السرطان في مدينة أضنة.
يقول عمار عنتر لموقع تلفزيون سوريا إن الدار التي افتتحت في منتصف تشرين الأول الفائت تستوعب 48 مريضاً وتتألف من 3 طوابق، واحد للرجال والثاني للنساء والثالث للأطفال المصحوبين برجال.
تقدم الدار العديد من الخدمات المجانية مثل الإيواء والإطعام بوجبتين والترجمة والمواصلات وحليب ومستلزمات الأطفال، وفي حال توفر قدرة لدى الفريق فيمكن تأمين أدوية واحتياجات ومساعدات مالية للحالات الأشد احتياجاً.
وتقدم جمعيات إنسانية أخرى الخدمات نفسها لمرضى السرطان القادمين من سوريا مثل دار الحياة في ولايتي عنتاب والريحانية وجمعية الأمل لمكافحة السرطان في ولايات أنقرة وعنتاب وأضنة.
وفي مكتب التنسيق الطبي في معبر باب الهوى منظومة لتتبع الحالات الإسعافية وتسعى لتأمين احتياجات بعض المرضى، لكن بحسب مدير المكتب الدكتور بشير السماعيل فإن عدد المرضى المحولين لتركيا يبلغ 500 مريض شهرياً وهذا يتطلب ميزانية كبيرة، فتكاليف تنقل المريض بين مدينة وأخرى تزيد على الـ 500 ليرة تركية، وأجور المرافق في المستشفى 500 ليرة يومياً، ويعمل في المنظومة 10 مترجمين في ولايات هاتاي وأضنة ومرسين وعنتاب يغطون 95 بالمئة من المرضى.
البيرقراطية تزيد الألم
تروي حنان الحسين معاناة شقيقها خالد المصاب بالشلل والذي أجرى عملية خراجات في فتحة الشرج وشك الطبيب في إدلب بوجود سرطان في المنطقة المصابة وهذا ما أثبتته الخزعة، فطلب تحويله إلى تركيا لتلقي العلاج الشعاعي وأبلغ ذويه بأنه يأمل كثيراً بتحسن خالد لأن المرض اكتشف باكراً وهنالك نسبة كبيرة في القضاء على السرطان.
بعد طول انتظار وآلام شديدة وصل خالد إلى هاتاي التركية، وهنالك بدأ من الصفر حيث قرر الطبيب المختص التركي إعادة الجراحة والخزعة من جديد، ووضع خطة علاج.
تقول حنان في حديثها لموقع تلفزيون سوريا إن البيرقراطية في المستشفيات وغياب الطبيب والانتظار على الدور ومراقبة الجرح في المكان الحساس وتطبيبه، تطلب 25 يوماً من التأخير ما انعكس بشكل مدمر على نفسية خالد الذي خرج من إدلب وهو يظن أنه سيتلقى الجرعة الأولى في يوم وصوله متمسكاً بالأمل الذي زرعه فيه الطبيب السوري.
قصة خالد المؤلمة خففها وجود شقيقه في هاتاي، وقدرة العائلة على دفع أجور الممرضين لتغيير ضمادات الجرح مرتين يومياً وتحمل أجور الدواء والمعقمات والمواصلات.
وبعد وصول نتيجة الخزعة بدأت مرحلة العلاج القاسية، ليفارق المريض الحياة بعد شهرين من الآلام الشديدة في مكان الجرح وتلك الناجمة عن العلاج الشعاعي.
تقول حنان: الآلام الشديدة التي كانت تضرب أخي في كل لحظة وخاصة عند تغيير الضمادات، أدخلت على قلبه الندم بدخوله لتركيا وكان يظن أن بقاءه وموته في إدلب سيكون أخف عليه.
بانة مصري مترجمة متطوعة في فريق ملهم لمرافقة مرضى السرطان، لفتت إلى تعقيد بيرقراطي آخر يتمثل في الإحالات الطبية، حيث يدخل المريض فور وصوله لتركيا إلى مستشفى دورتيول الحكومي في هاتاي أو مستشفى آخر في الولاية، ثم تتم إحالته إلى ولاية أخرى مثل أضنة لتلقي العلاج هناك ويحصل على إحالة مدتها في بعض المستشفيات 3 أيام وفي أخرى 10 أيام، وعندما تنتهي مدة الإحالة يجب على المريض العودة إلى هاتاي واستخراج إحالة جديدة، أو يدفع أجور المعاينة والتحاليل وغيرها.
وكذلك في حال دخل المريض للمعاينة عند طبيب الأورام في مستشفى أضنة - على سبيل المثال - وطلب طبيب الأورام أن يُعرض المريض على طبيب من قسم آخر مثل الداخلية فيجب على المريض أيضاً استخراج إحالة جديدة في كل مرة يدخل إلى قسم مختلف.
وتنطبق هذه القوانين على المريض في حال ساءت حالته واضطر للدخول إلى قسم الإسعاف العاجل، وعليه أن يستخرج أولا إحالة من المستشفى الحكومي الذي استقبله بداية وصوله إلى تركيا في ولاية هاتاي.
تقول المصري لموقع تلفزيون سوريا إن هذا الواقع يطيل من مدة العلاج وقد يتسبب نظام الإحالات بتأخير يصل إلى شهر، ويترتب على المريض إرهاق السفر وتكاليفه.
يروي المترجمون المرافقون لمرضى السرطان لموقع تلفزيون سوريا قصص الوجع والألم، فلكل حالة ولكل عائلة حكاية مختلفة في القهر، كطفل بلا مرافق يبكي كل يوم من الألم وشوقاً لأمه وإخوته وعائلته، وعجزهم عن تسليته لينسى ألمه وشوقه، أو عجوز لا يكاد يقوى على المشي، وغليان قلب أبنائه عليه وهم في إدلب يحول بينهم وبين أبيهم معبرٌ وقرارات ومزاجية أطباء وبيرقراطية شديدة وفقر مدقع، لتكون الجمعيات السورية والمتطوعون السبيلَ الوحيد وغير الكافي لتخفيف مصابهم.
تم إنتاج هذه المادة بدعم من منظمة "JHR - صحفيون من أجل الإنسان".
