مابين الهوية والانتماء ضاع الأبناء

في جولتي المعتادة على مواقع التواصل الاجتماعي ومتابعة ماخلفته الحرب الطاحنة على سوريا اجتماعيا من تشرد وتفكك للنسيج الأسري، آثار انتباهي منشور يسأل عن مصير أطفال سوريين ولدوا خارج سوريا بعد التهجير القسري لعوائلهم ولا يملكون أي أوراق ثبوتية تثبت أنهم سوريون؟ لاسيما أولئك القاطنين في تركيا إذ لا يملك إلا ورقة مشفى تشير إلى أنه ولد فيها ولا تحمل إلا اسمه واسم أمه فقط، وفيما بعد يتم استخراج بطاقة حماية مؤقته لا تعتمد على ثبوتيات تؤكد أنه سوري سوى تصريح الأم والأب قوليا لاسيما في الفترة الاولى من اللجوء حيث هجر الكثير من الأهالي دون أن يحملوا معهم أوراقهم الثبوتية والبعض فقدها بالحرب وتدمير المنازل وتم تسجليهم بناء على السؤال الشفهي.. اسمك . مواليدك.. من أين أنت؟ وفيما بعد تم تسجيل الأبناء الجدد على هذه المعطيات من خلال تصريحات الأبوين، ليتم توثيق اللاجئ لدى الدولة المضيفة وفق معاييرها، وبالوقت ذاته لا تشكل أمنا كافيا في الأصل فيما لو تم الحصول عليها إذ يمكن أن تسحب ويرحل هذا اللاجئ بأي وقت ليعود لنقطة الصفر مجهول الهوية، فهي لا تعتبر مصدر توثيقي حقيقي يحفظ مواطنة وسورية هذا اللاجئ في بلاده، هي فقط وثيقة تثبت إقامة هذا الشخص لدى هذه الدولة مرتبطة ببصمته أيا كان اسمه، إلا من أسعفه الحظ وحصل على الجنسية ليعتبر مواطنا بتلك الدولة، عدا ذلك ما من شيء يثبت لهذه المولود الجديد أنه سوري الأصل.

الأسوأ حظاً هم أولئك الذين لا يملكون حتى هذه البطاقة (الحماية المؤقتة)، هم ليسوا مجهولي الهوية والجنسية فحسب إنما لا وجود لهم أصلا في سجل الأحياء. ما مصير هؤلاء الأطفال الذي غدا منهم شبانا اليوم؟ لاسيما في ظل الأحداث الأخيرة التي تمارس على السوريين من عنصرية مقيته يعقبها الترحيل، بالإضافة إلى توقف أغلب الولايات التركية عن منح الحماية المؤقتة أضف إلى إلغاء العديد من بطاقات الحماية المؤقتة؟

على من تقع المسؤولية؟ على الدولة الأم التي لم تحفظ حق المواطنة والهوية والجنسية لشعوبها ببلاد المهجر من خلال فتح أبواب سفاراتها وقنصلياتها لتسجيل هؤلاء المواليد لديها دون الوقوف على أبوابها وممارسة كل أنواع القهر والإذلال ونهب للأموال ليحظى بدور أو موعد، عدا التكاليف الباهظة التي يعجز عنها هذا اللاجئ.

أم على الأهالي الغارقين في الجهل والإنجاب العشوائي في ظل ضيق العيش والتقصير في تسجيل أنفسهم أولا ومن ثم مواليدهم ضاربين عرض الحائط مصير هؤلاء الأطفال في المستقبل.

هؤلاء الأطفال يعيشون تغريبة حقيقية تتمثل بالوطن والهوية والجنسية تتبعها الحالة النفسية.. وهم من دفعوا ثمن هذه الحرب القذرة بفقدانهم لأبسط حقوقهم وهو وجودهم

أم على الدولة المضيفة؟ فهذا غير منطقي إذ أن أي دولة قامت على تسجيل الوافدين إليها وفق تصريحات اللاجئ واعتمدتها لتكون بمثابة وثائق جديدة تثبت وجودهم لديها.. إلا من تقاعس عن تسجيل نفسه لديها فهي مسؤوليته.. وليس من مسؤولية الدولة المضيفة أن تحصل على أوراقه من دولته الأم. بالمقابل لا يعني أنها غير مسؤولة بالكامل هناك جزء من المسؤولية تقع على عاتقها بعدم فرض وتنفيذ عقوبات صارمة على من يتقاعس في تسجيل نفسه وعائلته لديها.

