منذ استقلالها عن فرنسا في عام 1946، شهدت سوريا سلسلة من الانقلابات العسكرية كان لها آثار كبيرة على البلد في مجالات شتى، فقد عاشت حالة من عدم الاستقرار السياسي المستمر، بسبب ما شهدته سوريا من تغيير متكرر في الحكومات والقيادات.
وهو ما أدى إلى عرقلة التنمية السياسية والمؤسساتية وأثر على قدرة الحكومات على تنفيذ سياسات طويلة الأمد، علاوة على التدخل العسكري في السياسة إذ تعززت سيطرة الجيش على الحياة السياسية، وأدى ذلك إلى تهميش المدنيين والأحزاب السياسية.
وأصبح الجيش هو القوة الحاكمة الفعلية في البلاد، وتسبب ذلك بانهيار حلم الديمقراطية والحكم المدني الذي كان أساساً للثورة ضد الاحتلال الفرنسي.
استُخْدِمت في تلك المرحلة القوة لفرض السيطرة ومنع المعارضة. وشهدت انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية والتعذيب والقمع العنيف للاحتجاجات، كذلك أثرت الانقلابات سلباً على الاقتصاد السوري، حيث إن عدم الاستقرار السياسي يؤدي غالباً إلى عدم استقرار اقتصادي. فتأثرت الاستثمارات والبنية التحتية والنمو الاقتصادي بشكل عام.
تسببت الانقلابات بتغيرات متكررة في السياسة الخارجية السورية، ما أثر على علاقاتها مع الدول الأخرى. حتى أنه في بعض الأحيان، أدت هذه التغيرات إلى عزلة دولية أو توترات مع القوى الإقليمية والعالمية.
وعلى أن هذه الانقلابات قد أُنهيت بعد استلام حزب البعث السلطة، غير أن ذلك لم يحمِ سوريا من مغبة الاستغلال وكوارث اللا استقرار السياسي، إذ ظهرت الخلافات في داخل العائلة منذ تولي حافظ الأسد السلطة في السبعينيات وهو ما أرخى بظلاله على وضع المواطن السوري منذ ذلك الحين وحتى اليوم.
ففي ثمانينيات القرن الماضي، ظهرت خلافات كبيرة بين حافظ الأسد وأخيه رفعت الأسد، خاصة بعد محاولة رفعت الانقلاب على حكم حافظ في عام 1984 ونفيه على إثر ذلك.
وبعد استلام بشار الأسد السلطة برزت خلافات بينه وبين رامي مخلوف. الذي كان له نفوذ كبير في الاقتصاد السوري، ثم تحولت تلك الخلافات إلى حرب علنية في عام 2020 تبعها تطبيق إجراءات قضائية ضده والسيطرة على أصوله.
يدفع السوريون دوماً ثمن زيادة التوترات في العائلة وحالة الصد والرد وزيادة حدة الخلافات الأسرية، فمن ناحية يتأثر الاقتصاد وينعكس ذلك على السوريين
في الفترة الماضية كان لسيدة القصر الأولى حصة الأسد من تلك الخلافات وفقاً لما أشيع، فقد أرادت أسماء الأسد بحسب تقارير عدة السيطرة على اقتصاد البلاد، فتسببت بتحييد رامي مخلوف والحلول محله.
وبسبب المؤامرات التي تحاك في الخفاء ووجود مثل تلك العداءات في العائلة منذ القدم، يُفتح اليوم باب التساؤلات والتكهنات حول مصير أسماء الأخرس بعد إعلان النظام عن إصابتها بمرض يجبرها على اعتزال الحياة العامة.
إن إبراز وتلميع أحد من المسؤولين المتنفذين أو اختفاءه وتغييبه لم يكن اعتباطياً في سوريا، ولا يتوقع أن يكون كذلك في أي دولة من الدول الأمنية العميقة، ذلك أن خيوط اللعبة كلها يجب أن تكون في قبضة الدولة.
يدفع السوريون دوماً ثمن زيادة التوترات في العائلة وحالة الصد والرد وزيادة حدة الخلافات الأسرية، فمن ناحية يتأثر الاقتصاد وينعكس ذلك على السوريين فيعانون من ارتفاع تكاليف المعيشة، ونقص المواد الأساسية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة.
