في ظل مشروع التطبيع بين تركيا ونظام الأسد الذي بلغ ذروته مع لقاء وزيري دفاع البلدين في 28 من كانون الأول الفائت بالعاصمة الروسية موسكو، وفي ظل تعاطي وتفاعل الجميع مع هذا التقارب الذي سيتوج بلقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنظيره السوري بشار الأسد، بحسب ما أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، الذي حدّد لقاءه مع وزير خارجية النظام فيصل المقداد، منتصف شهر كانون الثاني الجاري، انشغل السوريون من حيث المبدأ وفي الإطار العام عن التفاصيل والأجزاء، علماً أن مسار أستانا قام أصلاً على تفتيت المسألة وتجزئتها والتعامل معها على أساس التفاصيل.
والمعطيات السابقة تذكرنا كيف تعامل الاتفاق مع الجغرافيا السورية منطقةً منطقةً ومعبراً معبراً وفصيلاً فصيلاً، وبالتالي لا بد اليوم من التساؤل عن مصير كل جزء لا يسيطر عليه النظام من الشمال والشمال الغربي، وسنركز في هذا المقال عن مصير إدلب التي تسيطر عليها "هيئة تحرير الشام".
ربما من الضروري قبل الحديث عن المآلات التي يُمكن أن تواجه مصير إدلب، العودة إلى شهر آذار عام 2015، حيث كان تحرير مدينة إدلب من قبل "غرفة عمليات جيش الفتح" التي كان عمادها الأساسي "جبهة النصرة وحركة أحرار الشام وفصائل إسلامية" وفصائل من الجيش السوري الحر، ولعل الجميع يعلم أنها كانت بدعم قطري بالتنسيق مع تركيا.
وكان الهدف آنذاك حشر "نظام دمشق" في زاوية ضيّقة والتضييق عليه وحرمانه من ثروات إدلب الزراعية أولاً، وكذلك حرمانه من استخدام الطريق الدولي (إم 4) الواصل إلى اللاذقية عبر إدلب، دون إغفال الأهمية العسكرية لعملية التحرير، إذ إن وجود جيش مناهض لجيش الأسد على تخوم محافظة اللاذقية يعد مصدراً آخر للضغط على النظام وحاضنته الموجودة في الساحل السوري.
فيما بعد عمِلت "جبهة النصرة" وكعادتها على افتراس كل الفصائل والقوى الموجودة معها في إدلب والتي كانت شريكة لها في تحرير المدينة بما فيها القوى الإسلامية كـ"أحرار الشام وصقور الشام وأجناد الشام" وغيرها من الفصائل، وتفرّدت وحدها في السيطرة على المدينة.
وبعد عمليات التهجير سواء من درعا أو الغوطة، بعد العام 2017، أصبحت إدلب ملاذاً سكّانياً لملايين المهجرين قسرياً من مختلف المناطق السورية، وهذا الأمر كان لصالح "النصرة" وموضع استثمار كبير بالنسبة لـ"الجولاني"، إذ ساعده في أن يكون تحت يده تجمّع بشري كبير، يكون عائقاً أمام أي هجوم بري أو جوي يطلقه النظام بمساعدة الروس، لذلك رأينا أنَّ جميع الهجمات الجوية التي نفّذها الروس تركّزت على أرياف وأطراف إدلب والمناطق والبلدات التي حولها، لكن إدلب المدينة كان الروس يتحاشونها ليس فقط بسبب التفاهمات مع الجانب التركي، بل ربما لعدم رغبة الولايات المتحدة والغرب بمزيد من المجازر التي ستؤدي إلى موجات هجرة كبيرة.
شكّلت إدلب نقطة خلاف كبير بين تركيا وروسيا التي لطالما تذرّعت بأن إدلب أصبحت ملاذاً للإرهاب، تتحكم فيها "هيئة تحرير الشام" التي تعهدت تركيا ضمن تفاهمات أستانا بتفكيكها، وما زال الروس يطالبونها بذلك..
فيما بعد شكّلت إدلب نقطة خلاف كبير بين تركيا وروسيا التي لطالما تذرّعت بأن إدلب أصبحت ملاذاً للإرهاب، تتحكم فيها "هيئة تحرير الشام" التي تعهدت تركيا ضمن تفاهمات أستانا بتفكيكها، وما زال الروس يطالبونها بذلك، لكن تركيا على ما يبدو تحاول الاحتفاظ بهذه الورقة حتى آخر المطاف، إذ تعتبر محافظة إدلب و"الهيئة" ورقة قوية بيدها ولا يمكن أن تتخلى عنها بسهولة.