والسؤال الآن هل يقتصر الأمر على فقدان الهوية والجنسية أم له أبعاد أكبر من هذا وهو الانتماء؟

هؤلاء الأطفال يعيشون تغريبة حقيقية تتمثل بالوطن والهوية والجنسية تتبعها الحالة النفسية.. وهم من دفعوا ثمن هذه الحرب القذرة بفقدانهم لأبسط حقوقهم وهو وجودهم وأنهم أحياء، حروب الكبار وجهل الأهالي جنى ثمارها أطفال لا حول ولا قوة لهم. ربما ببعض الدول الغربية كانت الأمور أكثر تنظيما بالاعتراف بوجود هذا الكائن على قيد الحياة من خلال إعطائه الثبوتيات اللازمة بما فيها شهادة ميلاد جديدة وجوازات سفر كفرنسا على سبيل المثال وإقامات تجدد تلقائيا إلى أن يتم منح الجنسية متى استوفى الشروط لكن هذا يعني للكثير قطيعة مع انتمائه لسوريا كوطن؟

هل لديه ولاء وانتماء لبلده الأم؟ كيف وهو لا يعلم عنها شيئاً ولا يحمل أدنى شيء يثبت جذوره وأصوله، كيف سأغرس بنفسه حب البلد وأعلمه على الخرائط أن هذه البلد هي بلدك الأم جذورك؟ وهو فاقد لكل ارتباط بها، كيف سيقنع أبناء الأشقاء مستقبلا أنهم أقارب ومن جذور واحده وكل واحد يحمل جنسية مختلفة عن الآخر؟ والغريب كان هو ردود أفعال البعض من خلال تعليقاتهم بنكرانهم لأصولهم وتخليهم عن هويتهم وانتمائهم وعدم الرغبة بالعودة بالمطلق وسينسون أنهم سوريون.

الغريب أن نقيم بلداً وننسفها من حياتنا بسبب نظام فاسد أجبر الكثيرين على الرحيل وكأن البلد هي من قامت بتهجير هؤلاء وليس نظاماً وأشخاصاً. الغريب أن نصب غضبنا وسخطنا على تراب نشأنا منه وفيه وتركنا أشخاصاً كانوا سبباً لما نحن فيه من تغريبات وأولها تغريبة النفس والنكران وعدم الانتماء.

أنت ربما فقدت الوطن ووجدته بجهة أخرى ولكنك لا تستطيع أن تلغي البلد وتنسفها، لطالما جذورك منها ومن ترابها ففرق كبير بين الوطن والبلد.

الوطن هو كل ما تجد فيه أمنك وسلامك واحتضانك ربما يكون بدولة أو بأشخاص تأمن لهم وتجد سكينتك لديهم.. بينما البلد هي تلك البقعة الجفرافية التي ولدت عليها ومن ترابها.

كان الأجدر بنا بدلا من رفض وتنكر البعض لسوريته أن يدافع عنها وعلى عراقته ويحارب من كان سبباً لتشرد وفقدان الهوية في بلاد اللجوء

فقدان الهوية بداية لفقدان الانتماء، كيف سيتعلم هؤلاء الأطفال الانتماء وهم فاقدو الهوية، وولدوا على أرض غير أرضهم وعاشوا على تراب غير ترابهم ومنعوا من الحق بإثبات جذورهم الأصلية؟ المشكلة أكبر من أنك أثبت وجودك وعائلتك في بلاد المهجر لأنه مهما علوت وحصلت على الجنسية ستبقى رقم اثنين ولا تعتبر من ذوي الجذور والأصول وستبقى الغريب الذي أتى لتلك البلاد بيوم لاجئ بلا جذور ولا أصول. المؤسف أن البعض يساعد أبناءه على نسيان هذا والتأقلم مع الحياة الجديدة بدلا من غرس المفاهيم والسعي لإثبات جذوره والدفاع عنها لاسيما عندما تكون سوريا التي تعد من أقدم الدول في العالم على مر العصور، من ينكر أن دمشق هي أول عاصمة في التاريخ تعود لأكثر من سبعة آلاف عام؟!

كان الأجدر بنا بدلاً من رفض وتنكر البعض لسوريته أن يدافع عنها وعلى عراقته ويحارب من كان سبباً لتشرد وفقدان الهوية في بلاد اللجوء، فليس العقاب للأرض بل لمن أفسد بهذه الأرض. فهي تبقى جماداً وتراباً وحجارة من دون الإنسان..

الأمر كبير وخطير لا يقتصر على أمنك من ويل الحرب الآن. الأمر يتعلق بأجيال قادمة تحمل في جيناتها من تلك الأرض ولا بد من إيجاد الحلول للحصول على الهوية ليكون لدى أبنائكم انتماء فيما بعد من خلال غرس المفاهيم بحب البلد فمتى أحبوا البلد جعلوا منها فيما بعد وطنا، وهذا لن يتحقق ما لم تتضافر الجهود كلٌ من منبره. الجاليات في بلاد المهجر.. الدول المضيفة.. والأهالي من خلال الوعي والإنجاب المنظم الذي يضمن هوية أبنائهم بالإصرار على تسجيلهم. والضغط على الدولة الأم بتسجيل هؤلاء المواليد من خلال قنصلياتها وسفاراتها المتاحة دون تكاليف ترهق اللاجئ.. فالحرب لا تمنح الدولة الحق بحرمان مواطنيها من هويتهم.