ومن ناحية أخرى فإن تمكّن أفراد العائلة الحاكمة والمقربين منهم من تقاسم الثروات والسيطرة على الاقتصاد والسياسة والصناعة يعزز الفساد والمحسوبية، ويقلل من فرص التنمية العادلة والمستدامة في البلاد، ويعزز وجود الدولة الأمنية ما يزيد من احتمالية حدوث اضطرابات أو مواجهات داخلية.
لا يمكن تخيل وجود خيارات كثيرة أمام السوريين غير أن الوضع الراهن يضعنا أمام خيارات لا تقل تعقيداً عن الوضع ذاته، فإما تقبل استمرار الحال على ما هو عليه ومسايرة الصراعات الداخلية، ما يعني استمرار الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. أو تغيير النظام الحاكم لإحداث تغيرات سياسية جذرية نتيجة لضغوط داخلية أو خارجية، سواء عن طريق عملية سياسية سلمية أو عن طريق انتفاضة شعبية، وهو أمر أدرك السوريون بالتجربة أنه غير قابل للتحقق بسبب عدم وجود رغبة لدى المجتمع الدولي في ذلك، ما أدى بالضرورة إلى تدخل قوى دولية بحجة دعم الاستقرار في البلاد وهم في واقع الأمر يسعون وراء مآرب سياسية وعسكرية واقتصادية.
يعد المشهد السوري معقداً ومليئاً بالتحديات. تؤثر الصراعات داخل العائلة الحاكمة بشكل مباشر على حياة السوريين، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أي انقسامات أو نزاعات داخل الأسرة الحاكمة يمكن أن تضعف النظام وتزيد من حالة عدم الاستقرار. لكن ذلك لن يعجل في تغييره فالشعب يعاني بالفعل من أزمات اقتصادية وانقسام حاد وغير قادر على الدفع باتجاه التغيير.
عائلة الأسد وأقرباؤهم يسيطرون على المناصب العليا في الحكومة والجيش والأجهزة الأمنية. ويسيطرون على مواقع حيوية تتيح لهم السيطرة على القرارات الاستراتيجية والأمنية.
لا يملك الشعب كثيراً من الأدوات للتأثير على مستقبل البلاد، لكنه يتأثر بشكل كبير بنتائجها. قد يعاني من قمع أشد إذا حاولت الأطراف المتنازعة فرض سيطرتها أو إذا ارتفع مستوى القمع السياسي للحفاظ على السلطة.
لقد تعاملت عائلة الأسد في سوريا مع البلاد بشكل يشبه الملكية الخاصة بالتوريث السياسي، وتعديل الدستور السوري لتخفيض السن الأدنى للرئاسة واحتكارهم العائلي للسلطة، إذ أن عائلة الأسد وأقرباؤهم يسيطرون على المناصب العليا في الحكومة والجيش والأجهزة الأمنية. ويسيطرون على مواقع حيوية تتيح لهم السيطرة على القرارات الاستراتيجية والأمنية.
مع ملاحظة أن تركز الثروة والسلطة في أيدي النخبة القريبة من العائلة الحاكمة، ومنح الامتيازات والعقود والمناصب للأقارب والمقربين، يعزز الولاء الشخصي على حساب الكفاءة، ليستخدمهم النظام فيما بعد لقمع المعارضة وضمان استمرار السيطرة على البلاد.
تتمتع الأجهزة الأمنية بسلطات واسعة وغالباً ما تعمل خارج نطاق القانون لملاحقة المعارضين السياسيين، ويسيطر النظام على مؤسسات الدولة ويحولها لخدمة مصالحه. وهو ما يطيح بمبدأ فصل السلطات ويخلق مناخاً تعمل فيه المؤسسات القضائية والتشريعية بتوجيهات من السلطة التنفيذية، لتخلق دولة أقرب إلى الملكية أكثر من كونه جمهورية ديمقراطية، حيث إن السلطة مركزة في يد عائلة واحدة تتحكم في مفاصل الدولة بشكل شبه مطلق.