مع بداية موجة نزوح أهالي حلب إلى مدن الساحل السوري منذ منتصف عام 2012 وهم ينتشرون بشكل قوي في المنطقة، ناقلين معهم عاداتهم وخبراتهم وتجارتهم وصناعتهم.
تشتهر حلب بنشاط سكانها في المجالات التجارية والصناعية، ويعرف أهالي حلب بنشاطهم الذي يشهد له الجميع. وما إن دخلوا اللاذقية وجبلة حتى تغير شكل الأسواق التجارية من أسواق بطيئة الحركة لأسواق تعج بالناس وبالأصناف التجارية، واستطاع الحلبيون خلال فترة قصيرة من الزمن أن يحظوا برضا سكان الساحل وبالأخص اللاذقية وجبلة.
تجار حلبيون يثبتون أنهم رقم صعب
"راميا" سيدة لاذقانية أربعينية، تفضل التعامل مع التجار الحلبيين على أهالي مدينتها وتبرر ذلك بقولها إن "تعامل الحلبيين أفضل وألطف فالحلبيون يفتحون محالهم منذ الصباح الباكر على عكس أهالي اللاذقية الذين لا يبدؤون عملهم قبل الساعة 11 صباحاً، عدا عن روحهم المرحة وحسن تعاملهم فهم أبناء المصلحة ويعرفون كيف يجذبون الزبائن".
لم يحصر الحلبيون عملهم في مجال واحد، فبدؤوا بالانتشار في محال بيع التوابل والزعتر الحلبي الذي تشتهر به حلب، وغيرهم اختار العمل في مجال الصابون وصناعته، واتجه آخرون للعمل في مجال الألبسة ونقلوا صناعتها للساحل.
"عبدو" تاجر حلبي كان يملك متجراً لبيع الملابس في حلب وعند نزوحه إلى اللاذقية استمر في المجال نفسه، فحاول مع عدة تجار من حلب الاستثمار في مشغل صغير للخياطة وبيع منتوجاتهم وهكذا استطاعوا توسيع عملهم وتثبيت أنفسهم في السوق اللاذقاني.
يقول لموقع تلفزيون سوريا "سوق اللاذقية بطيء الحركة وضعيف ومدينة بحجم اللاذقية لم تمتلك أي مصنع وهو ما حاولنا نقله معنا من حلب، إضافة لأننا معتادون على الربح القليل والبيع الكثير بعكس التجار هنا".
بحسب عبدو هذه أحد الأسباب التي ساعدته هو وغيره على العمل والاستثمار في الساحل. إضافة لمتاجر الحلويات والأكل الجاهز الذي نقله الحلبيون معهم من حلب وساعدهم بذلك حرفيتهم العالية وإتقانهم لعملهم.
نازحون "درجة ثانية" في اللاذقية
يذكر أهالي اللاذقية كيف اختلف تعامل النظام ووسائل إعلامه مع مهجري ونازحي حلب عن غيرهم من المناطق التي شهدت نزوحاً كبيراً لسكانها، وحتى من نزح من أهالي حلب تم تقسيمهم حسب المناطق التي ينتمون إليها، فمن أتى من مناطق شهدت معارك مع النظام ومظاهرات تم حشد معظمهم في المدينة الرياضية مع حجزهم ووضع حراسة دائمة عليهم وسرقة المعونات المخصصة لهم وفرض إتاوات على من يخرج منهم للعمل، ما دفع كثيرين منهم لترك المدنية الرياضية والبحث عن مناطق أخرى ليسكنوها.
أما القسم المتبقي من أهالي حلب فقد شغلوا مناطق الشاطئ الأزرق ومنهم من اتجه لريف اللاذقية القريب بسبب رخص الإيجارات فيه مقارنة بالمدينة، وقلة من المهجرين قصدت مدينة جبلة واستقرت فيها.
ومثلما اختلف تعامل النظام السوري مع المهجرين اختلف تعامل السكان أيضاً، فالتعامل مع ابن مدينة حلب كان مختلفا عن ابن الريف، لأن النظرة السائدة تقول إن من ترك حلب في بداية موجات النزوح هو من مؤيدي النظام، أما من ترك حلب لاحقاً أو أتى من مناطق أخرى فهو حكماً معارض للنظام واضطر للقدوم إلى الساحل لفقر الحال لا أكثر، هكذا كانت النظرة المنتشرة آنذاك.