الآن وكما هو معلوم، فإنّ "هيئة تحرير الشام" تُحكم السيطرة على إدلب، وعلى الرغم من أن "الجولاني" يحاول دائماً الظهور بمظهر المستقل وصاحب مبادرة ومشروع خاص بعيد عن أي تبعية إقليمية، لكن من الناحية الفعلية الجميع يعلم أنه ما يزال يخضع لأوامر تركية، وربما طبيعة العلاقة بين الهيئة وتركيا تختلف عن العلاقة بين تركيا وفصائل الجيش الوطني.
لكن بشكل أو بآخر لا تستطيع "هيئة تحرير الشام" الخروج عن الأوامر التركية، بدليل محاولة اجتياحها للريف الشمالي مرتين متتاليتين كان آخرها، في تشرين الأول الماضي، عندما دخلت أرتال "الهيئة" إلى عفرين ووصلت إلى مشارف مدينة اعزاز، وعندما أتت أوامر أنقرة بالانسحاب انسحبت بلا أي تردد، وكان هذا بمثابة الاختبار الحقيقي لـ"الهيئة" كاختبار قوة وطاعة وولاء في الوقت نفسه بالنسبة إلى الأتراك، ما يدل على أنها لا تستطيع مهما بلغت من القوة أن تخرج عن الإرادة التركية.
ربما الحديث الآن عن مستقبل إدلب يفترض أن نتعرض ولو قليلاً إلى الكيفية التي يحكم بها "الجولاني" وماذا يريد، فهو يحاول أن يطبق معادلة التوازنات بشكل دقيق، ويريد أن يُوصل رسالة إلى المجتمع الدولي أنه قابل للاندماج في المجتمع والقوى المدنية من خلال ظهوره أكثر من مرة بالزي المدني بعيداً عن زي تنظيم القاعدة، والزيارات التي أجراها خلال الفترة القريبة إلى بعض القرى الدرزية في إدلب وزيارة الكنيسة في جسر الشغور، كلها عبارة عن رسائل موجهة إلى المجتمع الدولي بأنه لا خوف على الأقليات، فهو حاميها وهو غير متمسك بالقاعدة لا فكرياً ولا سلوكياً.
لعل ما ساعد "الجولاني" على ذلك هو الموقف الأميركي، فثمة شك كبير بوجود علاقة سرية بينهما، وما يؤكد هذه العلاقة الكثير من الإحداثيات التي حصلت عليها أميركا حينما استهدفت شخصيات مهمة من تنظيمي "القاعدة وداعش" كان أبرزهم: "البغدادي والقرشي"، ولا يعقل أن تكون "هيئة تحرير الشام" خارج هذه العمليات، والمؤكّد أن هناك رغبة أميركية في أن تبقّى إدلب خارج سيطرة النظام السوري أو الروس، والإبقاء على "هيئة تحرير الشام" لتحقيق التوازنات بما فيها تبرير الوجود الأميريكي في سوريا بذريعة محاربة الإرهاب.
"الجولاني" يعلم أنه سيكون أكثر المتضررين من مصالحة تركيا مع نظام الأسد، تهدّد دوره الذي يتطلع من خلاله ليكون المنسق العام الأمني والعسكري للمنطقة والضامن لتنفيذ كل التوافقات بين جميع الأطراف والأمين عليها. فمعروف عن الرجل البراغماتية حين يكون له دور مضمون ضمن المشروع المخطط، أما في حال تجاوزه ومحاولة إضعافه أو إنهائه فلا بد أنه سيكون معيقاً ومفجراً لأي عملية، وفي حال عدم تجاوزه وإعطائه دوراً في الترتيبات القادمة في المنطقة فسيكون العصا الغليظة في وجه كل صوت يرفض هذه التوافقات، فهو يبحث لنفسه عن موطئ قدم حتى لا يكون خارج اللعبة الدولية، ويسعى لأن يكون خارج التنظيمات المصنّفة على قوائم الإرهاب أو أن تزول عنه هذه الصفة، وهو قابل للاندماج وما ينطبق على فصائل الجيش الوطني ينطبق عليه.
ويبقى احتمال رفض "تحرير الشام" للترتيبات الجديدة قائماً، فهل ستكون في هذه الحالة "الجبهة الوطنية للتحرير" أكثر الفصائل ولاءً لتركيا، هي الواجهة لتنفيذ المشروع التركي، وهذا ما تلمح له "الهيئة" من خلال اتهام "فيلق الشام" الذي يعتبر عماد الجبهة بالتواصل مع نظام الأسد، وهل سيضع "الجولاني" حينها نفسه في مواجهة الفصائل المدعومة تركياً، أم سيقتنع بالانسحاب من مناطق نفوذ معينة لصالح الجبهة، تخدم المشروع التركي مقابل حصوله على مكاسب أخرى في مناطق "درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام" وإقناع أتباعه بأن يكونوا في مواجهة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، وربما يكون هذا بالتوافق مع الجانب الأميركي الذي يريد أن تبقى "قسد" تحت الضغط الدائم.