"نهيدة" سيدة نزحت مع عائلتها إلى اللاذقية في بداية عام 2014 من ريف حلب. لم تجد أي ترحيب أو استقبال كالذي لاحظته تجاه أهالي حلب المدينة من قبل سكان اللاذقية، وكانت تشعر بذلك يومياً كلما ذهبت لشراء حاجياتها أو عند تعاملها مع جيرانها، كما تقول.
وتضيف "في البداية عوملنا بطريقة غير لطيفة، اعتبرنا الجيران غريبين عنهم.. ولكن اليوم بعد انقضاء ما يقارب التسعة أعوام تحسنت المعاملة".
نهيدة تؤكد أنها لم تكن الوحيدة التي شعرت بسوء المعاملة، فهي وغيرها من مهجري مناطق متفرقة شعروا بالتمييز الكبير مثل تأجيرهم بيوت سيئة أو مضايقتهم بعدم إصلاح الكهرباء أو حتى زيارات رجال الأمن التابعين للنظام المتكررة لبيوتهم للتحقيق معهم وضمان ولائهم لنظام الأسد.
أما الإيجارات فكانت عكس المعاملة فتم رفعها بشكل كبير بغض النظر عن خلفية المهجرين السياسية، وبعض أصحاب البيوت رفضوا تأجير أشخاص غير الحلبيين بحجة أن أهالي حلب يدفعون أكثر ولستة أشهر مقدماً.
"راتب" أحد المهجرين عانى كثيراً من موضوع الإيجارات فكل 6 أشهر يزيد صاحب المنزل الأجرة مما اضطره للانتقال إلى ريف اللاذقية بغية توفير المال. وبحسب راتب فإن منطقة الشاليهات في الشاطئ الأزرق والتي كانت أرخص أجرة باتت أغلى بحجة الموسم الصيفي، حيث يتم تأجير الشاليه باليوم الواحد.
ويستطرد "تأجير البيوت بات تجارة رابحة، فأي شخص لديه محل تجاري أو مكتب أو غرفة صغيرة يقوم بتجهيزها بشكل بسيط ويعرضها للإيجار".
تأثير المال والسياسة على النازحين
يبدو أن التمييز يختفي أمام المال والسلطة، فكل نازح ذو نفوذ قوي في النظام أو مقرب منه أو حتى لديه أموال كثيرة، عومل بشكل مختلف وقدمت له تسهيلات أكبر في اللاذقية، فأصحاب رؤوس الأموال ممن قدموا إلى اللاذقية أو جبلة أو طرطوس استقروا في مناطق تصنف من مناطق الأثرياء وهؤلاء لم يعانوا من أي تصرفات عنصرية أو مضايقات طوال فترة وجودهم في الساحل السوري.
"راما" اختصاصية في علم النفس وعملت لفترة من الزمن مع المهجرين القادمين من مختلف المناطق السورية في الساحل السوري، تقول إنها لاحظت كيف تؤثر الخلفية المادية والسياسية على تعامل المستضيفين مع المهجرين، حتى وإن كان المهجرون يدفعون مبلغاً لقاء سكنهم ومعيشتهم ولكن اختلاف المناطق السكنية واختلاف المستوى الطبقي والمعيشي يفرض تغيراً في الوعي وأسلوب التعامل.
وتضيف لموقع تلفزيون سوريا "لن يعامل أي إنسان شخصاً قادماً ومعه كثير من الأموال بالطريقة نفسها التي يعامل بها شخصاً قادماً يطلب المساعدة، وبالطبع تختلف المعاملة من جيدة لسيئة تبعاً لمستوى وعي المضيف".
وحسب راما نتيجة لضيق الحال فمن قدم من المهجرين وخلق فرص عمل تم شكره وتقديم الخدمات له من قبل "الدولة" أولاً وبعدها من قبل الأهالي، وبالطبع هذه الخدمات لم ولن تكن مجانية.
وتوضح أنه نتيجة للحالات التي شاهدتها في واقع المهجرين فإن كثيراً من أصحاب العمل والتجار من سكان الساحل، رغبوا بتوظيف المهجرين لاستغلال حاجتهم للمال وقدرتهم على التحكم في أجرة عملهم، وبهذا تختفي العنصرية والاختلاف السياسي في سوق العمل والمال.